قراءة في رواية ديفيد فوستر والاس، دُعابَة لا تنتهي Infinite Jest.
في هذه الرواية، التي انتهيت من قراءتها مؤخَّراً بالعربية أثناء فترة وعكة صحّيّة أقعدتني في السّرير، يروي الكاتب عن فيلمٍ مُمتِعٍ للغاية، لدرجة أنَّ أيُّ شخصٍ يشاهد ولو جزء صغير منه سوف يتخلَّى عن أي رغبةٍ في فعل أيِّ شيءٍ آخَرَ في الحياة من أجل الاستمرار في متابعة الفيلم. تتخلَّى جميع الشخصيات التي تشاهد الفيلم في الرواية الشخصيات عن عائلاتهم، وأصدقائهم، ووظائفهم، وحتّى يتوقّفون عن الأكل والنوم، فقط لمواصلة مشاهدة الفيلم.
الثيمة الأساسية في الرواية هو أنَّه من الممكن، سواءً كفرد أو كمجتمع، أن نكون مستمتعين للغاية. أغلب صفحات الرواية التي يتجاوز عددها الـ1000 صفحة تتحدَّث عن سخافة مثل هذا المجتمع وتفاهته. ألَّف والاس روايته هذه في أوائل تسعينيات القرن العشرين، وهو الوقت الذي كانت فيه أجهزة التلفزيون قد بدأت في استقبال عشرات القنوات، وكانت الأخبار تُذاع 24 ساعة في اليوم، وألعاب الفيديو تسيطر على عقول الأطفال الصّغار، كما أنَّ الأفلام التي حقَّقت شعبيّة كبيرة كانت تكسب مبالغ طائلة من المال لم يُسمَع بها من قبل في شبّاك التذاكر كلّ صيف.
في تلك الفترة، كان والاس قد خَضَعَ لتوّه لبرنامج تعافي من تعاطي الكحول والمخدّرات. ولكن على الرّغم من تطهيره أوّل مرَّةٍ في حياته، فقد لاحظ أمراً غريباً: فهو لم يستطِع التّوقّف عن مشاهدة التلفاز.
ويبدو أنَّ والاس قد بدأ يُدرك أنَّ المنافسة على جذب الانتباه أخذَت تتضاعف مع ازدياد وسائل الإعلام. ومع تزايد حِدَّة التّنافس على جذب انتباهنا، لم يَعُد المحتوى مثالياً أو مُحَسِّناً للجمال أو الفَن أو حتّى المتعة _بل بالأحرى تعزّز دوافعه وتثير حوافزه التي تسبِّب الادمان. عندما يكون هناك قناتين تلفزيونيتين، لا داعي للقلق بشأن تقليب القناة إلى أخرى، إذ أنَّها تقدّم أفضَلَ عَرضٍ ممكن. لكن عندما يكون هناك 200 قناة، فجأة تلك القناة يجب أن تفعل كل ما في وسعها لإبقائك مهتمّاً بمتابعتها لأطول فترةٍ مُمكِنَة. تنبّأ والاس بهذه المشكلة قبل عقود، وبفهمه الشخصي للإدمان على أساس تجربته في التَّعافي منه، بدا أنَّه يَعي ثقافة الإدمان التي سنكون قريباً جميعنا جزءاً منها.
اليوم، غالباً ما نخطئ بين وسائل الاعلام المُسَبِّبَة للإدمان هذه وبين التّسلية. هناك بعض الآليات النّفسية في أدمغتنا تخبرنا، "حسناً، لقد قضيتُ للتوّ ستَّ ساعاتٍ أشاهد هذا البرنامج، هذا يعني أنّي أحبّه كثيراً". في الوقت الذي يكون فيه السيناريو مجرَّد هُراءٍ رديء ومَمجوجٍ، ويتمّ التلاعب بك بمسلسلات التّشويق والمغامرات والسيناريوهات السيئة لساعات متتالية بهدف متابعة المشاهدة. خذوا المسلسلات الرمضانية على سبيل المثال، وكمّ الإسفاف والتّفاهة والكَم على حساب الكيف. هل تتذكّرون مسلسل "صرخة روح"، أو "أيام الدراسة"، أو "باب الحارة"، على سبيل المثال وليس الحصر؟ إنَّه زمن الانحطاط الدرامي. وبنفس الطّريقة التي يتم أسرَكَ من خلال التَّنقل عبر وسائل التَّواصل الاجتماعي (فيسبوك، تويتر، إنستغرام...) أكثر ممّا ترغب بها في الواقع، يتمّ أسرُ دماغك لمشاهدة "مجرَّد حلقة أخرى" لمعرفة ما إذا مات البطل أم لا. أنا نفسي علقتُ بهذا الفَخّ أثناء مشاهدتي مسلسل "فايكينغ" و"لعبة العروش"، و"العرّاب: نادي الشرق"، مَثَلاً وليس حصراً.
في وسائل التَّواصل الاجتماعي، حَدَّد الباحثون ظاهرة "إنَّها إدمانٌ، ولكنّي لا أحبّها نوعاً ما" وناقشوها حتّى الموت. ولكن في مجالات الإعلام والترفيه الأخرى، لم نَلحَظ هذه الظاهرة بعد.
إنَّ خَدَمات البَثّ المباشر و(هوليوود) هما المذنبين الواضحين هنا. كم عدد أفلام "عالم مارفل" عن الأبطال الخارقين التي نحتاجها لإثبات هذه النقطة؟ كم عدد العروض السيّئة لحرب النجوم؟ كم عدد مسلسلات وعروض "نتفليكس" الرديئة مع كل حلقة تنتهي بمقطع تشويقي في نهاية كل حلقة؟ الجميع يشتكي من أنّ هوليود لا لَم تَعُد تملك أفكاراً جديدة بعد. أمّا السينما المصرية فمشغولة باستنساخ الأفلام الأجنبية بنسخة عربية أردأ. أمّا الدراما السورية والخليجية والتركيَّة: فَحَدِّث ولا حَرَج. حسناً، هناك سببٌ لعدم ابتكار شيء جديد: وهو إضافة محتوى إلى نفس القصَص البالية يُبقي النّاس مُدمنين على متابعتها (باب الحارة، الهيبة...). إنَّ اللعب المستمرّ على شعور النّاس بالحنين إلى الماضي (المسلسلات والفنتازيا التاريخية) ومَزج الأنواع الكلاسيكية يُعَدُّ طريقة آمنة لضمان نسبة مشاهدة عالية.
لا تختلف الموسيقى كثيراً. فقد وَجَدَت أبحاث السوق حول خدمات البَثّ الموسيقى أنَّ الناس يقضون أوقاتاً أطول في الاستماع إلى الموسيقى القديمة بدلاً من الموسيقى الجديدة، وأنَّ الاتجاه في هذا المَجال يسير إلى الاتجاه الخاطئ. أصبَحَت الموسيقى الشعبيّة في السّنوات القليلة الماضية مُبَسَّطَة إلى درجة أنّها باتت نغمة واحدة أو اثنتين ولحنٌ واحد، يتكَرَّر مراراً وتكراراً لمدة دقيقتين أو ثلاث. لا جوقة. لا يوجد سُلّم موسيقي. ولا تنوّع. مجرَّد خليطٍ لا نهائيٍّ من الأصوات الجذّابة تتكرَّر الواحدة تلو الأخرى.
جزءٌ كبيرٌ من هذا يعود إلى أنَّ اقتصاديّات بثَّ الموسيقى تجعل الفنانين لديهم متحفّزين لعدم ابتكار أغاني أفضل أو إنشاء ألبومات أحسن. ولكن، بدلاً من ذلك، إنشاء أكبر عددٍ من الأغاني السريعة والبسيطة التي تَمنعك من النقر لتجاوز الأغنية إلى الأغنية التالية. لقد خلقت بيئة فنية تقوم على الكَم، حيث من الأفضل أن يكون لديك 200 أغنية رديئة أو متوسّطة قابلة للاستماع، بدلاً من 20 أغنية رائعة.
نفس المشكلة تغزو اليوتيوب YouTube، حيث يستقبل صانعي المحتوى الكبار الملايين من المشاهدين من خلال قيامهم بأمور تافهة مثل فتح ألف صندوق أمازون، أو تحطيم أحدث موبايل، أو إهداء السيارات لأصدقائهم، مراراً وتكراراً. من ناحية، هو لَيسَ بالمحتوى الشيقِ. ومن ناحية أخرى، تجد نفسكَ تنقر بلاوعي على الفيديو التالي، ثمَّ التالي، والتالي، والتالي.
عندما يتمّ قياس كل شيء من حيث نسبة التّفاعل أو المشاركة، سيتمّ تحسين المحتوى من أجل مفاقَمَة الإدمان. ليس القيمة التّرفيهيّة أو الجودّة الفنية، ليس المادّة الفكرية أو الإبداع. مجرَّد إدمانٍ نقيٍ، وواضح. هذا يعني أنَّنا، نحن المستهلكين، نحصل على كمية أكبر من الأعمال الفنية الممجوجة والمُكَرَّرة، والأقل إبداعاً، والأقل إثارةً للاهتمام في حياتنا.
في عالم الفن والموسيقى والسينما والتلفاز، يبدو هذا مزعجاً ومحبطاً حقاً. يتطلَّب الأمر من كلّ واحدٍ منّا التفتيش والبحث لفترةٍ أطول وأصعب للعثور على محتوى جديدٍ وقيّم. ولكن حيث يصبح هذا التَّعزيز للإدمان أمراً خطيراً فهو جزءٌ آخَرَ من الثقافة التي أريد التّحدّث عنه.
خُذْ نَفَساً عميقاً.... إنَّه السياسة.
من الواضح أنَّ الشّعب مُتّفق حول معظم الأشياء في بلداننا، ولكن بطريقةٍ ما تجد أحزابنا السياسية وحكوماتنا طرقاً لفعل أشياء لا يحبها الشّعب. وقد عزا العديد من الباحثين هذا التّناقض بين رغبات الجمهور وتصرّفات الحكومات إلى النظريات حول النظام الأساسي، أو المصالح الخاصَّة الرّاسخة، أو الاستقطاب عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
يُحَفَّز السياسيين أو النّوّاب في المجالس الشعبية أو البرلمانات _كالممثلين، وأصحاب شركات الإنتاج، والمخرجين_ لتوليد المزيد من التّفاعل. لا حاجة لنتائج جيدة. فقط تفاعلاً أكثر، طوال الوقت. لذلك، فإنَّهم لا يتوجَّهون لإنتاج سياسات ذكيَّة، أو قوانين منطقيَّة، أو حلولاً وسط بارع، بل للجذب انتباهنا لأطول فترة ممكنة. لاحظوا برامجنا، والسياسيين أو المحللين الذين يطلّون علينا فيها، جميعهم يتحدّثون عن يوتوبيا قادمة لا محالة، بينما سياسة التسويف تسيطر على كل شيء. لا شيء ممّا يقولونه موجودٌ على أرض الواقع.
لقد تَنَبّأ ديفيد فوستر والاس بذلك أيضاً. فرئيس الولايات المتّحدة في رواية "دعابة لا تنتهي" هو مغني بوب سابق مهووس بتصنيفاته على التلفاز، ويعتقد أنَّ النقاشات السياسية مُملّة وسقيمة، ويخوض الحرب مع كندا على أساس جودَة صوره في زيّه العسكري المُمَوَّه. تتفشّى الجماعات الإرهابيّة لأنَّ ساحة المعركة ليست من أجل الأراضي أو الموارد، بل من أجل العيون والعناوين الرئيسية.
وفي النهاية، لا أحد يستطيع يلفُتَ انتباهنا سوى أنفسنا. يمكننا أن نغضب من نتفليكس أو قناة تلفزيونية أو البرلمان. ولكن هذه الأنظمة في نهاية المطاف عبارة عن انعكاسات فضفاضة لعادات اهتماماتنا التي تسطع في طريقنا. نغيّر اهتماماتنا، فتتغيَّر الأنظمة. هناك قولٌ مأثورٌ بأنَّ الناس "يصوِّتون بأقدامهم". حسناً، اليوم يحتاج المرء إلى التصويت بعينيه مع شاشة أو جهاز لوحي أمامه.
لا تشاهدوا الحلقة القادمة من ذلك المسلسل الرديء والسقيم، والمَكتوب بطريقة سيئة، والذي يستمرُّ بإغاظتكم بشخصيات على وشك الموت، أو منعطفات شيقة مع نهاية الحلقة. لا تستمعوا لموسيقى رديئة لا تحتوي تنوَّعا في الأنغام. لا تنقروا على زرّ "المقطع التالي" بلا تفكير عبر يوتيوب أو تيك توك أو فيسبوك، لأنّكم بذلك تكافئون الأشخاص الأردياء على أعمالهم الرديئة والرّخيصة. لا تشاهدوا أو تستجيبوا للمذيعين أو السياسيين أو المحلّلين الذين يطلّون على الشاشة ويمطرونكم بوعود خلّبيّة لن يوفوا بها أبداً، إنّما يخدّرونكم فقط.
في خضَمّ الفوضى الجامحة والمسلّية لرواية "دُعابة لا تنتهي"، نقرأ قصّة دون غاتلي، وهو مدمن كحولٍ تعافى لتوَّه، والذي يفضِّل الموت حرفيًا على العودة إلى تعاطي المخدرات. عندما قرأتُ الكتاب لأوّل مرّة باللغة الإنكليزية منذ سنوات بَدَت قصّة غاتلي غير مناسبة. ولكن وسط كلّ هذا الفوضى المستقبليَّة من فترات الاهتمام القصيرة، والترفيه المُسَبِّب للإدمان والجنون لدى المراهقين العصابيين، بدت قصّة غاتلي وكأنَّها قصّة تقليديّة بشكلٍ غريبٍ، ومثيرٍ للاهتمام، عن الانتصارٍ الشخصيٍ للمرء على شياطينه، والقدرة على التّضحية بالذّات من أجل الآخرين.
ما أدركه الآن هو أنَّ والاس كتب شخصية دون غاتلي كمثالٍ لما نحتاجه جميعاً إلى أن نصبح: مُدمنين متعافين. أشخاصاً نستطيع فَصلَ أنفسنا عن مُسبّبات الإدمان، والتوقّف عن تعاطي العقاقير. أشخاص يستطيعون الاهتمام بأنفسهم، وإدارة شؤونهم، دون أن يقعوا ضحايا لتيّارات لا تنتهي من التفاعلات والمُشاركات الطّائشة. أشخاص قادرون على تجاوز صراع الإدمان السياسي، ويطالبون بالجَوهر بدلاً من القشرة. وليس لمصلحتنا فقط. بل من أجل كل إنسانٍ أيضاً.
في هذه الرواية، التي انتهيت من قراءتها مؤخَّراً بالعربية أثناء فترة وعكة صحّيّة أقعدتني في السّرير، يروي الكاتب عن فيلمٍ مُمتِعٍ للغاية، لدرجة أنَّ أيُّ شخصٍ يشاهد ولو جزء صغير منه سوف يتخلَّى عن أي رغبةٍ في فعل أيِّ شيءٍ آخَرَ في الحياة من أجل الاستمرار في متابعة الفيلم. تتخلَّى جميع الشخصيات التي تشاهد الفيلم في الرواية الشخصيات عن عائلاتهم، وأصدقائهم، ووظائفهم، وحتّى يتوقّفون عن الأكل والنوم، فقط لمواصلة مشاهدة الفيلم.
الثيمة الأساسية في الرواية هو أنَّه من الممكن، سواءً كفرد أو كمجتمع، أن نكون مستمتعين للغاية. أغلب صفحات الرواية التي يتجاوز عددها الـ1000 صفحة تتحدَّث عن سخافة مثل هذا المجتمع وتفاهته. ألَّف والاس روايته هذه في أوائل تسعينيات القرن العشرين، وهو الوقت الذي كانت فيه أجهزة التلفزيون قد بدأت في استقبال عشرات القنوات، وكانت الأخبار تُذاع 24 ساعة في اليوم، وألعاب الفيديو تسيطر على عقول الأطفال الصّغار، كما أنَّ الأفلام التي حقَّقت شعبيّة كبيرة كانت تكسب مبالغ طائلة من المال لم يُسمَع بها من قبل في شبّاك التذاكر كلّ صيف.
في تلك الفترة، كان والاس قد خَضَعَ لتوّه لبرنامج تعافي من تعاطي الكحول والمخدّرات. ولكن على الرّغم من تطهيره أوّل مرَّةٍ في حياته، فقد لاحظ أمراً غريباً: فهو لم يستطِع التّوقّف عن مشاهدة التلفاز.
ويبدو أنَّ والاس قد بدأ يُدرك أنَّ المنافسة على جذب الانتباه أخذَت تتضاعف مع ازدياد وسائل الإعلام. ومع تزايد حِدَّة التّنافس على جذب انتباهنا، لم يَعُد المحتوى مثالياً أو مُحَسِّناً للجمال أو الفَن أو حتّى المتعة _بل بالأحرى تعزّز دوافعه وتثير حوافزه التي تسبِّب الادمان. عندما يكون هناك قناتين تلفزيونيتين، لا داعي للقلق بشأن تقليب القناة إلى أخرى، إذ أنَّها تقدّم أفضَلَ عَرضٍ ممكن. لكن عندما يكون هناك 200 قناة، فجأة تلك القناة يجب أن تفعل كل ما في وسعها لإبقائك مهتمّاً بمتابعتها لأطول فترةٍ مُمكِنَة. تنبّأ والاس بهذه المشكلة قبل عقود، وبفهمه الشخصي للإدمان على أساس تجربته في التَّعافي منه، بدا أنَّه يَعي ثقافة الإدمان التي سنكون قريباً جميعنا جزءاً منها.
اليوم، غالباً ما نخطئ بين وسائل الاعلام المُسَبِّبَة للإدمان هذه وبين التّسلية. هناك بعض الآليات النّفسية في أدمغتنا تخبرنا، "حسناً، لقد قضيتُ للتوّ ستَّ ساعاتٍ أشاهد هذا البرنامج، هذا يعني أنّي أحبّه كثيراً". في الوقت الذي يكون فيه السيناريو مجرَّد هُراءٍ رديء ومَمجوجٍ، ويتمّ التلاعب بك بمسلسلات التّشويق والمغامرات والسيناريوهات السيئة لساعات متتالية بهدف متابعة المشاهدة. خذوا المسلسلات الرمضانية على سبيل المثال، وكمّ الإسفاف والتّفاهة والكَم على حساب الكيف. هل تتذكّرون مسلسل "صرخة روح"، أو "أيام الدراسة"، أو "باب الحارة"، على سبيل المثال وليس الحصر؟ إنَّه زمن الانحطاط الدرامي. وبنفس الطّريقة التي يتم أسرَكَ من خلال التَّنقل عبر وسائل التَّواصل الاجتماعي (فيسبوك، تويتر، إنستغرام...) أكثر ممّا ترغب بها في الواقع، يتمّ أسرُ دماغك لمشاهدة "مجرَّد حلقة أخرى" لمعرفة ما إذا مات البطل أم لا. أنا نفسي علقتُ بهذا الفَخّ أثناء مشاهدتي مسلسل "فايكينغ" و"لعبة العروش"، و"العرّاب: نادي الشرق"، مَثَلاً وليس حصراً.
في وسائل التَّواصل الاجتماعي، حَدَّد الباحثون ظاهرة "إنَّها إدمانٌ، ولكنّي لا أحبّها نوعاً ما" وناقشوها حتّى الموت. ولكن في مجالات الإعلام والترفيه الأخرى، لم نَلحَظ هذه الظاهرة بعد.
إنَّ خَدَمات البَثّ المباشر و(هوليوود) هما المذنبين الواضحين هنا. كم عدد أفلام "عالم مارفل" عن الأبطال الخارقين التي نحتاجها لإثبات هذه النقطة؟ كم عدد العروض السيّئة لحرب النجوم؟ كم عدد مسلسلات وعروض "نتفليكس" الرديئة مع كل حلقة تنتهي بمقطع تشويقي في نهاية كل حلقة؟ الجميع يشتكي من أنّ هوليود لا لَم تَعُد تملك أفكاراً جديدة بعد. أمّا السينما المصرية فمشغولة باستنساخ الأفلام الأجنبية بنسخة عربية أردأ. أمّا الدراما السورية والخليجية والتركيَّة: فَحَدِّث ولا حَرَج. حسناً، هناك سببٌ لعدم ابتكار شيء جديد: وهو إضافة محتوى إلى نفس القصَص البالية يُبقي النّاس مُدمنين على متابعتها (باب الحارة، الهيبة...). إنَّ اللعب المستمرّ على شعور النّاس بالحنين إلى الماضي (المسلسلات والفنتازيا التاريخية) ومَزج الأنواع الكلاسيكية يُعَدُّ طريقة آمنة لضمان نسبة مشاهدة عالية.
لا تختلف الموسيقى كثيراً. فقد وَجَدَت أبحاث السوق حول خدمات البَثّ الموسيقى أنَّ الناس يقضون أوقاتاً أطول في الاستماع إلى الموسيقى القديمة بدلاً من الموسيقى الجديدة، وأنَّ الاتجاه في هذا المَجال يسير إلى الاتجاه الخاطئ. أصبَحَت الموسيقى الشعبيّة في السّنوات القليلة الماضية مُبَسَّطَة إلى درجة أنّها باتت نغمة واحدة أو اثنتين ولحنٌ واحد، يتكَرَّر مراراً وتكراراً لمدة دقيقتين أو ثلاث. لا جوقة. لا يوجد سُلّم موسيقي. ولا تنوّع. مجرَّد خليطٍ لا نهائيٍّ من الأصوات الجذّابة تتكرَّر الواحدة تلو الأخرى.
جزءٌ كبيرٌ من هذا يعود إلى أنَّ اقتصاديّات بثَّ الموسيقى تجعل الفنانين لديهم متحفّزين لعدم ابتكار أغاني أفضل أو إنشاء ألبومات أحسن. ولكن، بدلاً من ذلك، إنشاء أكبر عددٍ من الأغاني السريعة والبسيطة التي تَمنعك من النقر لتجاوز الأغنية إلى الأغنية التالية. لقد خلقت بيئة فنية تقوم على الكَم، حيث من الأفضل أن يكون لديك 200 أغنية رديئة أو متوسّطة قابلة للاستماع، بدلاً من 20 أغنية رائعة.
نفس المشكلة تغزو اليوتيوب YouTube، حيث يستقبل صانعي المحتوى الكبار الملايين من المشاهدين من خلال قيامهم بأمور تافهة مثل فتح ألف صندوق أمازون، أو تحطيم أحدث موبايل، أو إهداء السيارات لأصدقائهم، مراراً وتكراراً. من ناحية، هو لَيسَ بالمحتوى الشيقِ. ومن ناحية أخرى، تجد نفسكَ تنقر بلاوعي على الفيديو التالي، ثمَّ التالي، والتالي، والتالي.
عندما يتمّ قياس كل شيء من حيث نسبة التّفاعل أو المشاركة، سيتمّ تحسين المحتوى من أجل مفاقَمَة الإدمان. ليس القيمة التّرفيهيّة أو الجودّة الفنية، ليس المادّة الفكرية أو الإبداع. مجرَّد إدمانٍ نقيٍ، وواضح. هذا يعني أنَّنا، نحن المستهلكين، نحصل على كمية أكبر من الأعمال الفنية الممجوجة والمُكَرَّرة، والأقل إبداعاً، والأقل إثارةً للاهتمام في حياتنا.
في عالم الفن والموسيقى والسينما والتلفاز، يبدو هذا مزعجاً ومحبطاً حقاً. يتطلَّب الأمر من كلّ واحدٍ منّا التفتيش والبحث لفترةٍ أطول وأصعب للعثور على محتوى جديدٍ وقيّم. ولكن حيث يصبح هذا التَّعزيز للإدمان أمراً خطيراً فهو جزءٌ آخَرَ من الثقافة التي أريد التّحدّث عنه.
خُذْ نَفَساً عميقاً.... إنَّه السياسة.
من الواضح أنَّ الشّعب مُتّفق حول معظم الأشياء في بلداننا، ولكن بطريقةٍ ما تجد أحزابنا السياسية وحكوماتنا طرقاً لفعل أشياء لا يحبها الشّعب. وقد عزا العديد من الباحثين هذا التّناقض بين رغبات الجمهور وتصرّفات الحكومات إلى النظريات حول النظام الأساسي، أو المصالح الخاصَّة الرّاسخة، أو الاستقطاب عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
يُحَفَّز السياسيين أو النّوّاب في المجالس الشعبية أو البرلمانات _كالممثلين، وأصحاب شركات الإنتاج، والمخرجين_ لتوليد المزيد من التّفاعل. لا حاجة لنتائج جيدة. فقط تفاعلاً أكثر، طوال الوقت. لذلك، فإنَّهم لا يتوجَّهون لإنتاج سياسات ذكيَّة، أو قوانين منطقيَّة، أو حلولاً وسط بارع، بل للجذب انتباهنا لأطول فترة ممكنة. لاحظوا برامجنا، والسياسيين أو المحللين الذين يطلّون علينا فيها، جميعهم يتحدّثون عن يوتوبيا قادمة لا محالة، بينما سياسة التسويف تسيطر على كل شيء. لا شيء ممّا يقولونه موجودٌ على أرض الواقع.
لقد تَنَبّأ ديفيد فوستر والاس بذلك أيضاً. فرئيس الولايات المتّحدة في رواية "دعابة لا تنتهي" هو مغني بوب سابق مهووس بتصنيفاته على التلفاز، ويعتقد أنَّ النقاشات السياسية مُملّة وسقيمة، ويخوض الحرب مع كندا على أساس جودَة صوره في زيّه العسكري المُمَوَّه. تتفشّى الجماعات الإرهابيّة لأنَّ ساحة المعركة ليست من أجل الأراضي أو الموارد، بل من أجل العيون والعناوين الرئيسية.
وفي النهاية، لا أحد يستطيع يلفُتَ انتباهنا سوى أنفسنا. يمكننا أن نغضب من نتفليكس أو قناة تلفزيونية أو البرلمان. ولكن هذه الأنظمة في نهاية المطاف عبارة عن انعكاسات فضفاضة لعادات اهتماماتنا التي تسطع في طريقنا. نغيّر اهتماماتنا، فتتغيَّر الأنظمة. هناك قولٌ مأثورٌ بأنَّ الناس "يصوِّتون بأقدامهم". حسناً، اليوم يحتاج المرء إلى التصويت بعينيه مع شاشة أو جهاز لوحي أمامه.
لا تشاهدوا الحلقة القادمة من ذلك المسلسل الرديء والسقيم، والمَكتوب بطريقة سيئة، والذي يستمرُّ بإغاظتكم بشخصيات على وشك الموت، أو منعطفات شيقة مع نهاية الحلقة. لا تستمعوا لموسيقى رديئة لا تحتوي تنوَّعا في الأنغام. لا تنقروا على زرّ "المقطع التالي" بلا تفكير عبر يوتيوب أو تيك توك أو فيسبوك، لأنّكم بذلك تكافئون الأشخاص الأردياء على أعمالهم الرديئة والرّخيصة. لا تشاهدوا أو تستجيبوا للمذيعين أو السياسيين أو المحلّلين الذين يطلّون على الشاشة ويمطرونكم بوعود خلّبيّة لن يوفوا بها أبداً، إنّما يخدّرونكم فقط.
في خضَمّ الفوضى الجامحة والمسلّية لرواية "دُعابة لا تنتهي"، نقرأ قصّة دون غاتلي، وهو مدمن كحولٍ تعافى لتوَّه، والذي يفضِّل الموت حرفيًا على العودة إلى تعاطي المخدرات. عندما قرأتُ الكتاب لأوّل مرّة باللغة الإنكليزية منذ سنوات بَدَت قصّة غاتلي غير مناسبة. ولكن وسط كلّ هذا الفوضى المستقبليَّة من فترات الاهتمام القصيرة، والترفيه المُسَبِّب للإدمان والجنون لدى المراهقين العصابيين، بدت قصّة غاتلي وكأنَّها قصّة تقليديّة بشكلٍ غريبٍ، ومثيرٍ للاهتمام، عن الانتصارٍ الشخصيٍ للمرء على شياطينه، والقدرة على التّضحية بالذّات من أجل الآخرين.
ما أدركه الآن هو أنَّ والاس كتب شخصية دون غاتلي كمثالٍ لما نحتاجه جميعاً إلى أن نصبح: مُدمنين متعافين. أشخاصاً نستطيع فَصلَ أنفسنا عن مُسبّبات الإدمان، والتوقّف عن تعاطي العقاقير. أشخاص يستطيعون الاهتمام بأنفسهم، وإدارة شؤونهم، دون أن يقعوا ضحايا لتيّارات لا تنتهي من التفاعلات والمُشاركات الطّائشة. أشخاص قادرون على تجاوز صراع الإدمان السياسي، ويطالبون بالجَوهر بدلاً من القشرة. وليس لمصلحتنا فقط. بل من أجل كل إنسانٍ أيضاً.