إبراهيم بيومي مدكور - النفس وخلودها عند أبن سينا

النفس سر الله في خلقه وآيته في عباده، ولغز الإنسانية الذي لم يحل بعد، وقد لا يحل يوما ما. هي مصدر المعارف المختلفة والمعلومات المتباينة، ولكنها لم تسم إلى أن نعرف حقيقتها معرفة صادقة يقينية؛ وهي منبع الأفكار الواضحة الجلية، إلا أن فكرتها عن ذاتها مشوبة بقدر كبير من الغموض والإبهام. ومع هذا فالإنسان منذ نشأته تواق إلى تعرفها جاد في تفهمها، ولا يزال حتى اليوم يبذل قصارى جهده في إدراك كنهها والوقوف على أمرها. وبوده أن يعرف في دقة ماهيتها ويدرك الصلة بينها وبين الجسم ويتبين مصيرها ومآلها. وكيف لا وهو طلعة يحب أن يعرف كل شيء، وهو في معرفة الأشياء المجهولة والأمور المستترة أرغب. وإذا كان قد خطا خطوات فسيحة في سبيل فهم الطبيعة وتوضيح آياتها فنفسه التي بين جنبيه أولى بالبحث والتوضيح، هذا إلى أنه مدني بطبعه لا يستطيع أن يعيش بمعزل عن إخوانه وذويه، ومعرفته لنفسه كثيراً ما تعينه على تفهم بني جنسه، وكم بذل الأخلاقيون والمربون من جهد في تحديد الدعائم النفسية التي يقوم عليها إصلاحهم ووعظهم وتعليمهم وإرشادهم. والأديان والشرائع تخاطب النفوس قبل أن تخاطب الأبدان، وتتجه إلى الأرواح أكثر من اتجاهها إلى الأجسام. والثواب والعقاب والمسؤولية الأخلاقية والدينية بوجه عام تدعو إلى التفكير في الروح وخلودها ومآلها بعد مفارقة البدن. ففي أحوال الإنسان الفردية وظروفه الاجتماعية وأبحاثه العلمية وتعاليمه الدينية ما يدفعه إلى كشف ذلك السر الذي أودعه الله فيه والذي آمن به الناس جميعا دون أن يروه.

لهذا كان موضوع النفس شغل الباحثين والمفكرين في مختلف العصور؛ وليس ثمة فيلسوف إلا أدلى فيه برأي وتعرض له بالبحث والتحليل، وربما كان في تاريخه ما يلخص تاريخ الفلسفة بأسرها. بيد أن أبن سينا، فيما نعتقد، قد عني به عناية كبيرة لا نجدها لدى واحد من رجال التاريخ القديم والمتوسط. حقاً إن أفلاطون تحدث عن النفس في محاورات عدة ووقف على خلودها محاورة مستقلة؛ وكتاب أرسطو في النفس ومؤلفاته المسماة (بالطبيعيات الصغرى) تصعد به إلى مرتبة أسمى عالم نفسي عرف في التاريخ القديم. ولم يغفل أفلوطين أمر النفس في تاسوعاته، وشغل بوجه خاص بهبوطها من العالم العلوي واتصالها بالعالم السفلي ورغبتها الدائمة في أن تعود إلى مقرها الأصلي. ولفلاسفة القرون الوسطى المسيحيين وخاصة أوغسطين وتوماس أبحاث مختلفة في حقيقة النفس ووظائفها. إلا أن هؤلاء جميعاً لا يبدو عليهم الشغف بهذا الموضوع مثل ما شغف به أبن سينا، فإنه يعود إليه غير مرة ويقف عليه جملة رسائل مستقلة، ويتحدث عنه في كل كتبه الرئيسية التي وصلت إلينا. ففي كتاب القانون المعروف يبين قوى النفس المختلفة على طريقة الأطباء ويشير إلى الصلة بينها وبين الجسم. وفي الشفاء يعقد فصلاً مستفيضاً يفصل فيه أراءه النفسية، وفي النجاة يلخص هذا الفصل ويصوغه في قالب مدرسي محكم، وفي الإشارات ينظم في نحو عشرين صفحة عقداً من مسائل علم النفس كله درر قيمة وآيات بينة. وله تعليق على كتاب النفس لأرسطو لا يزال مخطوطاً حتى اليوم ولم يقنع بهذا، بل كتب رسالة قيمة في القوى النفسية أهداها للأمير نوح بن منصور الساماني، ورسالة أخرى في معرفة النفس الناطقة وأحوالها، وشرح هبوطها إلى الجسم وحنينها إلى مصدرها الأول في قصيدة مشهورة.

كنا نتوقع وأبن سينا هو الطبيب والفيلسوف أن يستخدم طبه في دراسة الظواهر النفسية وأن يستعين بالملاحظة والتجربة على شرحها وتوضيحها فينمي معلوماتنا ويخطو بنا إلى الأمام في سبيل هذا البحث الدقيق. ولكنه، فيما يظهر: كان يعتقد أن الفصل في مشاكل علم النفس ليس من عمل الطبيب ولا من دائرة اختصاصه، بدليل أنه يشير في القانون إلى بعض نقط متصلة من نفس وقواها قد اختلف فيها الأطباء والفلاسفة، ويصرح بأن الكلمة كلمة الآخرين. وإن استيفاء هذه النقط إنما يتم في كتبهم والواقع إن التجارب المنظمة والأبحاث العلمية الدقيقة المتصلة بالنفس أثر من آثار التاريخ الحديث وحده، بل القرنين الأخيرين فقط، وفي وسط طبي حضر فيه التشريح وحرم من الأدوات الحديثة لم يكن في الإمكان دراسة المخ والجهاز العصبي دراسة تجريبية كاملة. ولا نكاد نحظى بباحث بين المسلمين نحى هذا المنحى التجريبي فيما وراء أبن الهيثم الذي أدلى بآراء في الضوء والرؤية تقترب مما جاء به فيبير حديثاً. وأما ما يذهب إليه أبن سينا من تقسيم المخ إلى مناطق تقابل قوى النفس المختلفة ومن ملاحظات فيسيولوجية شيء فهو ترديد لما قال به أطباء وفلاسفة اليونان. فقد كان أمامه تراث عظيم خلفه أفلاطون وأرسطو وجالينوس وأفلوطين أفاد منه كثيراً وعول عليه التعويل كله. وإليه يرجع الفضل في عرض هذا التراث في صورة واضحة مهذبة لم نعهدها عند سابقيه، وإذا كان قد فاته أن يتوسع في دراسة المخ والظواهر النفسية دراسة تجريبية فإنه لم يفته أن يفتن في البرهنة على وجود النفس وخلودها افتناناً يستلفت النظر ويستحق التقدير. ولعل ذلك راجع إلى أن النزعة الميتافزيقية والفلسفية البحتة غلبت عليه في كل أبحاثه النفسية

وبالرغم من أن أبن سينا عالة على السابقين في أغلب آراءه المتعلقة بالنفس وأحوالها فإنه قدر لهذه الآراء نجاح عظيم في القرون الوسطى ولدى بعض رجال التاريخ الحديث، فكانت عماد علم النفس جميعه في العالم العربي منذ القرن العاشر الميلادي إلى أخريات القرن التاسع عشر؛ وخلفت آثاراً واضحة في الفلسفة المدرسية اليهودية والمسيحية؛ واتصلت بنسب إلى بعض ما جاء به ديكارت في حقيقة النفس ووجدوها. وقد عرف لها الباحثون المحدثون هذه المنزلة فسارعوا إلى دراستها وجمع مصادرها وبيان أثرها في المدارس الغربية. وربما يكون البادرون كارادي فومن أول من لخصوها وحاولوا إعطاء فكرة عنها. فقد عقد لعلم النفس السينوي (نسبة إلى أبن سينا) فصلاً في كتابه المسمى: ثم جاء الدكتور صليبا أخيراً فتوسع في هذا الموضوع قليلاً في رسالته التي تقدم بها إلى السربون للحصول على الدكتوراه. أما من اشتركوا في نشر مؤلفات أبن سينا السيكولوجية فيجب أن نشير أولاً إلى الدكتور صمويل لانداور الذي نشر رسالة القوى النفسية المهداة إلى نوح بن منصور الساماني سنة 1875؛ وقد وفق في عمله هذا كل التوفيق وأحاطه بوسائل الدقة والبحث الصحيح فاعتمد على أصول عربية وعبرية ولاتينية ليختار النص المناسب والتعبير المقبول؛ ولم يفته أن يرجع إلى المصادر اليونانية رجاء أن يوضح بها بعض عبارات أبن سينا. وعلى ضوء مجهوده العظيم استطاع فنديك بعد ذلك بنحو 30 سنة أن يعيد نشر هذه الرسالة مرة أخرى مع ترجمة إنجليزية دقيقة وفي العام الماضي نشر ثابت أفندي الفندي أحد خريجي كلية الآداب ومبعوثها الآن في باريس رسالة أخرى في معرفة النفس الناطقة وأحوالها. ويظهر أن أثر أفكار أبن سينا السيكولوجية في المدارس المسيحية قد شغل الباحثين ومؤرخي الفلسفة من قديم. ففي النصف الثاني من القرن الفائت نرى هانيبرج يدرس نظرية المعرفة لدى أبن سينا والبير لجراند. وفي أوائل القرن العشرين كتب فنتر في إحدى صحف مونيخ العلمية مقالاً طويلاً عن الجزء السادس من طبيعيات الشفاء المترجم إلى اللاتينية، وهذا الجزء هو الذي يدرس فيه أبن سينا النفس وقواها وفي سنة 1929 وفى المسيو جلسن مؤرخ الفلسفة المدرسية وأستاذها في (كوليج دي فرانس) هذا الموضوع حقه من البحث، وبين أثر أبن سينا في هذا المضمار بما لا يدع مجالاً للشك

وفي اختصار يمكننا أن نقول إن علم النفس عند ابن سينا كان أعظم حظاً من أجزاء فلسفته الأخرى وكان نصيبه من الدراسة والبحث أكبر منها جميعاً، بيد أن هذه الدراسات على اختلافها ناقصة وغير مقنعة. فبعضها لا يخرج عن ترجمة حرفية أو ملخص غير كامل لآراء أبن سينا. وبعضها يعنى بهذا الفيلسوف لدى اللاتينيين أكثر من عنايته به لدى العرب، ويفصل القول في أثره في الغرب تاركاً جانباً ما كان من أمره في الشرق، وأغلبها ينسى الأساس اليوناني الذي بنى عليه فلسفته عامة وأبحاثه النفسية خاصة. وسنتتبع هنا آراءه النفسية المختلفة مبينين أولا صلتها بالوسط الذي نشأ فيه وبالأفكار الإسلامية على العموم وباحثين ثانياً عن منابعها لدى فلاسفة اليونان وأطبائهم، ومظهرين أخيراً ما كان لهما من أثر في الشرق والغرب.




الدكتور إبراهيم بيومي مدكور
مدرس الفلسفة بكلية الآداب


مجلة الرسالة - العدد 188
بتاريخ: 08 - 02 - 1937

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى