د. محمد عبدالله القواسمة - الوجود القومي للعرب قبل الإسلام

يحسن بنا قبل أن نبحث في الوجود القومي للعرب قبل الإسلام أن نحدد مفهوم الوجود القومي بالمعنى الذي نعرفه اليوم.
إن الوجود القومي لأية أمة من الأمم ينطوي على ركيزتين أساسيتين للقومية هما: الفكرة القومية، والمبدأ القومي. والفكرة القومية تتلخص على التقاء مجموعة من الناس في مصالح مشتركة وصفات متشابهة في الأحاسيس والمشاعر يضاف إلى ذلك ارتكاز هؤلاء الناس على مقومات مشتركة من الأصل البشري الواحد أو اللغة أو التاريخ وغيرها. أما عن المبدأ القومي، فينطوي على إخراج فكرة القومية من مجال الأماني والأحلام إلى حيز الواقع.

والركيزتان تكمل إحداهما االأخرى "وآية ذلك أنه إذا كانت فكرة القومية تعني إحساساً وشعوراً كامنين في نفوس أفراد جماعة معينة من الناس فإن مبدأ القومية هو في حقيقة الأمر دعوة سياسية واقتصادية واجتماعية تستند في حركتها الإيجابية إلى شعور أبناء هذه الجماعة الواحدة.."(1)

وعندما نتتبع الوجود القومي للأمة العربية، نجد أن هاتين الظاهرتين كانتا تسيران جنباً إلى جنب منذ القدم، قدم التاريخ.

ونحنُ سنبحث في أصل العرب، ونبين الروابط التي تجمعهم والصفات التي يشتركون فيها، أي سنبحث في الفكرة القومية عندهم، ثم نعرج إلى المبدأ القومي لنرى المحاولات الوحدوية التي كانت تقوم لإخراج تلك الفكرة إلى أرض الحقيقة.
منذ الزمن المجهول تاريخياً كانت شبه الجزيرة العربية ممتلئة بجماعات من السكان جاؤوا من أماكن مجهولة ونزلوا في جنوبها في منطقة اليمن؛ لأنها أصلح مناطق الجزيرة للعيش بسبب جودة مناخها، وخصب تربتها، وكثرة مياهها. بعد ذلك أخذ هؤلاء القوم يتوزعون في أنحاء الجزيرة، ويرحل بعضهم إلى الأقطار الشمالية.(2)

والوثائق والحفريات التي اكتشفت تثبت أن كلمة "عربي" وجدت في نقش آشوري يعود إلى عام 854 ق.م "ويذكر أن الملك شلمناصر الثالث أسر ألف جمل من جمال جنوب (جنديبو) العربي"(3)
وهنالك نقوشٌ أخرى اكتشفت تذكر العرب بأسماء لفظية تختلف باختلاف أصحاب النقش من أمثال: عريبي، عرابوا، عاريبي، عربايا، عروبو.
أما المؤرخ اليوناني هيردونس أبو التاريخ فيطلق على الصحارى الواقعة في الشرقين الأدنى والأوسط اسم "جزيرة العرب"، وسمَّى سُكانها عرباً.
ويذكرنا نسابو العرب في الجاهلية من أن العرب يقسمون إلى شعبين: عدنان، وقحطان، وشعب عدنان، هم عرب الشمال، ويدعون العرب المستعربة. أما شعب قحطان، فهم عرب الجنوب، ويسمون العرب العاربة، ويقيمون في اليمن وحضرموت. ومنهم انحدر عرب الشمال والعراق.

وكانت بين هذين الشعبين صلات مستمرة في التاريخ القديم وتاريخ الجاهلية، وقد أدت هذه الصلات إلى تفاعل في المشاعر والأحاسيس، فكأن نوعاً من الوحدة النفسية كانت تسود بينهم.
لم تكن وحدة الأصل هذه الظاهرة القومية الوحيدة التي كانت تجمع العرب. فبالإضافة إليها كانت تجمع بينهم مجموعة من الخصائص والخصال التي ساعدت على تطورهم، وسرعة تفاعلهم مع الأمم والشعوب التي اتصلوا بها. من هذه الخصائص والخصال:
الانفعال والسرعة
فالشعب العربي يتميز بهاتين الصفتين أكثر من غيره من الشعوب، فأتفه الأسباب ينفعل بها العربي، وتدفعه إلى أن يقتل، والتاريخ يروي لنا وقائع كثيرة قام بها الانفعال بدور حاسم، كحرب البسوس التي قتل فيها جساس زوج ابن أخته جليلة بسبب استجارة عجوز شمطاء قتل كليب ناقتها، فانبرى مهلهل للأخذ بثأر أخيه كليب. وتدوم الحرب بين القبيلتين أربعين سنة يروح بجرائها قتلى كثيرون من النساء والأطفال انفعالاً وغضباً.

وقد تغنى الشعراء بقوة الانفعال. ورغم وصفهم إياه بالجهل، إلا أنه كان من داعي فخرهم واعتزازهم، بقول أحد شعرائهم:

ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا(4)​

الشجاعة

والعرب شجعان يقتحمون المخاطر، ويخوضون الحروب، ويتحملون قسوة الطبيعة. وقد صور أحد شعرائهم شيئاً من هذا في قوله:

إذا همَّ ألقى بين عينيه عزمه​
ونـــــكــــب عـــن ذكر العواقب جانباً​
ولم يستشر في رأيه غـــيــر نفسه​
ولم يرضَ إلا قائم السيف صاحباً(5)​
3. السخاء​

هذه الخصيصة يكاد يتصف بها العرب وحدهم دون غيرهم. والسَّخاء عندهم يتم عند الإحساس بالرغبة في إعانة الغير. وهم يفضلون الكرم الذي يخرج عن حاجة وضرورة لا عن سعة، ويعتبرون الكرم الذي يشوبه التباهي ناقصاً غير حميد.. بقول الشاعر موضحاً هذه الخصلة عندهم.

وما أخمدت نارٌ دون طارق ولا ذمنا في النازلين نزيل(6)​
صلة القُربى والنّسب
يهتم العرب بصلة الدم اهتماماً كبيراً. لأن العربي "إنسان عائلي، يحب أن يحيا في عائلة"(7)، لذلك اشتدت النزعة القبلية بينهم بصورة قد تبدو غريبة وشاذة، كما تبدو هذه الظاهرة في اهتمامهم بالنسب وتسلسله بصورة فريدة كذلك؛ وبهذا نظروا إلى المرأة نظرة خاصة دفعتهم إلى وأد البنات للحفاظ على نقاء الأصل، وصفاء الروابط الأسرية.

ويضاف إلى هذه الصفات التي ذكرناها صفات أخرى منها: وفاؤهم بالعهد. وحفظهم حق الجار، وتقديسهم للحرية والكرامة، وقدرتهم على التلاؤم في مختلف ظروف الحياة.
ومن مظاهر القومية عند العرب أيضاً في الجاهلية في تلك الفترة البعيدة من التاريخ قبل مجيء الإسلام: اللغة، وانتشار الأسواق في الشمال والجنوب، ووجود الكعبة التي كان يقدسها العرب جميعاً، والندوات الأدبية التي كانت تقام في كل عام في سوق عكاظ وذي المجاز "ولقد وصلت الطقوس الدينية التي تقام للآلهة المختلفة في أجزاء شبه الجزيرة شمالاً وجنوباً إلى نوع من التشابه فيما بينها فالأضحيات والقرابين وطرائق الصلات كانت واحدة تقريباً لكل القبائل وإن كانت تقدم وتقام لآلهة مختلفة"(8).

وبالرغم من المظاهر القومية الآنفة الذكر، إلا أن قسوة البيئة الصحراوية، جعلت العرب يتفرقون إلى قبائل متنافرة، ويتقاتلون على موطن الكلأ والماء. فكانت تتجلى العصبية القبلية في أوضح صورها، لكن، سرعان ما كانت تختفي إذا ما تعرضوا إلى عدوان خارجي، فيبرز الوجود القومي للأمة العربية للتصدي لهذه الاعتداءات. يوضح ذلك مثالان: الأول غزو الأحباش لشبه الجزيرة، ومعركة ذي قار.
فعندما غزا أبرهة شبه الجزيرة العربية حوالى عام 571م أحس العرب بالخطر يتهددهم ويهدد مقدساتهم وعقائدهم؛ فتماسكوا واستماتوا في سبيل الدفاع عن وجودهم. ووقف عبد المطلب –الذي كان في ذلك الوقت سادن الكعبة- يناجي ربه مناجاة رائعة: "وإنك لن تسمح أبداً لهؤلاء الأحباش؛ ليرفعوا إشاراتهم على كعبتك، ويمحوا آثارنا، ويعبثوا بمقدسات القبائل".(9) وكانت النتيجة أن هزم الأحباش أشد هزيمة. وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في سورة الفيل. فقد كان المحاربون الأحباش بقيادة أبرهة يمتطون الفيلة.
أما معركة ذي قار فوضح التكتل القومي العربي فيها في إضراب الزوجات عن معاشرة أزواجهن، وتهديدهن بعدم الاعتراف بهم أزواجاً أو حتى رجالاً إذا لم يقبلوا على قتال أعدائهم من الفرس حتى النصر. فأنشدت هند بنت بياضة مع أترابها مهددات:

إن تقبلوا نعانقونفرش النمارق
أو تدبروا نفارقفراق غير وامق(10)

كذلك وضح هذا التكتل القومي في اجتماع القبائل العربية على قائد واحد هو حنظلة بن سيار رئيس بكر بن وائل. وكانت النتيجة أن انتصرت القومية العربية على أعدائها العجم انتصاراً ساحقاً، وقتل قائدهم الهامرز.
وقبل هذه المحاولات الوحدوية القومية جرت محاولات أخرى تعود إلى بداية معرفتنا بالتاريخ، لكنها، كانت خارج حدود الجزيرة العربية عند العرب الذين هاجروا منها عندما غصت بسكانها، فأصبح المطر شحيحاً، والأرض مقفرة. وقد طبعت هذه الأقطار مع الزمن بالطابع العربي لما يتحلى به العرب من الصفات التي وقفنا على بعضها في السَّابق.
لقد تعددت في بلاد الهجرة المحاولات لإقامة دولة عربية موحدة ذات نفوذ وسلطان تجمع في ظلها أمة العرب، وتقفُ بها أمام الأحداث بما يحفظ لها كيانها ويحميها.
ويمكن أن نتبين أول دولة من خلال التاريخ القديم الدولة المعينية في جنوب الجزيرة العربية منذ سنة 1200-1650 ق.م. وعلى أنقاض الدولة المعينية قامت الدولة السبئية، التي فرضت سلطانها على إمارات اليمن ووحدتها "وحاربت من أجل هذه الوحدة"(11)، حتى ورثت ملكها دولة الحميريين، التي استطاعت بسط نفوذها على سواحل حضرموت وتهامة والحجاز وسواحل البحر الأحمر وخليج البصرة وعلى أطراف الجزيرة حتى حدود الشام؛ بالإضافة إلى إمارات الوحدة اليمنية.
ثمّ نشأت دويلات أخرى غير دويلات الجنوب في عصور ما قبل الإسلام، منها: مملكة الأنباط التي أعقبتها دولة الغساسنة، التي يرجع ملوكها إلى قبيلة يمنية هاجرت إلى الشمال واستقر بها المقام في جنوب شرق دمشق. وقد اصطبغت بالصبغة السورية، وأقامت دولة عربية ازدهرت خلال القرن السادس الميلادي ازدهاراً كبيراً. لكنها سرعان ما دخلت ضمن النفوذ البيزنطي، وجعلها الروم حاجزاً لمنع غارات القبائل العربية.
وقد اهتم العرب الذين هاجروا عبر صحراء سينا أو عن طريق سواحل أثيوبيا إلى مصر مع مجرى النيل شمالاً بفكرة الدولة الموحدة. وربما يعود السبب إلى أنهم "دخلوا ومعهم حضارة أرقى مما كانت في مصر. وهم الذين جاؤوا بفن التحنيط والكتابة الهيروغليفية"(12) فقوم هذه الحضارة مُهيّأون للتفكير بالوحدة، والعمل على تحقيقها.
ولعل أبرز هذه المحاولات ما قام به مينا ملك مصر منذ حوالى أربعين قرناً قبل الميلاد بتوحيد دولتي وادي النيل في الشمال والجنوب، بعد أن كانتا في حروب مستمرة بينهما. وبذلك تكونت أول مملكة عربية متحدة.
وما كان الزمن يتقدم قليلاً بهذه المملكة العربية حتى أصبحت في عهد الأسرة الثانية عشرة إمبراطورية كبيرة، بلغت أوج عظمتها في عهد تحتمس الثالث، وكانت تضم من الشمال بلاد الشام وسيناء وفلسطين، ومن الجنوب بلاد النوبة والسودان والحبشة حوالى عام 1441ق.م.
وفي العراق قامت الدولتان الآشورية والبابلية على توحيد العراق. ثم عملت كل منهما على مد هذا السلطان إلى جميع مهاجر الجنس العربي في الشام ومصر وفلسطين وسيناء، بالإضافة إلى جزء كبير من الوطن الأصلي في شمال الجزيرة العربية.
وإلى هذا الحد وقف تحرك القومية العربية. وبدأت بلاد العرب تتعرض لغزوات أجنبية تخضعهم لسلطانها: فقامت في العراق الإمبراطورية الفارسية على أنقاض دولة البابليين، التي امتد سلطانها إلى مصر والشام. ثم زحف الإسكندر على المنطقة العربية، وأخضعها لسلطانه في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد. ثم قامت على أنقاض الدولة إمبراطورية الإسكندر ثلاث دول مختلفة هي: دولة البطالسة في مصر، ودولة السلوقيين في الشام، ودولة الساسنيّين في العراق.
استمرت تلك الدول في التناحر فيما بينها، حتى احتل الرومانيون في القرن الأول قبل الميلاد البقاع العربية، عدا العراق التي ظلت تحت حكم الفرس، ومنطقة وسط الجزيرة العربية، التي ظلت تخضع لحكم القبائل العربية.
وهنا قبعت القومية العربية وسط شبه الجزيرة العربية، حتى جاء الإسلام فأنقذها من سباتها، وفرض عليها أن تقود زحفاً مقدساً، تمثل في الفتوحات الإسلامية لتحرير الأراضي السليبة وتوحيدها.
وبذلك تكون القومية العربية قد دخلت بمجيء الإسلام مرحلة جديدة، تَتطبع بطابع الدين الحنيف.
المصادر والمراجع

1. محمود السقا، أضواء على المجتمع العربي، القاهرة: دار الاتحاد العربي،1970، ص131.

2. أنظر، محمد عزة دروزة، تاريخ الجنس العربي في مختلف الأطوار والأدوار والأقطار، بيروت: المطبعة العصرية، لا.ت، ص27
3. أنور الرفاعي. الإنسان العربي والتاريخ، طرابلس: دار الفكر،1971، ص14
4. للنص. محمد زغلول سلام، القومية العربية في الأدب الحديث، القاهرة: دار المعارف، 1959، ص10
5. للنص، المصدر السابق، ص12
6. للنص، نفسه، ص20
7. نفسه، ص21
8. محمود السقا مرجع سابق، ص133-134
9. للنص، محمود السقا المرجع السابق، ص134
10. للنص، أبو رزق، ما لا يعلمه الناس من الأوائل العربية، ط3، القدس: مطبعة دار الأيتام الإسلامية الصناعية، لا.ت، ص71.

11. طعيمة الجرف، أبحاث في المجتمع العربي: القومية العربية والتطور السياسي للمجتمع العربي، القاهرة: منشورات مكتبة القاهرة الحديثة، مطبعة دار الحمامي، 1965، ص125.
12. محمد عزة دروزة مرجع سابق، ص26.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى