رائد الحواري - قصائد الأندلس

الموضوع الواحد والتقديم المتعدد
جميل أن نقرأ موضوع من خلال ثلاثة كتاب/شعراء، وضمن ثلاثة أزمة، فهذا يعرفنا من ذهنية الكتاب في ذاك الزمن، وأيضا يقربنا من طريقة التفكير التي فكر فيها المجتمع إلى المأساة التي حلت بالأندلس، القصيدة الأولى لأبو البقاء الروندي، والتي نجده مسلما لما آلت إليه أحول العرب في الأندلس، مستخدما أقول وحكم حاسمة، تنهي موضوع فقدان الأندلس أو التفكير باستعادة ما فقد من ممالك وعز في الديار:
" لِـكُلِّ شَـيْءٍ إِذَا مَـا تَـمَّ نُقْصَانُ
فَـلَا يُـغَرُّ بِـطِيبِ الْعَيْشِ إِنْسَانُ
هِـيَ الْأُمُـورُ كَـمَا شَاهَدْتُهَا دُوَلٌ
مَـنْ سَـرَّهُ زَمَـنٌ سَاءَتْهُ أَزْمَانُ
وَهَـذِهِ الـدَّارُ لَا تُـبْقِي عَلَى أَحَدٍ
وَلَا يَـدُومُ عَـلَى حَـالٍ لَهَا شَانُ"
بالتأكيد مثل هذه الفاتحة تجعل المتلقي يسلم بما حصل تسليما كاملا، وكأن الشاعر يعزي الجموع بما حصل من كارثة في الأندلس، لهذا جاءت الأبيات وكأنها حكم تهدئ من روع السامعين/المتلقين للفاجعة، يستعين الشاعر بالتاريخ وبالفكر الديني، ليؤكد ما جاء في بداية القصيدة، وليحسم أمر ذهاب/فقدان/ضياع الأندلس نهائيا:
" أين الملوك ذَوو التيجان من يمنٍ
وأين منْهمْ أكاليلٌ وتيجانُ؟
وأين ما شاده شدَّادُ في إرمٍ
وأين ما ساسَهُ في الفرس ساسانُ؟

وأين ما حازه قارون من ذهبٍ
وأين عادٌ وشدادٌ وقحطانُ؟
أتى على الكُل أمر لا مَرد له
حتى قَضَوا فكأن القوم ما كانوا"
إذن مخاطبة الناس بالثقافة بالطريقة التي يفهمونها مسألة في غاية الأهمية، فتركيز الشاعر على إثارة أسئلة بعينها، أراد بها أن يؤكد على الحكم والأقوال الحاسمة التي جاءت في فاتحة القصيدة، لكن، اللافت أن الشاعر هنا لم يستخدم الأسئلة لإثارة التفكير والتوقف عند المشكلة لإيجاد حلول، أو لاستعادة ما فُقد، بل جاءت لتجعل المتلقي يسلم بما حصل، فلا يتعب ولا يشقى ولا يتحسر ولا يتألم على المفُقود والضائع، وهذا الشكل لاستخدام للأسئلة قليل في عصرنا، فنحن نستخدمها للإثارة وتوقف المتلقي عندها متفكرا متأملا، وليس لنهدئه بها ونخدره.
وبعدها يدخل الشاعر إلى التحسر عل ما فقد في الأندلس:
" وأين "قُرطبةٌ" دارُ العلوم فكمْ
من عالمٍ قد سما فيها له شانُ
وأين "حمص" وما تحويهِ من نزهٍ
ونهرهُا العَذبُ فياضٌ وملآنُ
قواعدٌ كنَّ أركانَ البلاد فما
عسى البقاءُ إذا لم تبقَ أركانُ
تبكي الحنيفيةَ البيضاءُ من أسفٍ
كما بكى لفراق الإلفِ هيمانُ
على ديار من الإسلام خاليةٍ
قد أقفرت ولها بالكفر عُمرانُ
حيث المساجد قد صارت كنائسَ ما
فيهنَّ إلا نواقيسٌ وصُلبانُ
حتى المحاريبُ تبكي وهي جامدةٌ
حتى المنابرُ ترثي وهي عيدانُ"
بداية حديث عن العلم والذي كان في اوجه في الأندلس يشير إلى المكانة التي احتلها في نفوس الشعراء والمفكرين والعلماء، لهذا قدمه الشاعر على المسألة الدينية، التي تعد أهم ركن عند المجتمع، ومع هذا يأخرها الشاعر ويقدم عليها الفكر والعلم، كما يقدم متحسرا على الطبيعة المدن التي انشأها العرب والعز المادي ورفاهية الحياة على المظاهر الدينية، كل هذا يجعلنا نقول أن الإنسان/المجتمع يسعى إلى الحياة الرغيدة والسوية، وتبقى هي الغاية الأسمة في حياته، وإذا ما توقفنا عند طريقة تناول المسألة الدينة، لا نجد التحسر عليها لأنها دينية، بل لأنها كانت جزء من ماضي سعيد، ماضي مجيد، فالتغييرات التي حدثت في المساجد تذكر الشاعر بما كانت فيه من نعم وخير.
وهذا ما يجعلنا نقول أن التركيز على المكان يشير إلى الأهمية والحضور القوي له في النفوس، فهو يتقدم على أي مسألة أخرى، وما تناوله للمساجد إلا من باب تناوله للمكان، لكنه هذا التناول (ينشط) ذاكرة الشاعر وعاطفته تجاه الدين فأخذ يثير المتلقي عاطفيا وفكريا من خلال تناوله للمساجد التي تحولت إلى كنائس.
بعد الحديث عن المكان والتغييرات التي حدثت عليه وفيه، ينتقل إلى الحديث عن الناس وما آلت إليه أحوالهم:
"بالأمس كانوا ملوكًا في منازلهم
واليومَ هم في بلاد الكفرِّ عُبدانُ
فلو تراهم حيارى لا دليل لهمْ
عليهمُ من ثيابِ الذلِ ألوانُ
ولو رأيتَ بكاهُم عندَ بيعهمُ
لهالكَ الأمرُ واستهوتكَ أحزانُ
يا ربَّ أمّ وطفلٍ حيلَ بينهما
كما تفرقَ أرواحٌ وأبدانُ
وطفلةً مثل حسنِ الشمسِ إذ طلعتْ
كأنما هي ياقوتٌ ومرجانُ
يقودُها العلجُ للمكروه مكرهةً
والعينُ باكيةٌ والقلبُ حيرانُ
لمثل هذا يذوب القلبُ من كمدٍ
إن كان في القلبِ إسلامٌ وإيمانُ"
يتقدم الشاعر من الناس وما حل بهم بعد أن فقدوا المكان، متناولة صور عامة وصورة محددة، وهذا ليثير المتلقين ويحثهم على فعل شيء لهؤلاء الناس، وهذا الترتيب ـ المكان، الدين، الناس ـ في تناول مأساة الأندلس يعكس اهتمام الشاعر ونظرته إلى أي المسائل أكثر اهمية بالنسبة له، فكان المكان ثم الدين ثم الناس، يشير إلى أن المكان/الجغرافيا هي مركز الحدث، من هنا قدمها على الدين وعلى الناس.
وقبل أن نخرج من القصيدة نسأل هل أراد الشاعر ربط الأندلس بالشام عندما :
"وأين "حمص" وما تحويهِ من نزهٍ "
أم أن هذه المدينة كانت في الاندلس وتم محوها من الوجود؟.

قصيدة نزار قباني
يتحدث ن الأندلس بطريقة عادية، فالمرأة التي أثارة عاطفته التاريخية كانت أقوى وأكثر حضورا من الأمجاد الغابرة، واعتقد أن الصورة الشعرية التي جاءت في هذا البيت:
"سارت معي.. والشعر يلهث خلفه
كسنابـل تركـت بغيـر حصاد"
تؤكد على أن الشاعر يميل نحو المرأة أكثر من المكان، وللافت أن الشاعر يربط الأندلس ببلاد الشام:
"وجــه دمــشــقـي رأيـت خــلالـه .. أجـفـان بـلـقـيـس وجـيــد سـعــادِ
...
ودمـشق، أيـن تكون؟ قلت ترينها .. في شعـرك المنساب نـهـر سـوادِ"
وإذا توقفنا عند مضمون القصيدة والألفاظ التي استخدمها الشاعر نجدها ناعمة وبعيدة عن التوتر والانفعال، وهذا يؤكد على أنه تعامل مع الأندلس كمكان عادي، لكن عندما قالت "هنا الحمراء:
"قالت: هنا "الحمراء" زهو جدودنا .. فـاقـرأ على جـدرانها أمــجــادي
أمـجـادهـا؟ ومسحت جرحًا نـازفًا .. ومسحت جرحًا ثانيـًا بـفــؤادي
يـا لـيـت وارثـتـي الجـمـيلـة أدركـت .. أن الـذين عـنـتــهـم أجـــدادي"
نجد الشاعر يتفجر عاطفيا وأخذ يتجه نحو الألم والقسوة، فإذا قارنا هذه الأبيات مع هذا البيت الذي سبق الانفجار العاطفي
"ومـشيت مثل الطفل خـلف دلـيـلـتـي .. وورائـي التـاريـخ كـوم رمــادِ"
يتأكد لنا أن العربي مهما يحاول أن يضبط نفسه أمام الواقع، إلا أنه يتفاعل ويتأثر عندما يقارن امجاده السابقة بواقعة البائس.
أما قصيدة محمد عبد الباري "أندلسان" فقد جاءت من بدايتها منفعلة وبوتيرة سريعة، من هنا نجد العديد من الأفعال والألفاظ القاسية حاضرة فيها:
"الـذاهــبـــون أهـلَّـة وغـمـامـا .. تـركــوا شــبـابــيـك الـبـيـوت يـتـامـى"
ورغم هذا الانفعال إلا أن الشاعر لم يهمل الصور الشعرية فكانت هذه الصورة:
"دخلوا القصيدة وهي تغلق نفسها .. وتجـمـعـوا فـي الـذكريـات ركـامـا"
لتأكد على لأن الشاعرية حاضرة رغم الانفعال وحالة التوتر التي يمر بها الشاعر.
والشاعر يربط الأندلس بالشام كحال بقية الشعراء، الذي يقرنون مجد الأندلس بمجد الشام:
"لا بـأس دع عـيـنـيـك فـي حـزنـيـهـما .. أمـويـتـان وتــطــلبــان شـآمـا"

رائد الحواري




الحوار المتمدن-العدد: 6464 - 2020 / 1 / 14


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى