إبراهيم قيس جركس - ألبير كامو: العَبَثية، والعَدَميّة، والتضامن

هل يمكننا اعتبار عبثيّة كامو شكلاً من أشكال العدميَّة؟ هل العَبَث عَدَميّ؟ ما الذي يؤدّي إلى التّضامن، وإلى أيّ مدى يمكن للتّضامن أن ينقذ الذات العبثيّة من هوَّة العدمية؟

إنَّ اعتبار العبثيّة والعَدَميّة مفهومين مرتبطتين ارتباطاً وثيقاً، أو حتّى يؤدّيان إلى بعضهما البعض أمرٌ مُبَرَّرُ ومُتَوَقّع لأنّ كتابات كامو تتضمَّن إشارات مباشرة وغير مباشرة بأنَّ العَدَميّة أمرٌ لا مَفَرّ منه.

أي أنَّ كتابات كامو تتضمَّن افتراضات وإشارات متفرِّقة توحي أو تشير إلى أنَّ العدميّة هي واحدة من النّتائج الحتميّة لمواجهة العَبَث، والوقوف وجهاً لوجه أمام انعدام المعنى الكامن في قلب الوجود البشري والاعتراف بقوَّته وتأثيره.

فمثلاً، يبدو أنّ إعلان كامو أنَّ "كلّ شيءٍ مسموحٌ به" يضع العَبَث والعدميّة في نفس الموقع ويجعلهما مرتبطتين ارتباطاً وثيقاً أو حتّى متساويتين، لأنَّه إذا "كلّ شيءٍ مسموح به"، فلا شيء ممنوع.

مثالٌ آخر يوضّح مدى التّقارب بين العَدَميّة والعبثيّة في كتابات كامو هو قسوة كاليغولا ووحشيَّته. وهذا يعني أنّ ما ينفذّه المتآمرون في كاليغولا ويحاولون تحقيقه يدلُّ أو يوضّح أنّ العدميّة هي إحدى النّتائج الحتميّة للعبثية، أو أنّه لا يوجد حَدٌّ يفصل بين العَدَميّة والعبثية.

هذا التقارب بين العبث والعَدَميّة أمرٌ يُنكِره كامو ويجادل ضدَّه مراراً وتكراراً. يقول كامو أنَّ "كلّ شيءٍ مسموحٌ" لا يعني بالضّرورة أنّ لا شيء مَحظورٌ، لأنّ العَبَثَ "لا يُحَرِّر، بل هو مُلزِمٌ. وهو لا يأذَن بجميع الإجراءات ".

يقول كامو أنَّ العَبَث: "لا يُحَرّض على ارتكاب جريمة، لأنَّ ذلك سيكون تصرّفاً صبيانياً، ولكنّه يولّد الشعور بالنّدم على عبثها". وفي مراجعته لرواية "الغثيان" لسارتر، أعلن كامو أنَّ "إدراك عبثيّة الحياة لا يمكن أن يكون غايةً في حَدّ ذاته، بل مجرّد بداية".

كما أنَّ إدراك أنَّ اللامعنى يَسود أو أنَّ صمت العالم لا يمكن تجنُّبه هو بداية الرّحلة نحو إيجاد القيم الإنسانية وخلقها. يقول كامو أنّ هذا العبث يقرُّ ويرحّب بإمكانية خلق قيم إنسانيّة ودنيويّة.

هذا التَّرحيب أو الاستعداد لخلق القيم هو ما يَفصل عبثيّة كامو ليس فقط عن العَدَميّة، بل أيضاً عن تفكير كيركجارد الفلسفي، لأنَّ العَدَميّة هي رفضٌ دائمٌ ومُتَعَمَّدٌ لجميع القيم، ولأنَّ تفكير كيركجارد الفلسفي، من ناحية أخرى، يُفلِتُ من العَبَث بارتكابه الانتحار الفلسفي في تحوُّله نحو اللامتناهي.

بعبارةٍ أخرى، إنَّ الفرق بين تفكير كامو وكلاً من النَّزعة العدميّة وفلسفة كيركيجارد هو أنَّ كامو يحاول خلق قيم دنيويّة أو إنسانيّة من اللامعنى الكامن في قلب الوجود البشري، في حين أنَّ العدميَّة تنفي كل القِيَم وكل المعنى، بينما يَنفي كيركيجارد الأرض من خلال التحوُّل نحو اللامتناهي.

يصرُّ كامو على أنَّ تفكيره يعارض، وبالتالي يَبعُدُ عن، الظّلم والعنف والقَسوَة في تاريخنا. فهو يجعل التّفكير والقِتال متساويين ويقول إنَّ تفكيره هو قتالٌ ضدَّ "أحلَك عدميّة"، وسعى إلى "تجاوز أحلَك عدميّةٍ لدينا":

((مثل كلّ الرّجال من جيلي، نشأتُ على صوت طبول الحرب العالميَّة الأولى، ومنذ ذلك الوقت ظَلَّ تاريخنا مليئاً بالقتل أو الظّلم أو العنف. ولكنَّ التّشاؤم الحقيقي، الموجود بالفعل، يَكمُنُ في التَّغلّب على كلّ هذه القسوة والعار. ومن جهتي، لم أتوقّف أبداً عن محاربة هذا العار، ولا أكره سوى القسوة. لقد بحثت فقط عن أسباب لتجاوز أحلَك عدميّةٍ المظلمة لينا. لا، أودًّ أن أضيف، من خلال الفضيلة، لا بسبب بعض ارتفاع نادر للرّوح، بل من الإخلاص الغريزي إلى النّور الذي وُلدتُ فيه، والذي تعلّم فيه البشر لآلاف السّنين أن يرحبوا بالحياة حتّى في قلب المعاناة... بالنسبة إلى أبناء اليونان الوضيعون، ولكنّ مع ذلك العنيدون، الذين لا يزالون على قيد الحياة في هذا القرن الهزيل، قد تبدو حرارة تاريخنا الحارقة غير محتملة، ولكنَّهم يتحمَّلونها في نهاية المطاف لأنَّهم يريدون فَهمها. وفي قلب عملنا، رغم أنَّ الظّلام قد يكون حالِكاً، فهو يضيء شمساً لا تنضب، نفس الشمس التي تصرخ اليوم عبر التلال والسهول)).

[البير كامو، مذكّرات شخصيّة]

في هذا الفضاء، الذي انفَتَح وأصبح مُمكناً من خلال هذا الترحيب، هذا الترحيب بالألم والمعاناة، تشرق الشمس، وفي سطوعها، تكشف عن طريقٍ يؤدّي إلى ذلك الذي تنبثق منه محاولات تحدِّي العدميّة ونفيها وتجاوزها.



_التّعاون الإنساني كَرَد على العَبَثيّة

يعلن التَّضامن الإنساني عن نفسه في كتابات كامو كَرَدٍّ مُحتمل على العبثيّة. فمثلاً، مسرحية "كاليغولا" ورواية "الطاعون" مثالان يوضّحان كيف أنَّ اتحاد النّاس معاً يمكن أن يتحدَّى هيمنة العبّث ويؤدّي إلى التّمرّد.

إنَّ التّضامن كتجمُّع النّاس حول بعضهم البعض في نفس الموقع هو ما يربط العبث بالتّمرّد في كتابات كامو. يقول كامو أنّ هذا التجمُّع، أو هذا التّضامن، هو الرفاهية الوحيدة للذّات العبثيّة. بالنّسبة لكامو، تشكِّل العلاقات الإنسانيَّة الأساس الذي ينشأ منه الكفاح ضدَّ العدميّة.

وفقاً لكامو، نظراً لأنّ المعاناة تتجذَّر في الوجود البشري وتتغلغل فيه، فإنَّها تسمح للنّاس بالتّجمُّع معاً وتشكيل اتّحادٍ في مواجهة العَدَم أو النّقص الذي يَندرج في الوجود.

بمعنى آخر، يرى كامو أنَّ الذّات تُدرك العبثيَّة عاجلاً أم آجلاً أنَّ اللامعنى الذي يسود وجوده، هو نفسه اللامعنى الذي يحدِّد ويقرِّر الوجود البشري برمَّته. ((في التمرّد يُجاوِزُ الإنسان ذاته في الآخرين، ومع وجهة النّظر هذه، يُعتَبَر التَّضامن البشري تضامناً ماورائياً))

أي أنَّ الشخص العبثيّ يُدرك في نهاية المطاف أنَّ حالته هي نفسها الحالة الإنسانيّة فيما يتعلّق بالتّمسّك بالفراغ، والصّمت، والغرابة، واللامعنى. وهذا الإدراك يجمع بين النّاس، لأنَّه يوضِّح أنَّ الجميع يعانون من نَفس الخَسارة، والفَراغ، والغرابة.

يقول كامو في كتابه "الإنسان المتمرِّد" أنَّ اتّحاد الناس والتفافهم حول بعضهم البعض للشخص العبثيّ بأن يدرك أنَّ المعاناة ليست فرديّة. وهذا الإدراك يجعل التقييم ممكناً، ويؤدّي إلى ظهور ما ينبغي اعتباره "القيمة الأولى":

((الألم يكون فرديّاً في التّجربة العبثيَّة. ولكن اعتباراً من حركة التّمرّد يُشعر بأنَّه ألمٌ جَماعيٌّ، ويصبح مصيراً مشتركاً بين الجميع. إنَّ أوّل خطوة يخطوها فكرٌ تتملَّكه الغَرابة هي أن يُسَلِّمَ بأنَّه يُسهم في هذه الصّفة مع البشر جميعاً، وأنَّ الحقيقة الإنسانيَّة، في مجموعها، تعاني من هذا البُعد عن الذّات والعالم. والدّاء الذي كان يبتلي إنساناً واحداً يصبح وَباءً جَماعياً. وفي تجربتنا اليوميّة الخاصّة، يقوم التمرّد بنفس الدور الذي يلعبه الكوجيتو على صعيد الفكر: إنَّه البديهية الأولى. ولكن هذه البديهيّة الأولى تنتشل الفرد من عُزلته. إنَّها محلٌّ مشترك يُرسي القيمة الأولى على البشر جميعاً: أنا أتمرَّد، إذن نحن موجودون)) [الإنسان المتمرّد]

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى