د. محمد عبدالله القواسمة - القصة النقدية القصيرة

يُقدّم القاص السعودي حسين السنونة في مجموعاته القصصية القصيرة التي منها: "ثرثرة خلف المحراب"2019، و"آخرون كانوا هنا" 2003، و"مجرد معطف" 2022، و"نساء قريتي لا يدخلن الجنة" 2023 وغيرها سهام النقد إلى الواقع المعايش بروح متمردة، رافضة لكثير من الظواهر السلبية في المجتمع. كما يرصد التناقض الذي يتجلّى في النفس الإنسانية، وهو في خضم ذلك لا يتجاهل مراعاة الجوانب التقنية، والخصائص النوعية لفن القصة القصيرة التي تتميز بالتكثيف والإيجاز.

لعلنا نستطيع تقديم نموذج تطبيقي للسرد النقدي في قصص السنونة القصيرة بقراءة قصة "ثرثرة خلف المحراب" التي جاءت ضمن المجموعة التي حملت عنوان القصة نفسها؛ لأنها من أوائل القصص التي كتبها القاص من ناحية، وتتكرر بنيتها الشكلية في كثير من القصص التي تضمنتها قصصه اللاحقة من ناحية أخرى، كما قصته القصيرة" آخرون كانوا هنا" من مجموعة تحمل عنوان القصة ذاتها.

يلاحظ أن العنوان "ثرثرة خلف المحراب" يضعنا أمام المكان القصصي مباشرة، وهو "المحراب" وما يدور فيه من فعل لفظي، يُطلق عليه القاص على سبيل السخرية لفظ "ثرثرة". وإذ يتهيأ المتلقي لمعاينة المكان يفاجأ بأن الراوي المتكلم المسمى مراد يفتتح القصة بقوله:" أنهيت الوضوء بنية الاتجاه للصالة في المسجد القريب من منزلي، صوت الأذان يتردد في الأفق" إنه ،يتوضأ ليتجه إلى الصلاة في المسجد القريب من منزله، ويمضي في وصف الطقس والمحال التجارية التي في المكان. وبعد هذه المقدمة التي لا ضرورة لها تبدأ القصة مع القول:" وصلت المسجد، وكعادتي جلست في الصف الثاني، الصف الأول مكتمل، كذلك الثاني، الصف الثالث وصل إلى النصف . الجالسون في الصف الأمامي بعضهم شباب وحتى أطفال"

تقوم القصة على حدث بسيط. لكن رغم بساطته فإنه يبعث تيارًا يتكون من مجموعة من عناصر نفسية تقوم على التداعي الحر، والمناجاة، والمونولوج الداخلي. إنه تيار من الوعي تحت مسمى "ثرثرة" ينصبّ على نقد المجتمع، وما فيه من ظواهر سلبية تتصل بجوانب الحياة المختلفة. في مقدمتها قلة عدد المصلين في المسجد، فليس غير ثلاثة صفوف، والصف الثالث غير مكتمل، وقد كان أكثر مَن في الصف الأمامي من الشباب والأطفال، الذين لا يطلقون لحاهم "ليتلاعب بها الهواء؟!" ولعل في قوله هذا سخرية بمن يطيل اللحية، ويتركها دون تشذيب.

والراوي ينتقد تأخر الإمام عن الصلاة، ويتساءل عن سبب تأخره، ولكنه يجد له العذر؛ لأنه ليس كغيره من الشيوخ "يرفض أخذ الأموال تحت أي مسمى"

ويتجه عقله، في غياب الشيخ، وجهات لا تتفق مع هيبة الشيخ وأهميته. لكنها تتجاوب مع الطبيعة الإنسانية حين تغرق في الانتظار حتى ولو كانت في أوج العبادة وطقسها الروحي. فيتساءل الراوي عن المسلسل الذي يواظب على مشاهدته، فهو مسلسل رائع، ويخشى أن تفوته الحلقة الأخيرة منه.

ثم يتبع ذلك بدعاء أن يفوز الفريق الرياضي الذي يحبه على خصمه الفريق الآخر، ثم يدعو إلى الله أن يوافق البنك على منحه قرضًا بفوائد قليلة ولمدة خمس سنوات، وأن تنقل زوجته المعلمة من مكان عملها إلى مكان قريب؛ ليتخلص من الغربة والافتقار الجنسي. وحين ترن الهواتف الجوالة في قاعة المسجد يصوب نقده إلى أدوات الحداثة التي تلوث المكان وتبث فيه الاضطراب. ويقود هذا إلى انتقاد بعض المصلين في المسجد، فذلك العجوز لا يهتم بنظافة ملابسه وترتيب لحيته، ثم ذلك الفتى الذي سوى شعره بطريقة غريبة، وذاك الذي تنبعث من ثيابه رائحة الدخان. ثم يعود إلى التعوذ من الشيطان الرجيم من هذه الشطحات غير الإيمانية، ثم يقطع ذلك ليتذكر ما طلبته أمه من السوق، فينتقد غلاء الأسعار، فقد صار سعر الطماطم بسعر برميل النفط. ويصل به الضيق والملل إلى التساؤل عن صلاة الجماعة هل هي ضرورية أم لا؟ ويتوقف تيار الوعي عن التدفق عندما يحضر الشيخ وتقام الصلاة.

هكذا فإن قصة "ثرثرة خلف المحراب" تقدم بعناصرها الثلاثة: الزمان والمكان والحدث انثيالات نفسية متمردة رافضة ما في المجتمع من تشوهات ومفاسد وبقع سوداء؛ لتعكس أزمة الإنسان المعاصر. وهي بنية كما لاحظنا بسيطة تتكرر في بنيات كثيرة من القصص التي أبدعها القاص حسين السنونة، لكنها تقدم أنموذجًا ناجحًا للقصة النقدية القصيرة.

د. محمد عبدالله القواسمة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى