ربما إنها سماء الشمس، أو يد الشعر مع الحشد الذي يكتب. الآخر يد تكتب إذن. يد بين باب واحد، فقط. لكن من هو هذا الآخر الذي يسكن لا وعي الشاعر الذي يقترف جريمة الشعر؟ ما شكله أو رائحته؟ وحين نحاول الدنو من الآخر، إن اللسان أو الألسنة تسقط. تسقط لأنها تتربص باستطرادات يد، إيماءاتٍ، وربما الآخر يشوش رأس الشاعر، لأنه يأتي أو لا يأتي.
ونحن نواجه شعريا سؤال الآخر في الشعر أو معه، وكأننا نحاول نزع حجاب رمزي تحت سماء لم تعد قادرة على مطر شعري ما، ثم ماذا لو كان الآخر فضاءَ الشعر بامتياز. مجالٌ يتسكع فيه الشعراء بحداثة طرية. حداثة تربط وتفكك. تكتب وتتمتم. في شعر الإنسانِ الآخرِ منفردة تكون الأسئلة منفردة ومتشعبة، خصوصا أنَّ الشاعر يُقَدِّمُ بينما الآخر يجري في عنفوانه وشموخه شعريا. هنا تحضر اليد التي ترغب في الآخر وتناديه في الما- بين. برزخ يتخبط في صورة الآخر منذ القديم وزمان ولَّى. وكأننا نرى يد طرفة بن العبد تكتب الآتي:
«فدعني أبادرها بما مَلَكَتْ يدي» مبادرة طرفة في مملكة يدوية وشعرية.. ولمَ لا. يد طرفة ترافقنا في رسم الآخر بالأبيض والأسود ربما، ثم نقتفي أثره الصعب بين ثنايا تاريخانية تتجدد وتتموسق على إيقاع آلهة غريبة. اللسان الشعري المشاكس، دائما في هجرة يومية ومستمرة. الشاعر إذن يطل من النافذة على العالم أو الكوسموس ليكتب معناه من الإعراب. إملاء مهمةٍ تحاول تغيير مظهر الآخر وحيزه أيضا. مرات ومرات، النفري يمارس غرابته النثرية، لأنه يعلِّمنا كتابة الآخر بعربية ثالثة. عربية ثالثة قد تأتي أو لا تأتي. لأنها حدث شعري عميق فِكريا. الآخر وعْدُ جواب ما على حد تعبير جاك دريدا وهو يقارب متن فرنسيس بونج الشعريَّ. وحتى نعَقِّدَ الأمور قليلا أو كثيرا، من الممكن أن نقول إن الشعر والآخر عدالة شعرية تفكك علاقتنا بالعالم والشعر. سياسة الصداقة التي تربط الشعر مع الآخر. وفي حكومة الشعراء يظهر الآخر في الكتابة كما لو أنه قنفذ المعركة، يتكور كالشعر. يحارب بظهره الشائك جريمة الكتابة شعريا. «أنا مصاب بمرض، إنني أبصر اللغة» جملة رولان بارت. جملة تحث على التفكير والتساؤل. هل يعقل أن يصير الشاعر في شعره مريضا لأنه يبصر الآخر المتعدد والمزركش ووجها لا وجه له، حيث المساء يتقدم فينا لنفهم قليلا حتى لا نكتب كثيرا. أجل، الآخر غرابة كغربة جبران خليل جبران في حديقة الكتابة. وكأن الشاعر يخرج من «أناه» ليوجد أمام الآخر أو فيه أو ضده. تارة، الشاعر مع المعري. تارة مع بودلير، تارة مع فيليب بيك، تارة مع المعتزلة. وتارة، قط وأبدا ليس وحيدا. لأنه مع الآخر في أقصى تناقضاته. الشعر هنا أو هناك، وليس في كل مكانٍ حيث الآخر سماء مرهونة عقاريا. وحين الشاعر يكتب الشعر في جبة الآخر الذي قد يكون حيازةً لا يمكن استحواذُ زمام أمورها، لأنَّ الشعر يستضيف الآخر ليستوعب عطر المعنى الذي يتجلى بصعوبة، كما لو أننا فكريا أمام غموض لا نهائي، أو ما يمكن أن نسميه بتعاقب فكرة الشعر في هذه العلاقة التي تتغنج وتتصرف شعريا في حال الكتابة الشعرية.
هكذا هو الشاعر يتأرجح بين أناه وظلال الآخر، لذلك، يقيم اللسان في لا توازن لساني. الشاعر في هوس كتابته وخطوط طوله وعرضه يحاول، ثم فجأة، أبو العلاء المعري يهمس في أذنه: «إنك نزيل حليبها» أبو العلاء دائم التساؤل في وقفته الإبداعية. غريبة مسارب الشعر في تشعباتنا الراهنة، الآخر، كما نتخيله في تخييلنا، وعْدٌ لن يتحقق، الآخر كينونة متقلبة ومضطربة، الآخر بقيا تُنَضِّد الأثر الشعري. ربما، إن الشاعر في هذه الحالة، يتمتم ليصير غريبا في لسانه ولسانِ الآخر، أيضا.
وعلى طريقة دانتي، الشاعر يتوقف وهو محجوز أمام توهج نورٍ ما، وحتى يسقط سياسيا في جمال المقبل بروح تقرأ الآخر لتكتبه حتى تعيد كتابته. وهنا بالذات، يحصل الشاعر على مصداقية إبداع مدهش ومنفرد لأنه مع الآخرين. مع شعراء آخرين، يعبُر الآثار وهو يمارس الجهيرَ المتواصل. نعم، يعْبُر مع الآخر، وهنا نستحضر مثلا الشاعر الفرنسي فيليب بيك الذي كتب ما يلي (من ترجمتي) بأجنحةٍ – عكاكيز، الطائر يخفق/ في الحقبة/ والقوسُ الجسدُ خَضَّبَ البهوَ/ حيث داخل الدائرة يرمي بالنائمين، فراشاتِ سهلٍ/ على خريطةٍ من سلالة القسوة». مجازات فيليب بيك واستعاراته تقتحم شعريا مسألة الشعر والآخر. الشاعر طائر يكتب الحقبة في خريطةٍ لسانية متفردة. حيث رمزيا، العلاقة مع الآخر قاسية ولَيِّنَةٌ في الآن نفسه. هنا تكمن أهميتها وخصوصيتها، حرب طيبة حيث اللسان سلاح مبني للمجهول.
غنائية جديدة تأتي من مستقبل دائم التموج، لأنه ينفلت. ولأنه كذلك، علاقة الشعر بالآخر تأخذ شكل تحويل دموي يتجلى كما لو أنه «المُكَهْرَبُ الأول لشريط الانطلاقة» الضاربة في سماء الكتابة، أو ربما للآخر غرضُ هوة شعرية. لكن كيف نفتحها؟ ما الأشياء التي تُوَرِّطُ الخارج في شغل الداخل؟ تلك بعض الأسئلة التي تتشظى كلما وضعناها في الكبسولة الدافئة، ولربما هيأنا لها الأجواء لحروب مستترة مقبلة مع نهضة الأموات كما كتب ذات يوم بختي بن عودة بمكره التعددي. وحين الآخر يرافق الشاعر كأفق لفكر يتفوق ليقول بدعابة إنه إبط العالم. ولعل أعمق ما يميز شعرية هذا الآخر هو نكتبه بتوتر لساني فيه ثقب فيه وظيفية فيه تداخل فيه جنون الجميل الآسر فيه سبيبة تشكيلية لأنه (الآخر) يتعدد ويتضاعف في مطية أدبية تستوعب وجودها في العالم، في منتصف طريق حياتنا، بشكل عام. دائما ونحن نتقدم في متاهات الآخر إبداعيا، نلتقي بالشاعر تسيلان حين يكتب: «نفترق وكلانا يحضن الآخر». إنها استراتيجية سياسة شعرية مختلفة تماما. الشاعر تسيلان يكتب حليب العالم الأسوَدَ ويفترق ليحضن شيئا ما تراجيديّاً، من طبيعة الحال. ثم النفري، بدورة يقتفي الصوت النثري في صحراء تهيئ صيدلية غريبة للكتابة.
ثم، ماذا لو كان هذا الآخر يشير إلى: الفاتن/ المتأسف/ الحلم/ التزامن والتطابق/ الإقليم/ الأدب المطلق/ الحشد العاشق أو الذي يكتب/ القدحي، أيضا. للشاعر حق صغير في حصته من «لغة مصهورة في صوائت وسواكن، كأنها ذائبة في حركة التجربة» كما يشير أدونيس. وكل فكر شعري في حاجة إلى مخطط أو تصورٍ وسطٍ بين المعنى المجرد والإدراك، لذلك الآخر يكون في أمس الحاجة إلى صيغة لسانية ليكثف زمن وكتابة الشعر. ربما، يرتدي الشاعر عباءة سقراط حين تكلم في هلاك الأدب الذي لا يتحمل ما ليس هو عليه. ما لا يستطيع الشعر مثلا، يمكن تحقيقه لسانيا في إمكانية خلق استراتيجيات تفكك مساره المقذوف، بشكل من الأشكال. ثم مرة أخرى، يحضر النفري في تمثل الآخر. كأنه بقدر ما يعلم يقول: أعرف أنني لا أعرف. ثم، فجأة يحضر الآخر في هيئة سيرةِ كشفٍ مبنية للمجهول. هنا، الآخر يخترق حقول معرفة تحمل اسما شعريا جريحا على طريقة عبد الكبير الخطيبي. ثم مساء الشعر هنا. مساء الشعر وقت كَشْف. مساء الشعر وقت حِدادٍ. مساء الشعر وقت كآبة. مساء الشعر وقت انفصال. مساء الشعر وقت تحوُّل. نترجم ما قلناه: الآخر وقت كشف. الآخر وقت حِداد، الآخر وقت كآبة. الآخر وقت انفصال. الآخر وقت تحوٌّل.
إننا في ترحيل شعري نحاول اكتراء ثكنة مرعبة تحت شمس الصباح والمساء: سماء الشعر تغتصب جسد الآخر في العالم. ومن الممكن أن يتحول الآخر شعريا إلى بقرة مُكًهْرَبَةٍ. كما الحداثة وما بعدها. ألسنا أمام جنون فلسفي ونحن نقرأ الآخر؟ ألسنا أمام الغياب في الحضور؟ ألسنا أمام ما لا يمكن القبض عليه؟ ألسنا في مأزق دريدا التفكيكي؟ ألسنا أمام زهرة البلاغة أو قنفذ الشعر؟ ألسنا أمام القصيدة على حساب الأخر الشعري؟ إننا ونحن نقرأ، ما هو مكتوب سابق لما هو صوت. الرماد الشعري ليس إلا، ولا تبحثوا. الآخر يُضحِّي بالمعرفة ليرسم فم القصيدة على بركان آخر.
أخيرا، من ترجمتنا، نقترح شيئا من شعر كريستوف تاركوس (1963- 2004) وكأنه يقارب عُرْوَةَ (علاقة) الشاعر بالآخر.
الشعر ذكاء
الفكر الإنساني شعر.
الشاعر ذكي. يهيئ صعوبة الفكر. الفكر مخنوق، يابس ودبق، الشاعر يمسده، يلينه، يستثيره. والشاعر، مرة أخرى، يجذب الذكاء من سباته، يحرض على الخروج رأسه، أعضاء مخيخه، قفاه وأصابعه.
أليست لعبة التفكيك والاختلاف تنتج كتابة تفاجئ وتوَجِّه وجه الفيلسوف الكاتب نحو ختان يشَيِّدُ، كما لو أثر يتحول داخل نسيج النص؟ ثم تسمية الأشياء كما في الشعر تخترع قلبا لا قلب له: قلب الكتابة وهو يعيد أرشيف عبور مهجور. ومن هنا، نبوءة دريدا: ترجِمْني وشاهِدْني حتى أبقى أطول قليلا.
الشاعر يهيئ فكره.
الذكاء لا ينبثق من نفسه. يرطب الجمجمة، يجرف رؤيته نحو النظر فيما وراء الشيء، ثم يمزق بطنه. لا يندفع دون استعداد، الشاعر ذكي، يلج صعوبة الفكر. الشاعر يرتحل في الحيز، يتمرن على الكينونة، وهو يفكر، يهيئ نقل الصور.
الشاعر يتهيأ كي يفكر.
ونحن نواجه شعريا سؤال الآخر في الشعر أو معه، وكأننا نحاول نزع حجاب رمزي تحت سماء لم تعد قادرة على مطر شعري ما، ثم ماذا لو كان الآخر فضاءَ الشعر بامتياز. مجالٌ يتسكع فيه الشعراء بحداثة طرية. حداثة تربط وتفكك. تكتب وتتمتم. في شعر الإنسانِ الآخرِ منفردة تكون الأسئلة منفردة ومتشعبة، خصوصا أنَّ الشاعر يُقَدِّمُ بينما الآخر يجري في عنفوانه وشموخه شعريا. هنا تحضر اليد التي ترغب في الآخر وتناديه في الما- بين. برزخ يتخبط في صورة الآخر منذ القديم وزمان ولَّى. وكأننا نرى يد طرفة بن العبد تكتب الآتي:
«فدعني أبادرها بما مَلَكَتْ يدي» مبادرة طرفة في مملكة يدوية وشعرية.. ولمَ لا. يد طرفة ترافقنا في رسم الآخر بالأبيض والأسود ربما، ثم نقتفي أثره الصعب بين ثنايا تاريخانية تتجدد وتتموسق على إيقاع آلهة غريبة. اللسان الشعري المشاكس، دائما في هجرة يومية ومستمرة. الشاعر إذن يطل من النافذة على العالم أو الكوسموس ليكتب معناه من الإعراب. إملاء مهمةٍ تحاول تغيير مظهر الآخر وحيزه أيضا. مرات ومرات، النفري يمارس غرابته النثرية، لأنه يعلِّمنا كتابة الآخر بعربية ثالثة. عربية ثالثة قد تأتي أو لا تأتي. لأنها حدث شعري عميق فِكريا. الآخر وعْدُ جواب ما على حد تعبير جاك دريدا وهو يقارب متن فرنسيس بونج الشعريَّ. وحتى نعَقِّدَ الأمور قليلا أو كثيرا، من الممكن أن نقول إن الشعر والآخر عدالة شعرية تفكك علاقتنا بالعالم والشعر. سياسة الصداقة التي تربط الشعر مع الآخر. وفي حكومة الشعراء يظهر الآخر في الكتابة كما لو أنه قنفذ المعركة، يتكور كالشعر. يحارب بظهره الشائك جريمة الكتابة شعريا. «أنا مصاب بمرض، إنني أبصر اللغة» جملة رولان بارت. جملة تحث على التفكير والتساؤل. هل يعقل أن يصير الشاعر في شعره مريضا لأنه يبصر الآخر المتعدد والمزركش ووجها لا وجه له، حيث المساء يتقدم فينا لنفهم قليلا حتى لا نكتب كثيرا. أجل، الآخر غرابة كغربة جبران خليل جبران في حديقة الكتابة. وكأن الشاعر يخرج من «أناه» ليوجد أمام الآخر أو فيه أو ضده. تارة، الشاعر مع المعري. تارة مع بودلير، تارة مع فيليب بيك، تارة مع المعتزلة. وتارة، قط وأبدا ليس وحيدا. لأنه مع الآخر في أقصى تناقضاته. الشعر هنا أو هناك، وليس في كل مكانٍ حيث الآخر سماء مرهونة عقاريا. وحين الشاعر يكتب الشعر في جبة الآخر الذي قد يكون حيازةً لا يمكن استحواذُ زمام أمورها، لأنَّ الشعر يستضيف الآخر ليستوعب عطر المعنى الذي يتجلى بصعوبة، كما لو أننا فكريا أمام غموض لا نهائي، أو ما يمكن أن نسميه بتعاقب فكرة الشعر في هذه العلاقة التي تتغنج وتتصرف شعريا في حال الكتابة الشعرية.
هكذا هو الشاعر يتأرجح بين أناه وظلال الآخر، لذلك، يقيم اللسان في لا توازن لساني. الشاعر في هوس كتابته وخطوط طوله وعرضه يحاول، ثم فجأة، أبو العلاء المعري يهمس في أذنه: «إنك نزيل حليبها» أبو العلاء دائم التساؤل في وقفته الإبداعية. غريبة مسارب الشعر في تشعباتنا الراهنة، الآخر، كما نتخيله في تخييلنا، وعْدٌ لن يتحقق، الآخر كينونة متقلبة ومضطربة، الآخر بقيا تُنَضِّد الأثر الشعري. ربما، إن الشاعر في هذه الحالة، يتمتم ليصير غريبا في لسانه ولسانِ الآخر، أيضا.
وعلى طريقة دانتي، الشاعر يتوقف وهو محجوز أمام توهج نورٍ ما، وحتى يسقط سياسيا في جمال المقبل بروح تقرأ الآخر لتكتبه حتى تعيد كتابته. وهنا بالذات، يحصل الشاعر على مصداقية إبداع مدهش ومنفرد لأنه مع الآخرين. مع شعراء آخرين، يعبُر الآثار وهو يمارس الجهيرَ المتواصل. نعم، يعْبُر مع الآخر، وهنا نستحضر مثلا الشاعر الفرنسي فيليب بيك الذي كتب ما يلي (من ترجمتي) بأجنحةٍ – عكاكيز، الطائر يخفق/ في الحقبة/ والقوسُ الجسدُ خَضَّبَ البهوَ/ حيث داخل الدائرة يرمي بالنائمين، فراشاتِ سهلٍ/ على خريطةٍ من سلالة القسوة». مجازات فيليب بيك واستعاراته تقتحم شعريا مسألة الشعر والآخر. الشاعر طائر يكتب الحقبة في خريطةٍ لسانية متفردة. حيث رمزيا، العلاقة مع الآخر قاسية ولَيِّنَةٌ في الآن نفسه. هنا تكمن أهميتها وخصوصيتها، حرب طيبة حيث اللسان سلاح مبني للمجهول.
غنائية جديدة تأتي من مستقبل دائم التموج، لأنه ينفلت. ولأنه كذلك، علاقة الشعر بالآخر تأخذ شكل تحويل دموي يتجلى كما لو أنه «المُكَهْرَبُ الأول لشريط الانطلاقة» الضاربة في سماء الكتابة، أو ربما للآخر غرضُ هوة شعرية. لكن كيف نفتحها؟ ما الأشياء التي تُوَرِّطُ الخارج في شغل الداخل؟ تلك بعض الأسئلة التي تتشظى كلما وضعناها في الكبسولة الدافئة، ولربما هيأنا لها الأجواء لحروب مستترة مقبلة مع نهضة الأموات كما كتب ذات يوم بختي بن عودة بمكره التعددي. وحين الآخر يرافق الشاعر كأفق لفكر يتفوق ليقول بدعابة إنه إبط العالم. ولعل أعمق ما يميز شعرية هذا الآخر هو نكتبه بتوتر لساني فيه ثقب فيه وظيفية فيه تداخل فيه جنون الجميل الآسر فيه سبيبة تشكيلية لأنه (الآخر) يتعدد ويتضاعف في مطية أدبية تستوعب وجودها في العالم، في منتصف طريق حياتنا، بشكل عام. دائما ونحن نتقدم في متاهات الآخر إبداعيا، نلتقي بالشاعر تسيلان حين يكتب: «نفترق وكلانا يحضن الآخر». إنها استراتيجية سياسة شعرية مختلفة تماما. الشاعر تسيلان يكتب حليب العالم الأسوَدَ ويفترق ليحضن شيئا ما تراجيديّاً، من طبيعة الحال. ثم النفري، بدورة يقتفي الصوت النثري في صحراء تهيئ صيدلية غريبة للكتابة.
ثم، ماذا لو كان هذا الآخر يشير إلى: الفاتن/ المتأسف/ الحلم/ التزامن والتطابق/ الإقليم/ الأدب المطلق/ الحشد العاشق أو الذي يكتب/ القدحي، أيضا. للشاعر حق صغير في حصته من «لغة مصهورة في صوائت وسواكن، كأنها ذائبة في حركة التجربة» كما يشير أدونيس. وكل فكر شعري في حاجة إلى مخطط أو تصورٍ وسطٍ بين المعنى المجرد والإدراك، لذلك الآخر يكون في أمس الحاجة إلى صيغة لسانية ليكثف زمن وكتابة الشعر. ربما، يرتدي الشاعر عباءة سقراط حين تكلم في هلاك الأدب الذي لا يتحمل ما ليس هو عليه. ما لا يستطيع الشعر مثلا، يمكن تحقيقه لسانيا في إمكانية خلق استراتيجيات تفكك مساره المقذوف، بشكل من الأشكال. ثم مرة أخرى، يحضر النفري في تمثل الآخر. كأنه بقدر ما يعلم يقول: أعرف أنني لا أعرف. ثم، فجأة يحضر الآخر في هيئة سيرةِ كشفٍ مبنية للمجهول. هنا، الآخر يخترق حقول معرفة تحمل اسما شعريا جريحا على طريقة عبد الكبير الخطيبي. ثم مساء الشعر هنا. مساء الشعر وقت كَشْف. مساء الشعر وقت حِدادٍ. مساء الشعر وقت كآبة. مساء الشعر وقت انفصال. مساء الشعر وقت تحوُّل. نترجم ما قلناه: الآخر وقت كشف. الآخر وقت حِداد، الآخر وقت كآبة. الآخر وقت انفصال. الآخر وقت تحوٌّل.
إننا في ترحيل شعري نحاول اكتراء ثكنة مرعبة تحت شمس الصباح والمساء: سماء الشعر تغتصب جسد الآخر في العالم. ومن الممكن أن يتحول الآخر شعريا إلى بقرة مُكًهْرَبَةٍ. كما الحداثة وما بعدها. ألسنا أمام جنون فلسفي ونحن نقرأ الآخر؟ ألسنا أمام الغياب في الحضور؟ ألسنا أمام ما لا يمكن القبض عليه؟ ألسنا في مأزق دريدا التفكيكي؟ ألسنا أمام زهرة البلاغة أو قنفذ الشعر؟ ألسنا أمام القصيدة على حساب الأخر الشعري؟ إننا ونحن نقرأ، ما هو مكتوب سابق لما هو صوت. الرماد الشعري ليس إلا، ولا تبحثوا. الآخر يُضحِّي بالمعرفة ليرسم فم القصيدة على بركان آخر.
أخيرا، من ترجمتنا، نقترح شيئا من شعر كريستوف تاركوس (1963- 2004) وكأنه يقارب عُرْوَةَ (علاقة) الشاعر بالآخر.
الشعر ذكاء
الفكر الإنساني شعر.
الشاعر ذكي. يهيئ صعوبة الفكر. الفكر مخنوق، يابس ودبق، الشاعر يمسده، يلينه، يستثيره. والشاعر، مرة أخرى، يجذب الذكاء من سباته، يحرض على الخروج رأسه، أعضاء مخيخه، قفاه وأصابعه.
أليست لعبة التفكيك والاختلاف تنتج كتابة تفاجئ وتوَجِّه وجه الفيلسوف الكاتب نحو ختان يشَيِّدُ، كما لو أثر يتحول داخل نسيج النص؟ ثم تسمية الأشياء كما في الشعر تخترع قلبا لا قلب له: قلب الكتابة وهو يعيد أرشيف عبور مهجور. ومن هنا، نبوءة دريدا: ترجِمْني وشاهِدْني حتى أبقى أطول قليلا.
الشاعر يهيئ فكره.
الذكاء لا ينبثق من نفسه. يرطب الجمجمة، يجرف رؤيته نحو النظر فيما وراء الشيء، ثم يمزق بطنه. لا يندفع دون استعداد، الشاعر ذكي، يلج صعوبة الفكر. الشاعر يرتحل في الحيز، يتمرن على الكينونة، وهو يفكر، يهيئ نقل الصور.
الشاعر يتهيأ كي يفكر.