لا يستطيع الأديب أن يواجه أثقال الحياة ومصائبها، وأن يخرج منها متوازنًا ومحافظًا على البقاء إلا باللجوء إلى الكتابة. كتابة يحلق بها حول معاناته، فيعيد صياغة ما واجهه في الحياة بأعمال تخييلية يُفرغ فيها آلامه وعذاباته وهواجسه وأفكاره. جميع الأدباء يغرقون في الكتابة لمواجهتهم الحياة، ولا يفترق بعضهم عن بعض إلا في طريقة التعبير، فبعضهم يلجأ إلى الوضوح والصراحة فيكشفون عن تجاربهم القاسية، وما خبروه من مرض وفقر وفقد وحرمان وموت الأحبة وفراقهم، وبعضهم يلجأ إلى الغموض والإخفاء، فيجعل العراقيل والحيل في طريق من يحاول التسلل إلى حدائقهم الخلفية؛ ليعرف حقيقة ما عبروا عنه في إبداعاتهم.
يستوقفنا من الأدباء الذين كانت معاناتهم المادية والنفسية محور إبداعاتهم الروائي الياباني كنزابورو أوي Kenzaburo Oe، الحائز جائزة نوبل للآداب عام 1994الذي غيبه الموت في الثالث من آذار الماضي عن ثمانية وثمانين عامًا، وفق ما أعلنه ناشر كتبه، لأن عائلته لم تعلن وفاته إلا بعد مرور عشرة أيام؛ لتكون جنازته بعيدة عن الأضواء.
وكنزابورو أوي هو الأديب الياباني الثاني الذي حصل على جائزة نوبل بعد الأديب ياسوناري كاواباتا الذي حصل عليها عام 1968. وكثير من الأدباء والنقاد اليابانيين يعده من أعمدة كتاب الرواية في اليابان. كما اتضح في أسلوبه الشائك، وطروحاته اللافتة، وموضوعات رواياته الإنسانية. وقد مدحه الأديب الياباني المعروف يوكيو ميشيما بأنه يمثل ذروة الأدب الياباني، في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وأعماله تتميز بواقعية دقيقة، حاقدة، ممتزجة بموهبة نصية قادرة على قول يبحث عن الرحمة والشفقة.
ولد أوي عام 1935 في قرية أوشي، التي تحيط بها الغابات في جزيرة شيكوكو أصغر الجزر الرئيسية في غربي اليابان. وكان الثالث بين سبعة أشقاء، وتوفي والده عام 1944. وكان في العاشرة عندما هُزمت اليابان في الحرب العالمية الثانية، والتحق بجامعة طوكيو ليدرس الآدب الفرنسي في الثامنة عشر من عمره.
كانت الصدمة الأولى التي انتابته في طفولته هي ما سمعه عن تدمير مدينتي هيروشيما ونجازاكي عام 1945م. وتعمقت مأساته عندما جاء هيروشيما بعد ذلك للكتابة عن التأثيرات اللاحقة لقصف المدينة بالقنبلة الذرية. لقد كان ما شاهده مصدر إلهام له فيما بعد ليغدو كاتبًا، إذ تجلت الكارثة النووية في كثير من أعماله مثل كتاب "مذكرات هيروشيما"، ورواية "الطوفان يصل إلى روحي".
أما الصدمة الثانية فكانت في عام 1963 عندما جاء ابنه هيكاري إلى الحياة، وهو مصاب بتلف حاد في الدماغ. وقد ترك مجيئه أثرًا كبيرًا في حياته فاهتم به اهتمامًا كبيرًا حتى بلغ وأصبح مؤلفًا موسيقيًا معروفًا وتوفي قبل أشهر من وفاة أوي نفسه. كما كان لهيكاري أثر كبير في كتابات كنزابورو ورواياته، فكان معظمها كما صرح محاولة لمنح ابنه صوتًا. من أهم تلك الروايات رواية "مسألة شخصية"، التي بدا فيها أبًا مترجحًا بين الأمل واليأس أمام مأساته بولادة ابن معاق له. ولكنه عاد في كتابه "علِّمنا كيف نتجاوز جنوننا" متسلحًا بالصير والأمل.
لقد كان لتينك الصدمتين تأثيرهما في كتابات أوي يضاف إليهما دراسته الأدب الفرنسي، وتأثيرات البيئة اليابانية وموروثها التقليدي الذي عاينه في قريته الريفية، التي تحيط بها الغابات التي كان يراها مصدر الخوف والموت والغموض. فمن خلال دراسته الأدب الفرنسي تعرف أهمّ الأعمال الأدبية باللغة الفرنسية، مثل أعمال رابليه، والكتّاب المعاصرين أمثال: جان بول سارتر، وفردينان سيلين، وألبير كامو، والشعراء مثل: ويليام بلايك، وت. س. إليوت، وييتس وغيرهم. ولمع نجمه في الكتابة وهو في العشرينيات من عمره؛ إذ نال جائزة "أكوتاغاوا" عن كتابه "طريدة التدجين" وهو في الثالثة والعشرين. وهي أول جائزة مرموقة تُعطى لأديب ياباني في هذا العمر. وقد رفض جائزة وسام الثقافة الياباني عام 1944 لأنه لا يعترف " بأي سلطة أو قيمة أعلى من الديمقراطية""
أما عن تأثيرات البيئة اليابانية فكان أوي في البداية يعود من خلال الكتابة إلى قريته، فيستعمل لغة تختلف عن اللغة اليابانية المستعملة في طوكيو، ولكن عندما انتقل إلى طوكيو، تعلم استخدام اللغة اليابانية الموحدة مع أنه ظل يؤثر العودة إلى ميثولوجية قريته التي كانت متمسكة بالتقاليد اليابانية العريقة. لقد كان دائم الحنين إلى القرية، وكان ينتابه الاضطراب والقلق، وهو يرى نفسه في منفى كطائر خارج السرب، كما يبدو في روايته "اقتلعوا البراعم، اقتلوا الأولاد" 1958م. ثم نجده قبل حصوله على نوبل يعبّر عن حنينه إلى العودة الأبدية إلى القرية في روايتين هما: "رسالة إلى سنوات الحنين" و" غرائب الغابة"
لقد اندفع أوي تحت وطأة المؤثرات السابقة إلى رفض ثقافة المركز التي مركزها طوكيو وكان يطالب بحق القطيعة مع هذه اليابان المسؤولة مباشرة عن الهزيمة في الحرب العالمية الثانية وعن الكارثة التي حلّت باليابان دون أن يبرئ من قاموا بالمجزرة. وتوجهه هذا يخالف ما ذهب إليه الكاتب ميشيما في أعماله التي مجد فيها الثقافة اليابانية التي تدافع عن الإمبراطورية، ورأى في انتحاره على طريقة الهاراكيري دليلًا على تقديسه تلك الثقافة وذلك الإمبراطور، الذي استحال بعد إذاعته بيان الهزيمة من الإذاعة اليابانية إنسانًا بعد أن كان إلهًا في نظر اليابانيين الذي بكوا عندما اكتشفوا صوته للمرة الأولى. لقد تبنى فكرة نهاية الأيديولوجيا الإمبراطورية في اليابان. فهاجم هذه الأيديولوجيا في مواقفه وأعماله العديدة التي انشغلت بالقضايا السياسية والاجتماعية، فكان المعبّر الأول عن هموم المثقفين اليساريين الجدد في ستينيات القرن الماضي. ولعل روايته الأخيرة التي نوهت بها لجنة جائزة نوبل "الموت غرقًا" التي صدرت عن شركة المطبوعات في بيروت عام 2019 بترجمة أسامة أسعد تمثل عالم الرواية عند أوي وطريقة مواجهته للحياة ومصائبها. فالرواية تحكي سيرة الكاتب الذاتية بطريقة لا تخفى على من يعرف حياته، وجاء اسم بطلها كوغيتو، البلغ من العمر ثمانين عامًا وله ابن وُلد بدماغ غير عادي. ويمضي أوي في روايته فيبين حال الإنسان الذي يفقد توازنه في عالم المدينة، حين يغادر غابته الروحية إلى العالم الخارجي. إنه يبتدع الشخوص والأماكن والأحداث والأزمنة والحوارات بأسلوب يتعمد استخدام الإحالات والتناصّات المختلفة فمن نص قديم من نصوصه إلى اقتباسات مقاطع من إدوارد سعيد إلى شعر من ييتس ودانتي وت. س إليوت وغيرهم.
هكذا واجه كنزابورو الحياة بالكتابة، وجاءت رواياته وكتاباته الأخرى تسرد حياته الخاصة بما فيها من صدمات، أهمها صدمة وطنه المهزوم في الحرب العالمية الثانية، وصدمة الابن المعاق. كما تكشف ما أحاط تلك الحياة من جوانب واسعة من الحياة العامة الاجتماعية والسياسية والفنية التي سادت اليابان، وتجلى فيها أوي رافضًا الظلم، وداعيًا إلى نبذ الحروب والاستغناء عن المفاعلات النووية حتى السلمية منها. إن ما أبدعه يدلل على أن الأديب يستطيع مواجهة مصاعب الحياة، ومعالجة صدماتها الفردية والجماعية بالكتابة.
يستوقفنا من الأدباء الذين كانت معاناتهم المادية والنفسية محور إبداعاتهم الروائي الياباني كنزابورو أوي Kenzaburo Oe، الحائز جائزة نوبل للآداب عام 1994الذي غيبه الموت في الثالث من آذار الماضي عن ثمانية وثمانين عامًا، وفق ما أعلنه ناشر كتبه، لأن عائلته لم تعلن وفاته إلا بعد مرور عشرة أيام؛ لتكون جنازته بعيدة عن الأضواء.
وكنزابورو أوي هو الأديب الياباني الثاني الذي حصل على جائزة نوبل بعد الأديب ياسوناري كاواباتا الذي حصل عليها عام 1968. وكثير من الأدباء والنقاد اليابانيين يعده من أعمدة كتاب الرواية في اليابان. كما اتضح في أسلوبه الشائك، وطروحاته اللافتة، وموضوعات رواياته الإنسانية. وقد مدحه الأديب الياباني المعروف يوكيو ميشيما بأنه يمثل ذروة الأدب الياباني، في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وأعماله تتميز بواقعية دقيقة، حاقدة، ممتزجة بموهبة نصية قادرة على قول يبحث عن الرحمة والشفقة.
ولد أوي عام 1935 في قرية أوشي، التي تحيط بها الغابات في جزيرة شيكوكو أصغر الجزر الرئيسية في غربي اليابان. وكان الثالث بين سبعة أشقاء، وتوفي والده عام 1944. وكان في العاشرة عندما هُزمت اليابان في الحرب العالمية الثانية، والتحق بجامعة طوكيو ليدرس الآدب الفرنسي في الثامنة عشر من عمره.
كانت الصدمة الأولى التي انتابته في طفولته هي ما سمعه عن تدمير مدينتي هيروشيما ونجازاكي عام 1945م. وتعمقت مأساته عندما جاء هيروشيما بعد ذلك للكتابة عن التأثيرات اللاحقة لقصف المدينة بالقنبلة الذرية. لقد كان ما شاهده مصدر إلهام له فيما بعد ليغدو كاتبًا، إذ تجلت الكارثة النووية في كثير من أعماله مثل كتاب "مذكرات هيروشيما"، ورواية "الطوفان يصل إلى روحي".
أما الصدمة الثانية فكانت في عام 1963 عندما جاء ابنه هيكاري إلى الحياة، وهو مصاب بتلف حاد في الدماغ. وقد ترك مجيئه أثرًا كبيرًا في حياته فاهتم به اهتمامًا كبيرًا حتى بلغ وأصبح مؤلفًا موسيقيًا معروفًا وتوفي قبل أشهر من وفاة أوي نفسه. كما كان لهيكاري أثر كبير في كتابات كنزابورو ورواياته، فكان معظمها كما صرح محاولة لمنح ابنه صوتًا. من أهم تلك الروايات رواية "مسألة شخصية"، التي بدا فيها أبًا مترجحًا بين الأمل واليأس أمام مأساته بولادة ابن معاق له. ولكنه عاد في كتابه "علِّمنا كيف نتجاوز جنوننا" متسلحًا بالصير والأمل.
لقد كان لتينك الصدمتين تأثيرهما في كتابات أوي يضاف إليهما دراسته الأدب الفرنسي، وتأثيرات البيئة اليابانية وموروثها التقليدي الذي عاينه في قريته الريفية، التي تحيط بها الغابات التي كان يراها مصدر الخوف والموت والغموض. فمن خلال دراسته الأدب الفرنسي تعرف أهمّ الأعمال الأدبية باللغة الفرنسية، مثل أعمال رابليه، والكتّاب المعاصرين أمثال: جان بول سارتر، وفردينان سيلين، وألبير كامو، والشعراء مثل: ويليام بلايك، وت. س. إليوت، وييتس وغيرهم. ولمع نجمه في الكتابة وهو في العشرينيات من عمره؛ إذ نال جائزة "أكوتاغاوا" عن كتابه "طريدة التدجين" وهو في الثالثة والعشرين. وهي أول جائزة مرموقة تُعطى لأديب ياباني في هذا العمر. وقد رفض جائزة وسام الثقافة الياباني عام 1944 لأنه لا يعترف " بأي سلطة أو قيمة أعلى من الديمقراطية""
أما عن تأثيرات البيئة اليابانية فكان أوي في البداية يعود من خلال الكتابة إلى قريته، فيستعمل لغة تختلف عن اللغة اليابانية المستعملة في طوكيو، ولكن عندما انتقل إلى طوكيو، تعلم استخدام اللغة اليابانية الموحدة مع أنه ظل يؤثر العودة إلى ميثولوجية قريته التي كانت متمسكة بالتقاليد اليابانية العريقة. لقد كان دائم الحنين إلى القرية، وكان ينتابه الاضطراب والقلق، وهو يرى نفسه في منفى كطائر خارج السرب، كما يبدو في روايته "اقتلعوا البراعم، اقتلوا الأولاد" 1958م. ثم نجده قبل حصوله على نوبل يعبّر عن حنينه إلى العودة الأبدية إلى القرية في روايتين هما: "رسالة إلى سنوات الحنين" و" غرائب الغابة"
لقد اندفع أوي تحت وطأة المؤثرات السابقة إلى رفض ثقافة المركز التي مركزها طوكيو وكان يطالب بحق القطيعة مع هذه اليابان المسؤولة مباشرة عن الهزيمة في الحرب العالمية الثانية وعن الكارثة التي حلّت باليابان دون أن يبرئ من قاموا بالمجزرة. وتوجهه هذا يخالف ما ذهب إليه الكاتب ميشيما في أعماله التي مجد فيها الثقافة اليابانية التي تدافع عن الإمبراطورية، ورأى في انتحاره على طريقة الهاراكيري دليلًا على تقديسه تلك الثقافة وذلك الإمبراطور، الذي استحال بعد إذاعته بيان الهزيمة من الإذاعة اليابانية إنسانًا بعد أن كان إلهًا في نظر اليابانيين الذي بكوا عندما اكتشفوا صوته للمرة الأولى. لقد تبنى فكرة نهاية الأيديولوجيا الإمبراطورية في اليابان. فهاجم هذه الأيديولوجيا في مواقفه وأعماله العديدة التي انشغلت بالقضايا السياسية والاجتماعية، فكان المعبّر الأول عن هموم المثقفين اليساريين الجدد في ستينيات القرن الماضي. ولعل روايته الأخيرة التي نوهت بها لجنة جائزة نوبل "الموت غرقًا" التي صدرت عن شركة المطبوعات في بيروت عام 2019 بترجمة أسامة أسعد تمثل عالم الرواية عند أوي وطريقة مواجهته للحياة ومصائبها. فالرواية تحكي سيرة الكاتب الذاتية بطريقة لا تخفى على من يعرف حياته، وجاء اسم بطلها كوغيتو، البلغ من العمر ثمانين عامًا وله ابن وُلد بدماغ غير عادي. ويمضي أوي في روايته فيبين حال الإنسان الذي يفقد توازنه في عالم المدينة، حين يغادر غابته الروحية إلى العالم الخارجي. إنه يبتدع الشخوص والأماكن والأحداث والأزمنة والحوارات بأسلوب يتعمد استخدام الإحالات والتناصّات المختلفة فمن نص قديم من نصوصه إلى اقتباسات مقاطع من إدوارد سعيد إلى شعر من ييتس ودانتي وت. س إليوت وغيرهم.
هكذا واجه كنزابورو الحياة بالكتابة، وجاءت رواياته وكتاباته الأخرى تسرد حياته الخاصة بما فيها من صدمات، أهمها صدمة وطنه المهزوم في الحرب العالمية الثانية، وصدمة الابن المعاق. كما تكشف ما أحاط تلك الحياة من جوانب واسعة من الحياة العامة الاجتماعية والسياسية والفنية التي سادت اليابان، وتجلى فيها أوي رافضًا الظلم، وداعيًا إلى نبذ الحروب والاستغناء عن المفاعلات النووية حتى السلمية منها. إن ما أبدعه يدلل على أن الأديب يستطيع مواجهة مصاعب الحياة، ومعالجة صدماتها الفردية والجماعية بالكتابة.