سعيد يقطين - أحمد ولد قدور: عزف منفرد

كان أول ما اشتريت من منحتي، آلة تسجيل للاستمتاع بالطرب الشعبي، وكان شريط العواكَ وخربوعة، وحادة وعكي، من أولاها.

شغلت أول شريط لولد قدور، أمام والدي، كان الوالد ينهانا عن الموسيقى، لكنه كان يستمع إليها جيدا، بنصف أذن.. أما الوالدة فكانت تملأ أسماعها بها، بل وتغني معها، وترقص لها.

سألته بعد أن انتهى الشريط: كيفْ جاءكْ ولد قدور؟ قال: «اللي يغني وحده يطلب.. والفراجة مع الرباعة!».

يقصد بالمطرب الوحيد الذي يتنقل بين الأسواق الأسبوعية الشعبية بآلته الوترية، طالبا الصدقة.

أما الفرجة الحقيقية فتكون مع الرباعة. تتكون الرباعة الأصلية من أربعة مطربين يقدمون وجباتهم الغنائية بآلتين مختلفتين: أولاهما بلوتار وتعريجة وبندير ومقص، والثانية بالزمارة والأدوات الأخرى. وأدت ظروف الانتقال إلى المدن البعيدة، وانشغال بعض أعضاء الرباعة بالفلاحة، إلى بروز ظاهرة الثنائي الشعبي.

أما ظاهرة المغني الواحد فارتبطت بالحلاقي، بمن يعرفون بالمداحة، وهم يؤدون القصص الديني، والغزوات، والقصائد الاجتماعية مثل، عبد الكبير البهلولي، وعبد الكريم الفيلالي، ومحمد ولد آسفي، وسواهم.

عرفت ولد قدور مغنيا منفردا، لكنه كان بمثابة رباعة، صوت رقيق، وعزف على آلة لوتار بطريقة متفردة. مخزونه من التراث الشعبي المغربي في منطقة الشاوية ليس له حد، وقد انفرد بأداء قصيدة «الوشم الرقيق» ولم يؤدها أحد سواه إلى الآن، قصيدة ذات بناء خاص، ومحتوى عميق:

يبدأ القسم الأول منها بطلب من الحجام أن يرسم وشما رقيقا في مناطق متعددة من جسد المحبوبة. الوشم عبارة عن صور من بينها صورة الأطفال يقرؤون القرآن، وألواحهم المسطرة، والفقيه هو العلام.

أما القسم الثاني فهو رحلة صيد الغزلان، وفيها وصف دقيق الجمال لغزالة مع أبنائها، وهي تتوجس من أفعال الرماة على فلذات كبدها. وتنتهي القصيدة بربط وثيق بين قسميها.

أشبه هذه القصيدة بقصيدة النجمة التي أداها لأول مرة العوني والبهلول، والتي أحياها في الآونة الأخيرة الكثير من المطربين الشعبيين، وهم يتفننون في أدائها.

هاتان القصيدتان قديمتان جدا. ويذكر ولد قدور أنه سمعها من أبيه، وهو صغير، حيث كان يلهيه عن بعض الأشياء بدعوته إلى سماعها. يبدو لنا ذلك في كون حافظته قوية للتراث الشعبي في منطقة الشاوية.

ومن بين أهم معزوفاته «ساكن العلوة» الذي اشتهر به حتى صار البعض يعتقد أنه مبدعه، وهذا غير صحيح. إنه أبدع في أدائها لأنه ابن المنطقة التي أدى قبله الكثيرون هذا الساكن مثل قرزز ومحراش، وصالح والمكي، والعوني والعراش، وسواهم.

يعود لولد قدور الفضل في أنه ساهم في نشرها في العقود الأخيرة، إلى جانب أجيال جديدة من أولاد المنطقة مثل، منير البهلولي وعبد الإله الشباني.

وفي هذا دليل على أن أبناء المنطقة هم أدرى المغنين بتراثها. فساكن «العمرية» مثلا لا يتقنه سوى أولاد حريز، وأداؤه مع علي وعلي والحطاب كان الأصل، وقد استمر هذا حتى الآن مع إخوان البصير، وأولاد بن قربال، وإسماعيل ولد الجيلالي.

لم تتح لي فرصة اللقاء مع ولد أحمد ولد قدور والحديث معه إلا مرة واحدة، عندما حضر إلى مناقشة أطروحة حسن نجمي حول العيطة التي كنت رئيس لجنتها.

كانت هذه الأطروحة حدثا في تاريخ كلية الآداب في المغرب، لقد حضرها الكثير من المطربين الشعبيين والعصريين المغاربة، وكانت جديدة ورائدة في بابها وموضوعها. ويذكرني هذا الحدث بما قرأته عن دخول راوي السيرة الهلالية إلى رحاب كلية الآداب المصرية لأول مرة على يد الباحث عبد الحميد يونس.

فمتى ستصبح الثقافة الشعبية المغربية جزءا من مقررات كلياتنا؟ إننا لا نتذكر، عادة، رواد الثقافة الشعبية، إلا بعد وفاتهم رغم أدوارهم الكبيرة في حفظ الذاكرة الشعبية، والترويج لها، بطرق فنية متعددة تكشف انتماءهم لهذا التراث، وحرصهم على استمراره. أتذكر جيد، وأنا طفل صغير، كيف كانت جنازة بوشعيب البيضاوي في مدينة الدار البيضاء. كانت حدثا مشهودا، ولم تتكرر إلى الآن. وأتذكر في السياق نفسه ما كان قد كتبه صلاح عيسى عن جنازة أم كلثوم في القاهرة، ما يؤكد أن المتخيل الشعبي، والذاكرة الشعبية تراث لا يقل أهمية عن أي إبداع أو فكر.

تفنن ولد قدور في أداء أصناف وأنواع من التراث الشعبي المغربي، وأهم ما يتميز به عن غيره تهليلاته. وكان عزفه المنفرد مطبوعا بأصالة عتيقة. ظل وتره ثلاثي الأوتار كما كان قبل أن يضاف الوتر الرابع. وظل يعزف بأصبعه دون سطعة، أو ريشة.

سجل الكثير من الأشرطة والأقراص المدمجة منفردا أولا، ثم مع بعض الشيخات. وفي إحدى أغانيه مع إحداهما، نجد نقيضة على غرار نقائض الشعر العربي، فمن أول الشريط إلى آخره، كان يتناوب معها في أداء حبات العيطة، وكل من جاءت نوبته يقدم نوبة في هجاء الآخر، والتمثيل به، بطريقة لا تخلو من سخرية، وتنتهي الوجبة بالصلح بينهما.

حافظت الذاكرة الشعبية على تراث مهم، لكن دراسته مطلب حيوي للتطوير والإبداع والتجديد.



لوشام الرقيق














تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
ديوان الملحون والزجل والشعر العامي - ملف
المشاهدات
492
آخر تحديث
أعلى