حسين حمودة - حركة «الزنوجة».. تساؤلات حول الصعود والمآل

بصوت أو بلسان «سوسنة الأودية»، نسمع أو نقرأ في «نشيد الأنشاد»، في العهد القديم: «أَنَا سَوْدَاءُ وَجَمِيلَةٌ يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ». وبصوت أو بقلم شاعرة سوداء، في قصيدة تنتمي إلى «الزنوجة» في زمن حديث، ليس بعيدًا: «أنا سوداء ولكني جميلة». ولن يغير من هذا الصوت الأخير، تعبير الشاعر ليوبولد سنغور، أحد عرّابي «الزنوجة»، في الزمن الحديث نفسه: «لأنكِ سوداء فأنتِ جميلة». فهذا تصوره هو، مشجعًا ربما، وليس صوتها هي المتباهي. لكن ما أبعد المسافة بين الصوتين، لشارون سوسنة الأودية، وللشاعرة الحديثة، على الرغم مما يجمعهما ويقارب بينهما.

طبعًا وابتداءً، هي مسافة تاريخية وجغرافية، وطبعًا وابتداءً هي ليست كذلك فحسب. في التدقيق، هي مسافة بين سياقين مختلفين؛ تجتاز تاريخًا طويلًا تشكّل واستقوى فيه ميراث ممتدّ غيّر النظرة إلى معايير الجمال، بما فيها لون البشرة. وفيما بين «سوداء وجميلة» الأقرب إلى التفاخر، في التعبير الأقدم، إلى «سوداء [ولكني] جميلة»، الأقرب إلى التدارك المشوب بما يشبه الاعتذار، في التعبير الأحدث. كانت قد اكتملت معالم لتراتب جديد تم ترسيخه حول الجمال، وتم تدشينه حول تباين المكانات بين البشر، كما كانت قد تبلورت تصورات كثيرة قد قسّمت العالم إلى فئات مختلفة، وغذّت ألوانًا من الاستقطاب، وأشكالًا من الصراع، بين هؤلاء البشر، هنا وهناك. ومن وجهة أخرى، كانت قد ماتت وانبعثت نزعات متعددة للسيطرة، وموجات متوالية من ردود الأفعال، ومن المقاومة، هنا وهناك أيضًا.
موجات الصعود والانحسار

إلى هذا المعنى الأخير، المتصل برد الفعل والمقاومة، تنتمي كلمات الشاعرة الزنجية، وتنتمي تجربة الزنوجة كلها، وإن أضافت هذه التجربة إلى نبرة التدارك أو الاعتذار نبرات أخرى: الاحتجاج، والغضب، والتشبث بالهوية، ورفض كل ما جلبه التراتب المفروض الجديد، فضلًا عن مراودات الحنين إلى هوية مرتبطة بجذور باتت نائية.

محمد الفيتوري

«أنا سوداء ولكني جميلة» لم يكن محض تعبير غنائي فردي، كان جزءًا مما يختزل حركة أدبية كبيرة واسعة، صعدت في سياق تاريخي بعينه صعودًا مدوّيًا، وأصبحت في سياق تاريخي آخر ظاهرة موضوعة موضع التأمل، وربما موضع التساؤل: «كيف تحولت هذه الحركة الجماعية الهائلة إلى محض مشتقات فرعية متأخرة؟»، وبصيغة أكثر صراحة وربما أكثر حسمًا: «كيف تراجعت وانحسرت هذه الحركة؟».

حركة «الزنوجة» معروفة لنا جميعًا، ومعروف أيضًا اقترانها بملابسات تاريخية محددة المعالم: بزوغها في النصف الأول من القرن الماضي، فيما بين الحربين العالميتين (وإن كان لها إرهاصات سابقة)، وارتباطها ببعض الشعراء السود الذين يكتبون بالفرنسية (ليوبولد سنغور، إيميه سيزار، جونتران داماس، وغيرهم)، واتصالها بالسعي إلى التحرر من الاستعمار لدى بلدان عدة في إفريقيا ومنطقة الكاريبي، وانطلاقها من سعي إلى بثّ وعي مفقود أو مفتقد بالهوية المغيّبة، ونزوع إلى استعادتها، واتصالها كذلك بما يبدو أشبه بصحوة متأخرة ربما، على ميراث العبودية الطويل والحط من شأن أصحاب وصاحبات البشرة السوداء… إلخ.

ومعالم تيار الزنوجة معروفة لنا أيضًا: على مستوى ربط ما هو جمالي بما هو أيديولوجي وسياسي، ومراودات حنين إلى ماضٍ بعيد مرتبط بالأم الأولى التي أمعنت في غياب، تمثيلًا لـ«إفريقيا» بوجه خاص، فضلًا عن طموح لمناوأة المركزية الأوربية، والغربية عمومًا، التي نظرت بتعالٍ إلى أغلب بلدان العالم على أنها مجرد «مزارع خلفية»، وفي تصور آخر: مناجم خلفية!

ومسيرة تجربة الزنوجة معروفة لنا جميعًا كذلك: موجات من المد والصعود، ازدادت قوة على قوة مع الالتفاف المتزايد حولها، ثم موجات من التراجع والانحسار، ثم صيغ من التحول إلى فروع صغيرة متناثرة هنا وهناك (ومن ذلك «أدب السود» في بعض بلدان العالم) عبر مبدعين أفراد أو عبر جماعات أدبية أكثر هدوءًا وأقل غضبًا وتحمسًا، مدفوعة، على الأغلب، بمقاومة أشكال التمييز العنصري، الذي كان يمثل قضية من بين قضايا الزنوجة.

«الزنوجة»، بهذا السياق التاريخي المعروف، وبهذه القضايا المتبنّاة، تمثل ظاهرة أدبية مفهومة، يسري عليها ما يسري على ظواهر كثيرة مرت بما يشبه دورة الحياة المعروفة. ولكنها بهذا المنحنى المتسارع من الصعود والتراجع، كانت ولا تزال تمثل موضوعًا للتساؤل وللبحث عن تفسير.
محاولات لتفسير انحسار الزنوجة

في سنوات بعيدة، قرأت عبارة للأستاذ علي شلش، وهو أحد المهتمين بالأدب الإفريقي، بدت لي تفسيرًا معقولًا، مع شيء من الاسترابة، لانحسار «الزنوجة». تمثلت هذه العبارة في أن الزنوجة: «كانت تنهل من نبع مؤقت». والآن، حين نعود لهذا التعبير بعد مرور السنوات، يمكن أن نراه تفسيرًا للماء بالماء، ويمكن للتساؤل القديم أن يتناسل إلى تساؤلات تتلوها تساؤلات:

ليوبولد سنغور

هناك تساؤل مرتبط بكون «الزنوجة» منطلقة في جوهرها من أحد أشكال «رد الفعل». في أطروحاتها نجد ما يشبه تلك النظرة التي تنطلق من تقسيم العالم، ليس إلى «فسطاطين» أو «فريقين» أو «قطبين» (وكلها توصيفات سادت لفترات من منظورات شتى)، وإنما خلال تصور مضاد لتصورات مجحفة بحق أصحاب البشرة السوداء، وعمومًا لشعوب البلدان التي تحولت إلى مستعمرات. «الزنوجة»، في مواجهة المركزية الغربية البيضاء قامت، فيما قامت، على أرضية تصلح للاستقطاب، وترى العالم معسكرًا ضد معسكر. ولعلها، من هذه الوجهة، وقفت في مواجهة رياح أخرى تراهن على التفاعل والتقارب والتفاهم، أو على الأقل: «التفهّم»، وليس على الاستقطاب، وهذه الرياح الأخرى سوف تطرح على الآداب والفنون بشكل متزايد، تصورات أعمق حول «تداخلات» وتعقيدات « الهويات، وليس حول قسمتها الثنائية. لقد تراجع، على نطاق واسع، الأدب الذي يحتفي بقضية ثنائية «الشرق/ الغرب»، وصعد الأدب الذي يعبر عن قضايا الهجرة وتداخلات أو التباسات الهوية. هل هذا تفسير؟ ربما.

وهناك تساؤلات حول ما أحاط منذ البداية بمفهوم «الزنوجة» نفسه. نظر إليها سنغور، أحد عرّابيها كما أشرنا، بوصفها «مجموعة واسعة من قيم اقتصادية وسياسية وفكرية ومعنوية وفنية واجتماعية خاصة بالشعوب الإفريقية والأقليات السوداء في هذا العالم». وهذا المفهوم، بهذه الصياغة، فتح الطريق معبّدًا إلى مناهضته على مستوى من المستويات؛ لأنه ببساطة قاد ويقود، كما رأى بعض منتقديه، إلى «التباس عنصري ضد العنصرية». هل هذا تفسير؟ ربما.

ويتصل بهذا التساؤل تساؤل آخر حول صياغات أخرى لهذا المفهوم، جنحت إلى صياغات شعرية تحلق كما يحلق الشعر في أحيان كثيرة. كتب إيميه سيزار، العراب الآخر لـ«الزنوجة»، في «دفاتر عودة للوطن الأم»: «زنوجيتي ليست صخرة صممها اندفاع عكس اليوم (…)، زنوجيتي ليست وسادة ماء راكد مندفع ضد جعجعة اليوم (…) زنوجيتي ليست برجًا ولا كاتدرائية، إنها ترتمي في الإهاب الأحمر للأرض». نص جميل، حقًّا. ومُغْوٍ بالتحليق معه. لكن، ربما، مع حركة التاريخ سوف تلتبس التصورات حول «الإهاب الأحمر للأرض»، وسوف تختلف الرؤى حول ملامح «جعجعة اليوم»، حتى حول إمكان تحديد معنى «اليوم» في حاضر يتحول إلى ماضٍ باستمرار، حاضر متجدد لا يكفّ عن التغير والتحول. هل هذا تفسير؟ ربما.

وهناك تساؤلات موصولة بما راهن عليه تيار «الزنوجة»، ورهاناته كثيرة مقرونة بقضايا متنوعة، أكثرها وضوحًا ارتبط بملابسات متعينة، وتحدّد بسياق تاريخي بعينه (حقبة التحرر من الاستعمار)، وبعضها أو قليلها اتصل بقضايا عابرة للتواريخ (مقاومة التمييز). ووضع هذه الملحوظة، حول التركيز على قضايا أكثر من أخرى، يمكن أن يتيح فرصة لالتقاط صورة ظاهرة الملامح، إلى حد ما، حول ما يمكن أن يبقى من هذه التجربة وما يمكن أن يتراجع.. ما يمكن أن ينجح في الاستجابة والتكيف ومواكبة تغيرات العالم اللاهثة، وما يمكن أن يتقلص، وربما يمكن أن يتلاشى ويندثر. وإذا شئنا أن نتجول في هذا الحقل الدلالي نفسه، غير البعيد من مفاهيم «التطور» القديمة، فسوف نرى النتاج الأدبي للزنوجة يبدو كأنه قد خضع لما يشبه نوعًا من «الانتخاب الطبيعي».. هل هذا تفسير؟ ربما.

ومن هذه التساؤلات ما يرتبط بالانحسار النسبي للشعر، في العقود الأخيرة أيضًا، أمام الصعود السردي في الأدب (إذا سلمنا بهذا، فتلك قضية متشعبة الجوانب، وفي أحد التصورات: تراجع الشعر على مستوى تلقيه، ولكنه امتد واتسع خلال تمثّل روحه وجمالياته في كل الأنواع الأدبية والفنية الأخرى، بما فيها فن السينما). وإذا لاحظنا أن «الزنوجة» ارتبطت بالشعر بدرجة أكبر من ارتباطها بالأنواع الأدبية الأخرى (هناك عدد من الروائيين وكُتاب المسرح اتصلوا بالزنوجة، في زمن صعودها وما بعده.. ولكن إسهاماتهم في صياغة معالمها لم تكن بقدر إسهامات شعرائها. وأكثر من هذا، ووجهت الزنوجة ببعض الاعتراضات من روائيين منهم وول سوينكا).. إذا لاحظنا ذلك فهل يمكن أن يعد هذا تفسيرًا؟ ربما.

إيميه سيزار

وهناك تساؤلات حول القران الذي عقد، طول الوقت، كزواج كاثوليكي، بين «الزنوجة» والسياسة، أو بين «الزنوجة» والأيديولوجيا، بما جعلها تخضع لما تخضع له السياسة من تحولات وتقلبات، وتواجه ما تواجهه علاقة الأدب بالأيديولوجيا من قضايا شائكة. وإذا سلّمنا بالطرح الذي بلوره ألتوسير حول أن «الأدب فاضح للأيديولوجيا»، نكون قد سلمنا بشيء مما قاد الزنوجة إلى ما قادها إليه. هل هذا تفسير؟ ربما.

وهناك تساؤلات حول التمثيل العربي في ظاهرة الزنوجة. وباتفاق عدد كبير من النقاد يعدّ محمد الفيتوري أحد أعمدة هذا التمثيل. وبغض النظر عن التقييم الذي يرصد فجوة ما، في عدم الاهتمام العربي بقدر كافٍ، في حقبة ما، بالأدب الإفريقي وبالتلاقي معه، يمكن أن تكون تجربة الفيتوري استثناءً. لقد تقاطع مشروع الفيتوري مع تجربة «الزنوجة»، خلال أعمال عدة له، مثل ديوانه «أغاني إفريقيا» و«اذكريني يا إفريقيا»، ومسرحيته الشعرية «أحزان إفريقياـ سولارا». وقد كتب حول هذا التقاطع نقاد كثيرون، منهم الأستاذ الدكتور محمد السرغيني، والأستاذ محمود أمين العالم، والأستاذ بنعيسى بوحمالة. وقد أشار الأستاذ بوحمالة في كتابه «النزعة الزنجية في الشعر المعاصر» إلى أن «الزنوجة» بالنسبة للفيتوري «ليست إلا انتماءً إثنيًّا لا أيديولوجيًّا». وطبعًا، كما نعرف، لم تقف رحلة الفيتوري عند هذا الانتماء ولا عند حدود «الزنوجة». تداخلت في مراحل عدة من هذه الرحلة معالم مرتبطة بالغنائية الرومانتيكية، وبـ «الصوفية»، وبـالقومية العربية في صيغتها الناصرية (التي سوف تشهد انكسارًا كبيرًا)، فضلًا عن عناصر من الوجودية واليسارية، وهذا كله يجعل تجربة الفيتوري تفيض عن حدود «الزنوجة» وتتدفق وتمضي أحيانًا بعيدًا منها، في هذه الوجهة أو تلك.. هل هذا تفسير؟ ربما.

ليست هذه التساؤلات، وطبعًا هناك غيرها كثير، على سبيل التقنّع الذي يخفي تحته زعمًا بامتلاك إجابات. هي تساؤلات حقيقية مطروحة على التصور اليقيني الذي رأى أن «الزنوجة كانت تنهل من نبع مؤقت». فاليقين في هذه العبارة لا يكفي لإغلاق باب المداولة قبل إصدار حكم نهائي مطمئن حول صعود حركة الزنوجة وحول مآلها الأخير.


حسين حمودة - ناقد مصري | مارس 1, 2023




تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
في الأدب الإفريقي - ملف
المشاهدات
337
آخر تحديث
أعلى