د. زياد العوف - الصَّنَوبريّ شاعر الطبيعة

على الرّغم من الأجواء القاتمة ، والمآسي الدّامية، والسُّحب السوداء التي تجلّل عالمنا العربيّ في هذه الحِقبة المظلمة مِن تاريخنا المعاصر ، إلّا أنّ دورة الطبيعة لا تتوقّف ، ويأتي الربيع - ربّما على استحياء- ولكنّه لا يُخلف الوعد .
الإنسان وحده ، دون سائر الكائنات،
هو الذي يحاول ، عامداً أو ساهياً، أو عابثاً
التلاعب بناموس الطبيعة وقوانين
الاجتماع البشريّ ، جهلاً ورعونة وعدواناً وخسّة واستئثاراً. متوهّماً في نفسه الفطنة والحكمة والذكاء والدّهاء . ولكنّه الغرور الأجوف الذي يُورِد صاحبه ،ومَنْ حوله ،موارد التَّهلُكة الماحقة والخسران المُبين .
هذه الخواطر السوداء اقتحمت عليَّ مَسارأفكاري وأنا أهُمُّ بالترحيب بفصل الربيع ، فصلِّ تجدّد الحياة وانبعاثها من جديد ، مقتطفاً بعض الأزهار مِن حديقة الشعر العربيّ الغنّاء .ولكنّ الإنسان قرين الحياة
إلى أنْ يوافيَه الأجل المحتوم .
وهذا يعيد تفكيري إلى مساره الصحيح ، بعيداً عن الاستطراد ، الذي لا أراه هنا مُخلّاً على الإطلاق.
يكاد المؤرخون للشعر العربي ونقّاده
يجمعون على أنّ وصف الطبيعة قد وصل ذُروته السامقة في العصر العبّاسي. ولهذا أسبابه الموضوعية دون ريب ؛ إذ إنّ توسّع الوجود العربي خارج حدود شبه جزيرة العرب مع الفتوحات الإسلامية قد أتاح للشاعر العربي التواجد في أقاليم جغرافيّة ، وبيئات طبيعيّة أكثر غنى وأعظم تنوّعاً من بيئته الصحراويّة المحدودة بمفرداتها الطبيعية والنباتية ، على الرغم من امتدادها المترامي الأطراف .
ثمَّة أسماء كثيرة لامعة تألقت في سماء شعر الطبيعة في العصر العبّاسي، نذكر منها، على سبيل المثال لا الحصر، البحتُريّ وابن الروميّ وعليّ بن الجَهم والسريّ الرَّفّاء والصَّنوبريّ.
ولعلّ هذا الأخير هو شاعر الطبيعة الأول بين نظرائه الشعراء .
أمضى الصَّنوبري( أحمد بن محمد الضّبّي، ٢٧٥ - ٣٣٤ هجريّة) حياته متنقّلاً بين مسقط رأسه في مدينة
( أنطاكيّة) شماليّ سوريّا ،وكلّ من الرقّة والمَوصِل وحلب حيث كانت أطول فترات إقامته فيها.
إنّ ما يميّز هذا الشاعر عن غيره في هذا الفنّ الشعريّ إنّما هو استغراقه الكامل فيه ؛ بحيث يصحّ القول إنّ
الصّنوبريّ قد عاش في الطبيعة ومعها ولها. وربّما لا نغالي لو ذهبنا إلى القول إنّه قد توحّد معها، فغدا بذلك شاعر الطبيعة الأوّل في الأدب العربي في مشرق العالم العربي ومغربه على امتداد العصور .
لقد وقع اختياري على القطوف التالية من خميلته الشعريّة الملوّنة ، حيث يتجلّى عمق إحساس الشاعر بالطبيعة وتفاعله الوجدانيّ معها، الأمر الذي جعله يضفي على عناصرها مِن ورود وزهور ورياحين بعض الصفات الإنسانية التي تجلّتْ
في التنافس والخجل والحزن والبكاء وغير ذلك ممّا يعرض لبني البشر.
أرهِف السمع إليه وهو يصف معركة بين الزهور ما لبثتْ أن انتهتْ بمجلسٍ للصلح :
خجِلَ الوردُ حين لاحظهُ النرجسُ
مِنْ حسنهِ وغار البهارُ (١)
فعَلتْ ذاكَ حُمرةٌ، وعَلتْ ذا
صُفْرةٌ ، واعترى البَهَارَ اصفرارُ
وغدا الأقحوانُ يضحك عُجْباً
عن ثنايا لِثاتهنَّ نُضارُ (٢)
ثُمّ نمَّ النّمّامُ واستمع السوسنُ
لمّا أُذيعتِ الأسرارُ (٣)
عندها أبرز الشقيقُ خدوداً
صار فيها من لطمهِ آثارُ (٤)
سُكِبتْ فوقها دموع من الطَّلِّ
كما تُسكَبُ الدموع الغِزارُ (٥)
فاكتسى ذا البنفسج الغضُّ أثوابَ
حِدادٍ إذْ خانهُ اصطبارُ
وأضرَّ السّقام بالياسمين الغضِّ
حتى أذابهُ الإضرارُ
ثُمَّ نادى الخِيريُّ في سائر الزهرِ
فوافاه جحْفَلٌ جرّارُ (٦)
لم أزلْ أُعمِلُ التلطّفَ للوردِ
حَذاراً أنْ يُغلَبَ النّوّارُ
فجمعناهم لدى مجلس فيهِ
تغنّي الأطيارُ والأوتارُ
لو ترى ذا وذا لقلتَ خدودٌ
تُدمِنُ اللحظ نحوها الأبصارُ

١- البَهار : نبات طيّب الرائحة .
٢- ثنايا : أسنان ، لِثات : مغارز الأسنان ، النُّضار: الذّهب .
٣- النّمّام : نوع من الزهور.
٤- الشقيق : شقائق النّعمان .
٥- الطّلّ: النّدى .
٦- الخِيريّ : زهر المنثور الأصفر .

دكتور زياد العوف


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى