عرفتُ الأديب والشاعر مصطفى الحاج حسين أديباً مشاغباً في رواقات مدينة حلب الثقافية المتعدّدة، يكتب قصّة قصيرة مدهشة، مذهلة، تفاجئ القارئ بواقعيّتها الشديدة وبصراحتها المفرطة، وتجعل الكتّاب الآخرين يتمنّون أن يتوصّلوا إلى كتابة نصوص ذات أبعاد فنّيّة تشبه أبعاد قصصه، وأن يمتلكوا الجرأةَ الزائدة التي تميّزت بها قصصه، والتي تسبّبتْ له بمصاعب متعدّدة مع أجهزة الأمن، ومع إدارات النشر الأدبيّة، في سورية، على حدّ سواء.
وهو الرجل الذي تعلّم القراءة والكتابة بنفسه، ولولا سنوات قليلة من سنوات الدراسة الابتدائية لقلتُ إنّه علّم نفسَهُ بنفسهِ.
ولذلك هو يذكّرنا بعبّاس محمود العقّاد، ذلك الأديب العملاق الذي لم يحصّل أكثر من الدراسة الابتدائية، ولكن إذا ذكرنا الأدب العربي وحركة التأليف في الثقافة والأدب فإننا سنضعه ضمن العشرة الأوائل في القرن العشرين بكلّ تأكيد.
وكذلك مصطفى الحاج حسين، الذي أسمّيه «العقّاد الثاني»، ولكن لم تكن ظروف العقّاد الثاني تشجّعه على الظهور، فمشاغباته كانت كثيرة، وصراحته كانت مفرطة، وهو لم ينهج نهج العقّاد الأوّل في السياسة، فلم ينتسب لأيّ حزب، ولم يحمِ ظهرهُ بأيّ شخصيّة أدبيّة معروفة على مستوى سورية أو الوطن العربي.
كلّ ما كان يفعله أنّه رجل لا يجامل أحداً، لا في المنتديات الأدبية والأمسيات، ولا في الكتابات التي تعظّم أو تُلمّع... كانَ مغموساً في إبداع نصوص جديدة، وكان هاجسه الذي يلاحقه مع كل نصّ قصصي: هل تجاوزتُ كتاباتي السابقة وقدّمْتُ نصّاً جديداً؟ مع ملاحقته لهموم البسطاء، ولكيل اللعنات على الفساد والفاسدين.
فالعقّاد الثاني، الذي لم يدرس إلاّ القليل، والذي يكتب ويفوز بجوائز تلوَ الجوائز، ترمقه العيون بشتّى أنواع الغيرة والحسد، ثمّ هم مع ذلك لا يملكون إلاّ أن يصرّحوا له بأنّ أدبه متميّز.
وشاء القَدَر أن أتواصل معه ونحن في مغتربنا التركيّ الذي فرضتْهُ علينا الحرب القذرة الظالمة التي تجري في سورية، وأطلعني على بعض ما يكتب من جديد، من شعر نثريّ حديث، وتذرّعَ بأنّ هموم الغربة، ومعاناته من المرض، قد فرضتا عليه أن يتحوّل إلى القصيدة.
قرأتُ قصائدَه، وهالني ما وجدتُ من مستوى، سواءٌ أكان على مستوى المضمون، أم في الصياغة الفنية وتضمين الصور الجديدة والمبتكرة بل المتألّقة.
وطلبتُ منه المزيد، فزوّدني ولم يبخل عليّ بها، وهو ينتظر رأيي على أحرّ من الجمر، وأنا أتباطأ في الإجابة وبيان الرأي والمناقشة، إلى أن جاء الوقت الذي صارحتُهُ بأنّه شاعر، بل شاعر ماجد، شاعر قضيّة وشاعر فنّ جميل.
ولم أكن أجامله على أيّةِ حال، بل كنتُ أقول كلمتي لوجه الحقيقة الأدبيّة أوّلاً وأخيراً. وتناقشنا في شكل كثير من القصائد ومضامينها، ولم أكن أتحرّجُ في أن أطلقَ عليه لقب «العقّاد الثاني» بكلّ جدارة. وإن كان قد جاء هذا الإطلاق متأخّراً، فكم كان سيفرحه هذا اللقب لو كان أُطلِقَ عليه وهو في الثلاثينيّات من عمره.
ومع ذلك، شعرتُ به وقد انتابته حالة من الخجل من لقبي هذا، فقلتُ له: بكلّ صراحة أنتَ تستحقّه، وتستحقّه منذ مدّة، وسامحني إن جاءَ متأخّراً.
أربعةُ أسفار شعريّة، هي دواوينه التي صدرت له في إسطنبول حتّى الآن، وقد صارت بين يديَّ في وقتٍ عزَّ الكتاب الورقيّ عليّ وندر وأنا في ديار الغربة.
وهناك مفارقتان لا بدّ من ذكرهما في هذا التقديم، ونحن نتحدّث عن العقّادَين:
الأولى: أنّ عبّاس محمود العقّاد قد كتبَ الشعرَ في صِباه، ثمّ عكفَ عن كتابته بعدَ أن أصدرَ، مع عبد القادر المازني، كتابه النقديّ اللاذع «الديوان»، الذي لم يعجبه فيه شعر أيٍّ من المُحدَثين، وتوجّهَ إلى كتابة البحوث والمؤلفات الضخمة في مجالات شتّى؛ ولكنّ العقّاد الثاني، مصطفى الحاج حسين، قد اتّجهَ إلى كتابة الشعر متأخّراً.
والثانية: أنّ العقّاد الأوّل قد تعاطى السياسة، وانخرطَ في الأحزاب التي كانت في عصره، وقد أفاده عمله هذا كثيراً في شهرتِهِ الأدبيّة. بينما لم يدخل العقّاد الثاني في معترك السياسة والأحزاب، وقد أضرّ به بُعدُهُ عن العمل السياسي في شهرته الأدبيّة، إلى أن وفّرتْ له ظروف اللجوء، نتيجة الحرب الإجرامية التي حصلت في سورية، فسحةً من الحريّة في التعبير، فانطلق من جديد، ولو متأخّراً.
ولو جمعنا قصائده التي قالها في حلب، مدينتي ومدينته التي نشأنا فيها، لصارت ملحمة لا تقلّ عن الملاحم الشعرية الكبرى في الأدب العالمي عبر العصور. ولكن لا أدري هل من حُسْنِ طالعنا أم من سوئه، أنّنا من أمّةٍ لا تعير بالاً لمفكّريها وأدبائها وحكمائها وشعرائها... بل هي تدمّرهم كما دمّرتْ آثار الأقدمين في أعرق المدن العربية: حلب والموصل، وغيرها من الحواضر القديمة والحديثة، ولم تسلم منهم المدينة التاريخية الحيّة «تدمر».
لن أطيلَ عليكم، سأدعُ قصائدهُ تتحدّث، لتغوصَ في وجدانِ كلّ قارئ يمتلك الصدق مع نفسه ويحبّ أمّته.
هذا هو العقّأد الثاني، مصطفى الحاج حسين، فتحيّةً له، وأشدّ على يده وأقول له: انتبهْ لنفسِكَ فأنتَ عملاق أدبيّ من عمالقة الأدب العربي والعالمي، وستشكف الدراسات عن هذا عاجلاً أم آجلاً إن شاء الله.
هذا الديوان
هذا هو الديوان الرابع الذي ينشره العقّاد الثاني، مصطفى الحاج حسين، وقد ضمّنه مشاعره المرهفة، التي نجد تأثير الحرب الفظيعة عليها، بل على كلّ حرف قد كبته، فهو قد عاش في ظروف الحرب سنوات، ثمّ عاشَ ألم الاغتراب، ولا سيّما بُعده على الأهل وعن حبيبته الآسرة «حلب»، تلكَ المدينة التي تسكنه، يقول في قصيدة عنوانها: (وهج السراب):
مهما اقتربْتُ منكِ
وضممتُكِ إليَّ بقوّةٍ
تبقينَ عنّي بعيدةً !!
حتىٰ لو سكبْتُ قلبي
في دمِكِ
ومزجْتُ روحي
بأنفاسِكِ
وأطعمْتُ يديكِ
من حنيني
وانصهرَتْ لهفتي
علىٰ عنقِكِ
وذابَتْ هواجسي
وانفطرَتْ شهقتي
وَبَكَتْ كلماتي
وارتعشَتْ همستي
وخارَتْ نظراتي
وارتمَتْ شجوني
وتساقطَتْ شجاعتي
وانتحرَتْ رغبتي
أحسُّ أنّكِ بعيدةٌ
تبدينَ غائبةً
وعنّي شاردةً
قلبُكِ لا يدقُّ بضراوةٍ
وروحُكِ ناعسةٌ
قبلتُكِ بلا رائحة
وحضنُكِ يتثاءَبُ كالخريفِ
لا صوتَ لأصابعِكِ
لا شغفَ في شفتيكِ
وشَعرُكِ
يتهرَّبُ من ملامستي
لماذا هٰذا الموتُ
ينثالُ من صمتِكِ ؟!
لماذا هٰذا الخوفُ
يطلُّ من عينيكِ ؟!
هل كانَ حبُّنا وهماً ؟!
وهل كانَتْ قصائدُنا
عجافاً؟!.
هذا الخطاب في القصيدة ليس موجّهاً لحبيبة بعينها، سوى الوطن وحلب، وتبدو معالم حلب واضحةً أكثر في القصيدة الأخرى التي عنوانها «العصيّة»:
في قلبي وجعٌ وبكاءٌ
وفي روحي دهشةُ الأبرياءِ
وأسئلةٌ تنمو في داخلي
في كلِّ صبحٍ ومساءِ
وحيرةٌ تعصف بي
وارتباكٌ وخوفٌ
وصوتٌ يصرخُ في فضائي
وماذا بعدَ كلِّ هٰذه الدّماء؟!
بعدَ هٰذا الدّمار
يا أخوتي يا أصدقاء !!!
تتسابقونَ إلينا وعلينا
تسوقونَ بمحبّةٍ لبلدِنا
الموتَ والفناء !!!
يا لَكُمْ مِنْ أوغادٍ جبناء
هيهاتَ لكم
أنْ تطفؤوا نورَ اللهِ
فنورُ الخالقِ يتجلّىٰ
في حلبَ الشّهباء
لا تظنّوا أنّكم ستنتصرونَ
مُحالٌ لكم هٰذا
يا أغبياء
ستبقىٰ سورية عصيّةً
علىٰ الأعداء
هكذا قال السلطان وهنانو
وصالح وكلّ الشّهداء
فرغم كلّ ما حلّ في هذه المدينة من ويلات يبقى نور الخالق يتجلّى فيها، ويزيدها تألّقاً، ويزداد عشقه لها. بل نراه يسكب قهره ووجعه في قصيدة وهو يتألّم كما تتألّم حبيبته «حلب»، فيقول في قصيدة (ندىٰ عمري):
في لغتي أسمُكِ أوَّلُ الكلماتْ
وما أنتِ كلمةٌ أو نجمةٌ
أسمُكِ في روحي آياتْ
موجودٌ في دمي منذُ خُلِقْتُ
وإلىٰ آخرِ اللّحظاتْ
لا أعرفُ إلّا أنتِ
ولا أهوىٰ سوىٰ عينيكِ
مهما عشتُ وطالَتْ بي الحياةْ
سأبقىٰ أحبُّكِ وأعشقُ طيبَكِ
وأقبِّل ذكراكِ بعدَ المماتْ
حبيبتي أنتِ غَصْبَ غربتي
فاتنتي ومهجةُ أحلامي
مهما توسّعَتْ وامتدّتْ بيننا المسافاتْ
لَمْ أجدْ غيرَكِ لأعشقَها
لا بديلَ عنكِ
بينَكِ وبينَ قلبي ذكرياتْ
سأظلُّ أناديكِ وأكتبُ عنكِ
أغنّي أشواقي دمعاً وآهاتْ
أنتِ للضّائعِ منارةٌ
وللمتيَّمِ اليائسِ الحائرِ صلاةْ
أحكي عنكِ للضَّوْءِ إنْ أظلمَ
وللبحرِ لو تيبَّسَ موجُهُ
وللّيل لو ضاقَتْ عليهِ السّاعاتْ
جلُّ وقتي وكلُّ نبضي
ومعظمُ صمتي وسائرُ بَوْحي
عَنْ موعدٍ من صوبِكِ آتْ
هيهاتَ أنسىٰ وجهَكِ
قريباً ألقاكِ وأغمرُكِ بالقبلاتْ
حلبٌ أنتِ
مدينةُ السّحرِ والأمنياتْ
أَسْمِعي روحي صوتَكِ
عطشَ قلبي أحييهِ بالأغنياتْ
أنتِ ندىٰ عمري وأوجاعي
مهما حالَتْ بينَنا السّنواتْ.
وينساب الديوان شعراً صافياً عذباً يحمل الشجن والألم، ممزوجاً بعبق الحضارة والأمل، مع الصور البديعة الطريفة الجديدة المتجدّدة التي كان يبثّها في كل جملة شعرية يصوغها.
إنّه ديوان يستحقّ مع بقيّة الدواوين التي أصدرها دراسات متعمّقة في فنّه الشعريّ وشخصيّته الأدبيّة الناضجة والمتميّزة، بل يستحقّ من القرّاء أن ينهالوا عليه، لأنّه قد سكبَ فيه معانيَ العطاءِ والألم والأمل، فتحسُّ أنّه نابضٌ بالحياة، رغم كثرة ذكره للموتِ، الذي يختطف كلّ يوم بفعل جرائم الحرب الوحشيّة عدداً كبيراً من أهل وطنه، دونَ وجهِ حقّ.
محمد بن يوسف كرزون
نيسان/أفريل 2017
(بورصة – تركيا).
/// قراءة في ( قهقهات الشيطان ) ..
المجموعة القصصية للقاص والشاعر
مصطفى الحاج حسين .
بقلم - محمد بن يوسف كرزون
* * القلم كائن مشاغب في يد الكاتب والشاعر مصطفى الحاج حسين، فهو لا يدعُكَ تتركُ حرفاً يغيبُ عنكَ إنْ أنتَ أردْتَ أن تقرأ شيئاً ممّا يسيل من أجله. فالحروف تتقافز، والحركات تتراقص، وعلامات الترقيم تُزاحمُ بعضَها بعضاً، فتدخل النصّ ولا تتركه إلاّ بعدَ أن تمرّ عليه كلّه؛ فمهما كنتَ في حالة تعب أو حتّى إنهاك، فإنّ كتاب الأديب.مصطفى يأسركَ ويُنسيكَ كثيراً من معاناتك، ويدعُ ذاكرتَكَ تُعيدُ فتحَ الملفّات القديمة، لَكَ ولغيرِك َ: في الحارة، وعندَ شيخ الكُتّاب، والمدرسة، وأماكن العمل
وملاعب الصِّبا والشباب...كلّ هذا لأنّ مصطفى قد فتحَها
في قصصه الرشيقة الوثّابة القلقة.
ولعلّ ما في قصص هذه المجموعة هو المزج بين
الواقعيّة التي أفرطَ في تصويرها، وبين الفنّ المدهش الذي ساقه، وبين الدّقّة المتناهية التي ساقها بكلمات قليلة؛ كلّ هذا في لغة فصيحة سهلة رشيقة متناغمة، تُحسُّ أنّها لغتَكَ التي تستعملها في يومِكَ لا غير، ما عدا بعض العبارات القليلة التي ساقها باللهجة العامّيّة الدارجة.
فعلى مدى تسع قصص، هي ما حوته هذه المجموعة لا ينفكّ قلم الكاتب يتنقّل من جوّ طفوليّ وحركات الطفولة ، في القصص الثلاث الأولى من المجموعة : قهقهات الشيطان، واغتيال طفولة (1)، واغتيال طفولة (2)، نرى فيها عفويّةالطفل الذّكيّ، الذي يريدُ أن يشاغب ويتحرّك، ويقرأ محيطه على هواه الطفوليّ، ليجعلنا نعيش معه طفولته لحظة بلحظة تقريباً، وهذه القصص الثلاث أشبه ما تكون برواية مصغّرة.
وفي القصّة الرابعة (صاحب حقّ)، يأخذنا إلى علاقات الشباب، بدايات الشباب، وكيف هي محكومة بالأمزجة والأهواء، وحدس الشخصيّة الرئيسيّة فيها كيف كان صادقاً.
ولكنّ القصّة الخامسة نقلتنا نقلة نوعيّة مختلفة ،
اختلطت فيها الأشواق بالوجدان بالواجب بالعُقَدالنفسيّة
إلى الحدّ الذي يمكنكَ أن تصدّقَ أنّ (الحبّ أعمى)، وهو عنوان هذه القصّة العميقة الأبعاد والمدلولات.
وفي القصّة السادسة، (إقلاق راحة)، يسخر سخرية
شديدة التهكّم بالبيروقراطيّة والمزاجيّة وابتعادالموظّف الحكوميّ عن واجبه الذي هو مسخَّر له، حقّاً لقد قدّمَ لنا قهرهُ، وذكّرنا بقهرنا الكثير الكثير في حياتِنا مع الدوائر الحكوميّة، إلى الحدّ الذي جعله لا يذكر لنا سبب ذهابه إلى المخفر ، لأنّ ما حدثَ معه في المخفر كان أدهى وأمرّ. ولا ينسى أن يُعَرِّجَ على المواقف السلبيّة لشرائح كثيرة من مجتمعه من مواجهة مشكلة، أيّ مشكلة، تحصل مع أحد أبناء هذا المجتمع.
ولا يكتفي بتلك القصّة وحدها في التنديد البيروقراطيّة والفساد الإداري، إذْ يُتبِعُ تلكَ القصّة بقصّة عنوانها (ثأر)، تُظهر اهتمام أيّ موظّف حكوميّ بمصالحه الذاتيّة وبالقشور، والابتعاد عن الجوهر، حتّى في علاقاته الشخصيّة وفي حياته الخاصّة.
أمّا قصّة (تل مكسور)، فهي ملحمة سابقة لأوانها،
تستقرئ الواقع، وتتنبّأ بالمستقبل، بشكل لا لَبْسَ فيه. فمن العار أن يفرضَ شاب متطفّل أتى من قريةٍ بعيدة، نفسَهُ على قريةٍ آمنة وادعة، فيخيفهم منه أمنيّاً، وهو معلّم، فكيف يجمع بين رسالة التعليم وغاية الاستغلال بأداة مزيّفة؟ ولكن في النهاية تنتفض له "خديجة" أرملة الشهيد، وتلقّنه درساً قاسياً أمام القرية جميعاً، وتهزأ منه ومن تهديداته.
ويختم المجموعة بقصّة عادل إمام حرمني من
حبيبتي يمزج فيها بين الإمتاع والضحك، وبين تراجيديا اختيار الزوجة في مجتمعاتنا، وكيف أنّ الحبّ ممنوع، ويُظهر الكاتب السلبيّةَ الفظيعة التي يتّفق عليها المجتمع كلّه في تحريم الحبّ الذي ينتهي بالزواج،
وتفضيل مجتمعاتِنا أن يتمّ الزواج عن طريق اختيار أهل الشاب لعروس يرونَ أنّها هي وحدها التي تناسبه، وأنّه لا يعرف الاختيار ولا يُحسِنه.
لن أمتدح هذه المجموعة القصصيّة، فالجوائز التي
حصلت عليها أغلب قصص المجموعة وحدها كفيلة
بالنيابة عنّي بالمديح، ولا سيّما حصول قصصها على
أكثر من جائزة في مسابقة الشاعرة الدكتورة سعاد
الصبّاح، هذا فضلاً عن حصولها على جوائز متعدّدة
من مسابقات اتّحاد الكتّاب العرب في سورية وفروعه.
ولكن أقول: أينَ مصطفى الحاج حسين في مسيرة
الأدب العربي المعاصر، وهو الذي تجاوز في عمره
الخمسين بأكثر من خمس سنين، وتجاوز عمره الأدبيّ الثلاثين عاماً أو أكثر؟ للأسف الشديد، ساحاتنا الأدبيّة العربيّة كانت مشغولة في غير هذا الأديب، أو كانت مشغولة عنه وعن غيره من الأدباء المبدعين المدهشين، لتلمّع مَنْ كان يريدُ أن يتسلّقَ على الحياة الأدبيّة تسلّقاً،
لمآرب لا علاقة لها بالأدب والإبداع الأدبيّ.
أحيّيكَ أيّها المبدع المتدفّق حيويّة، وأقول: حمداً لله على سلامتِكَ، إذْ لم تدخل مستنقعات الأدب الموحلة، وبقيتَ زهرةً فوّاحةً عَبِقَةً بالأريج الصافي، تُبدعُ لنا شعراً، وتزيدنا من قصّكَ الجميل.
وأطالبُكَ برواية أو ملحمة، فأنتَ تمتلك كلّ مقوّمات
الكتابة الروائيّة.
محمد بن يوسف كرزون .
بورصة – تركيا
/// قصيدة : ( حائط السَّراب ) ..
للشاعر والأديب السوري :
مصطفى الحاج حسين.
بقلم الناقد والأديب :
محمد بن بوسف كرزون .
يبدأ الشاعرُ نصّه الشعريّ بمعاتبةٍ شديدة لليلِ الصامتِ الذي يزيدُ من أوجاعه أوجاعاً في هذا الصمتِ المخيف، الذي يترافقُ مع أسىً متصاعد.
ويريدُ الشاعر أن يدخلُ في ساحةِ البَوْحِ
ليعبّرَ عن آلامِهِ، يهدهدها، يهادنها، ويعترفُ
بأنّ الآلام قد تعاظمَتْ،حتّى إنّ دمعتَهُ
صارتْ تبحثُ عن مخبأ تلوذُ به، فسقوطهُ
قادمٌ لا محالةَ، وهي صورةٌ مأساويّة ظهرتْ
نتيجةَ ما حلَّ في الوطنِ كلّه، ذلك الوطن
الجريح، الذي ما زال ينزفُ منذ سنين،
ويستمرّ النزيف بحرقةٍ، نزيفُ أرواحٍ ونزيفُ
دمار وخرابٍ وتشتُّت... فكيفَ لا تنعكس
تلك الحالات على نفسِ الشاعرِ، فيعاتبُ
الليلَ الذي أبعدَهُ عن وطنِهِ، فباتت همومه
أضعافَ ما كانتْ عندما كان يعيشُ الحربَ
وهو في وطنِهِ؟!.
تلك الهموم التي أمستْ صديقَتَهُ التي
يتعايش معها وتتعايش معه، لتنهالُ في
قصيدتِهِ صورٌ فنّيّةٌ غايةً في الطّرافةِ
والجدّة.
وتتدفّقُ الصور المعبّرة عن معاناةِ الشاعر،
فالسّماءُ تُمْطِرُ عويلَ هروبه، وهذه صورةٌ
مبتكرة بديعة، لم يسبقْ أحدٌ أن لمَّحَ إلى أيِّ
جزئيّةٍ منها.
ونراهُ يتابع الصورَ المبتكرةَ، فيقول:
( خُذْ منّي خطواتي يا ليلُ
تعكَّزْ علىٰ لهبِ نزيفي
وانطلقْ
صوبَ ضحكةٍ تكسّرَتْ فوقَ سهوبي.)
وهنا صورتان بديعتان طريفتان غايةً في
الطرافة والإبداع، (تعكَّزْ على لهيبِ نزيفي)،
والثانية تلك الضحكةُ التي تكسَّرَتْ فوقَ
سهوبِ قلب الشاعر، بل فوَق ترابِ الوطنِ،
إلى أن حوّلَتْهُ خراباً...
ما أقسى هذا الخراب الذي يعاني منه
الشاعرُ في كينونةِ نفسِهِ، ألماً على الوطنِ
ممّا يحدثُ له، وألماً في نفسِهِ ممّا يحدثُ
للوطن العزيز الجريح!
ونرى في الصورتين اللتين سقناهما قبلَ
قليل نسيجاً عجيباً من التناسقِ والإبداع،
فهما تنضمّانِ إلى نسيج النصّ الصُّوَريّ،
وتتماسكان تماسكاً نادرَ الحدوثِ في
القصيدة العربية المعاصرة.
وتأتي بعد تلكما الصورتين صورٌ أخرى لا
تقلُّ طرافةً وانسجاماً مع النصّ، بل قطار
متماسكٌ من الصور التي ترتقي بالنصّ
وتشدُّ القارئَ إلى التحليقِ في معانيه
العميقة.
يقول بعدها:
( سلِّمْ لي على نافذةٍ
فرَّتْ من كوّةِ اختناقي
صافحْ رائحةَ النّدىٰ
عانقْ رقصةَ الرّؤىٰ
واحتضنْ
دفاترَ العُشْبِ الرّهيفِ
لتنامَ أعينُ الجوعِ
في وريدي.)
وما أبدعَ ما ختم به صورَهُ ونصّهُ:
لتنامَ أعينُ الجوعِ
في وريدي.
على أنّ القارئَ الحصيف يرى اللغة
المتماسكة التي سعى الشاعرُ إلى ربط
مفرداتِهِ وجمله بها، حتى يجعلَكَ لا ترى أيَّ
انقطاعٍ في نصّهِ المتواصل المتواثب
الكئيب... هذا النصّ الذي يعلنُ تمرّدهُ على
النصوصِ التقليديّة، باستخدامه المنساب
لجميع قواعد السرد الشعريّ بتلقائيّة عجيبة
تفعلُ فعلَها في القارئ، وتتركُ بصمةًلا تُمحى في ذاكرتِهِ... لقد قرأ شعر الشاعر (مصطفى الحاج حسين) الذي لن يُنسى.
وفي المجملِ، ترى القصيدةَ نصّاً متماساً لا
ينفصلُ منه جزءٌ عن جزءٍ، وعلى هذا فالنصُّ عمارةٌ شعريّة متراصّة، تقدّمُ مضموناً متماسكاً، في نسيج من الصور الشعريّة المتفوّقة.
تلكَ هي قصيدةُ شاعرنا مصطفى الحاج
حسين، وهي لا تختلفُ عن لغتِهِ الشعريّةِ
عموماً في دواوينه المتعدّدة، والتي كان لي
الشرف في قراءة أغلبها، بل لا أتحرّجُ في
أن أقول كلّها.
محمد بن يوسف كرزون .
* ( حائط السّراب)...*
شعر : مصطفى الحاج حسين .
أسرفتَ في صمتكَ
أيّها الليل المتهالك
فوقَ غربتي
نزيفكَ أغرقَ أنفاسي
وصارت دمعتي تبحثُ عن مخبئٍ
لسقوطي
وحروفي ماعادت تنبثُ
برفيفِ أحلامي
عن ماذا تفتش في جيوبِ نبضي ؟!
وقلبي تتداعى منهُ الجّهات
ياليلُ دثّرني بأمواجِ راحتيكَ
وهدهد لي اشتعالي
وزّع على أجنحتي همس الغيم
وأَقم في يباسِ ظلِّي
بعضَ المدى
حائطٌ من سرابٍ
ينهارُ فوقَ دهشتي !
والسّماء تمطرُ عويلَ هروبي !
خُذ منّي خطواتي ياليل
تعكَّز على لهبِ نزيفي
وانطلق
صوبَ ضحكة تكسّرت فوقَ سهوبي
سلّم لي على نافذةٍ
فرَّت من كوّةِ اختناقي
صافح رائحةَ النّدى
عانق رقصةَ الرؤى
واحتضن
دفاترَ العشب الرّهيف
لتنامَ أعين الجّوع
في وريدي *.
مصطفى الحاج حسين .
إسطنبول
/// قصيدة : ( تعقب) ..
للشاعر والأديب السوري :
مصطفى الحاج حسين .
الناقد والشاعر : عدنان بصل .
إنّ النصّ المعنون ب(تعقّب) يحمل همّا جميلا وجماله متأتّ من كونه وجداني بامتياز إنّما استخدام الكاتب لأسلوب الخبري أصبغ النص بالسردية التي هبطت بمستوى النص إلى مستوى الخاطرة وحتى إلى التقريرية في هذه المخاطرة
مستلزمات النص المبدع تقتضي التنوع بين الأسلوب الخبري والأسلوب الإنشائي الأمر الذي يعطي حركيّة للنص فكما يستخدم الفنان التشكيلي الألوان المتنوعة في لوحته فتبدو مترعة بالجمال فعلى الأديب أن يستخدم تنوع الأسايب فإذا كان المبتغى خلق قصيدة نثر فلا بأس باستخدام الأسلوب الخبري ولن يجب أن يوظف توظيفا بلاغيا كي يحقق الغاية منه وفي نص (تعقب) الذي أرى فيه نصا جميلا وحضورا لافتا للمجاز بأشكال مختلفة كنت أتمنّى ان يكون قد شغل عليه بشكل أفضل كي يأخذ مكانه كقصيدة نثر وأنا لم أورد شواهد عن الجمل الخبريّة لأنّ النص برحمته خبري .
الشاعر عدنان بصل .
* ( تعقّب ).. *
شعر : مصطفى الحاج حسين .
أتعقّبُ غيابي
أُرسلُ خطايَ خلفَ انهزامي
وأطلقُ أجنحة هواجسي
لأعرفَ أمكنةَ نزيفي
أتلصّصُ على حنيني
لأباغتَ قلبي متلبّساً بدموعهِ
هربت منّي أيّامي
وأنكرتني الذّكريات
ووشت بي قصيدتي
إلى الفضاءِ الأصمِّ
صارَ لهاثي يحاصرني بالاختناقِ
انقضّت الجّهاتُ على رؤايا
وأمسكت جثتي بالغيوم
لتنوح الدّروب فوق رفيفي
أنا احتراقُ الدّمع في الحنجرة
ونموّ الدّم في الشّهيقِ
تعثّرت بي خيبتي
وأنا أنادي الرّيح
لتحملَ عنّي تشرّدي
وتزحف نحوي الانكسارات
تحتاطني ظنوني
تقفزُ الحُرقة من دهشتي
حينَ تمدُّ لي الهاوية يدها
تتعرّى منّي الكلمات
تفتضحُ أسرار صمتي
لأعلن على مرآى موتي
ولادة عنادي
سأرسم لأشواقي خارطة الحلم
سأفتح نافذة في جدرانِ الألمِ
وأُطَيّرُ للمدى شمس فؤادي
أنا سليل القهر والاندحار
أعلنُ عن قيامةِ الخراب
سينهضُ بنا الرّماد
ونعودُ للبلادِ التي
لفظتنا بمجون .
مصطفى الحاج حسين .
إسطنبول
/// وكان الناقد والأديب والشاعر :
محمد بن يوسف كرزون :
قراءة مخالفة لقراءة عدنان بصل :
َوهذا ما كتبه ( محمد بن يوسف كرزون)
هذا ليس تحليلاً لنصّ، هذا درسٌ في الكتابة الشعرية، أرادَ الناقدُ أن يقدّمَ درساً تفصيلياً في ما يرغبُ هو أن يرى الشعر عليه... لا أكثر ، ويلقّنه لشاعرنا الماجد «مصطفى الحاج حسين».
ولو أنّه كان يريدُ أن يحلّل ويظهرَ المحاسن
والمساوئ لكان عليه أن يأخذ حجماً أكبر ممّا كتب.
هو يقدّم تعليقاً لا غير، ولم يُظهر من مواطن الجمال فيالنصّ الشعري سوى عبارة (همّاً جميلاً) في بداية مقالته،و(أرى فيه نصا جميلا وحضورا لافتا للمجاز بأشكال مختلفة) في نهاية المقالة، وكلمتاه هاتان عموميّتان إنشائيتان، لم يثم الدليل عليهما في نصّه النقديّ، ولم يحلّل أيّ صورة مجازيّة من صور النصّ الكثيرة بل التي أُتخِمَ فيها النصّ لجماله.
يكتبُ الشاعر مصطفى الحاج حسين قصيدتَهُ بألمِ أمّته الذي امتزَجَ بألمه الشخصيّ، فلم نعد نرى الحدودَ الفاصلة بين الألمين .
هو يستخدمُ الضمير الشخصيّ الفردي (أنا) وما يلحقُ به من ياء المتكلّم والفعل المضارع الذي صيغَ على بالصياغة الفرديّة ذاتها، ولكن قراءتنا لتفاصيل قصيدته لا تخفي امتزاج ألمه بألمِ أمّته جميعاً، التي تغوصُ الآنَ (في عُتمةِ النار)، والتي (تلملمُ انكسارات موتها)، وكأنّها (تعدو صوبَ شهقاتِ الأفول)، ورغم تراثها العظيم، الذي اتّخذ الشاعر من اللغة رمزاً له، فإنّ هذه اللغة الرمز لم تعد تنفع شيئاً، فهي ليست سوى (أجنحةٍ تمتدُّ لتعلنَ خرابَ أمّةٍ كاملة): (أمدُّ لغتي أجنحة لخرابي).
ثمّ ينقلنا إلى تفصيل آخر لا يقلّ دهشةً
وغرابةً، ولكنّه واقع وحقيقة: (أوزّعُ ينابيع دهشتي على خريرِ اختناقي) .
فهذه الأمّة تصرخ وهي تكادُ أن تختنقَ ممّا هي فيه من ويلات وحروب ومؤامرات ، في دهشةٍ غريبة من مواقف العالَم كلّه تجاه ما تعاني منه.
وينهي القصيدة كما ابتدأها، بالموت أو
النهاية:
لا شيء يشبه اسمي
إلاّ أمواج العدم .
القصيدةُ في تفاصيلها تكادُ تكون ملحمة مصغّرة، تحاكي ما يجري في الواقع المرير، وتنبئُ عن أنّ الأمّة تسير إلى نهايتها إلى تفتُّتِها، إلى موتها المحتوم ، وهي الأمّة التي عاشت قروناً طويلة صابرةً على الشدائد والمحن ، وصمدتْ.
ويأتي تحذيرُ الشاعر في غاية الأناقة والجمال، عندما يمزج (الأنا) بــ(نحن)،ويعلنُ أنّ وجعه هو في العمقِ والأزمة التي يكادُ لا ينفعُ معها دواء.
القصيدة مُترَعةٌ بالصورالمدهشة،والمجازات المذهلة، التي لا تشبه قصيدةً أخرى من قصائد الشعر النثريّ المعاصر والحديث في تفاصيلها، وإن كان قد استندَ في واحدةٍ منها إلى البلاغة القرآنية، في قوله:
ورحتُ أهزُّ بجذعِ قهري
تساقطَ عليَّ جمرُ صمتي
فهي تذكّرنا بآياتٍ من «سورة مريم» :
(وهزّي إليكِ بجذعِ
النخلةِ تساقط عليكِ رطباً جنيّاً).
ولكنّ نتيجة هزّه لقهره كانَ جمر الصمتِ الذي يكوينا جميعاً ولا نستطيعُ الفكاكَ منه، عندما نرى أمّتَنا تُذبَحُ وريداً وريداً ونحنُ صامتون.
محمد بن يوسف كرزون .
وهو الرجل الذي تعلّم القراءة والكتابة بنفسه، ولولا سنوات قليلة من سنوات الدراسة الابتدائية لقلتُ إنّه علّم نفسَهُ بنفسهِ.
ولذلك هو يذكّرنا بعبّاس محمود العقّاد، ذلك الأديب العملاق الذي لم يحصّل أكثر من الدراسة الابتدائية، ولكن إذا ذكرنا الأدب العربي وحركة التأليف في الثقافة والأدب فإننا سنضعه ضمن العشرة الأوائل في القرن العشرين بكلّ تأكيد.
وكذلك مصطفى الحاج حسين، الذي أسمّيه «العقّاد الثاني»، ولكن لم تكن ظروف العقّاد الثاني تشجّعه على الظهور، فمشاغباته كانت كثيرة، وصراحته كانت مفرطة، وهو لم ينهج نهج العقّاد الأوّل في السياسة، فلم ينتسب لأيّ حزب، ولم يحمِ ظهرهُ بأيّ شخصيّة أدبيّة معروفة على مستوى سورية أو الوطن العربي.
كلّ ما كان يفعله أنّه رجل لا يجامل أحداً، لا في المنتديات الأدبية والأمسيات، ولا في الكتابات التي تعظّم أو تُلمّع... كانَ مغموساً في إبداع نصوص جديدة، وكان هاجسه الذي يلاحقه مع كل نصّ قصصي: هل تجاوزتُ كتاباتي السابقة وقدّمْتُ نصّاً جديداً؟ مع ملاحقته لهموم البسطاء، ولكيل اللعنات على الفساد والفاسدين.
فالعقّاد الثاني، الذي لم يدرس إلاّ القليل، والذي يكتب ويفوز بجوائز تلوَ الجوائز، ترمقه العيون بشتّى أنواع الغيرة والحسد، ثمّ هم مع ذلك لا يملكون إلاّ أن يصرّحوا له بأنّ أدبه متميّز.
وشاء القَدَر أن أتواصل معه ونحن في مغتربنا التركيّ الذي فرضتْهُ علينا الحرب القذرة الظالمة التي تجري في سورية، وأطلعني على بعض ما يكتب من جديد، من شعر نثريّ حديث، وتذرّعَ بأنّ هموم الغربة، ومعاناته من المرض، قد فرضتا عليه أن يتحوّل إلى القصيدة.
قرأتُ قصائدَه، وهالني ما وجدتُ من مستوى، سواءٌ أكان على مستوى المضمون، أم في الصياغة الفنية وتضمين الصور الجديدة والمبتكرة بل المتألّقة.
وطلبتُ منه المزيد، فزوّدني ولم يبخل عليّ بها، وهو ينتظر رأيي على أحرّ من الجمر، وأنا أتباطأ في الإجابة وبيان الرأي والمناقشة، إلى أن جاء الوقت الذي صارحتُهُ بأنّه شاعر، بل شاعر ماجد، شاعر قضيّة وشاعر فنّ جميل.
ولم أكن أجامله على أيّةِ حال، بل كنتُ أقول كلمتي لوجه الحقيقة الأدبيّة أوّلاً وأخيراً. وتناقشنا في شكل كثير من القصائد ومضامينها، ولم أكن أتحرّجُ في أن أطلقَ عليه لقب «العقّاد الثاني» بكلّ جدارة. وإن كان قد جاء هذا الإطلاق متأخّراً، فكم كان سيفرحه هذا اللقب لو كان أُطلِقَ عليه وهو في الثلاثينيّات من عمره.
ومع ذلك، شعرتُ به وقد انتابته حالة من الخجل من لقبي هذا، فقلتُ له: بكلّ صراحة أنتَ تستحقّه، وتستحقّه منذ مدّة، وسامحني إن جاءَ متأخّراً.
أربعةُ أسفار شعريّة، هي دواوينه التي صدرت له في إسطنبول حتّى الآن، وقد صارت بين يديَّ في وقتٍ عزَّ الكتاب الورقيّ عليّ وندر وأنا في ديار الغربة.
وهناك مفارقتان لا بدّ من ذكرهما في هذا التقديم، ونحن نتحدّث عن العقّادَين:
الأولى: أنّ عبّاس محمود العقّاد قد كتبَ الشعرَ في صِباه، ثمّ عكفَ عن كتابته بعدَ أن أصدرَ، مع عبد القادر المازني، كتابه النقديّ اللاذع «الديوان»، الذي لم يعجبه فيه شعر أيٍّ من المُحدَثين، وتوجّهَ إلى كتابة البحوث والمؤلفات الضخمة في مجالات شتّى؛ ولكنّ العقّاد الثاني، مصطفى الحاج حسين، قد اتّجهَ إلى كتابة الشعر متأخّراً.
والثانية: أنّ العقّاد الأوّل قد تعاطى السياسة، وانخرطَ في الأحزاب التي كانت في عصره، وقد أفاده عمله هذا كثيراً في شهرتِهِ الأدبيّة. بينما لم يدخل العقّاد الثاني في معترك السياسة والأحزاب، وقد أضرّ به بُعدُهُ عن العمل السياسي في شهرته الأدبيّة، إلى أن وفّرتْ له ظروف اللجوء، نتيجة الحرب الإجرامية التي حصلت في سورية، فسحةً من الحريّة في التعبير، فانطلق من جديد، ولو متأخّراً.
ولو جمعنا قصائده التي قالها في حلب، مدينتي ومدينته التي نشأنا فيها، لصارت ملحمة لا تقلّ عن الملاحم الشعرية الكبرى في الأدب العالمي عبر العصور. ولكن لا أدري هل من حُسْنِ طالعنا أم من سوئه، أنّنا من أمّةٍ لا تعير بالاً لمفكّريها وأدبائها وحكمائها وشعرائها... بل هي تدمّرهم كما دمّرتْ آثار الأقدمين في أعرق المدن العربية: حلب والموصل، وغيرها من الحواضر القديمة والحديثة، ولم تسلم منهم المدينة التاريخية الحيّة «تدمر».
لن أطيلَ عليكم، سأدعُ قصائدهُ تتحدّث، لتغوصَ في وجدانِ كلّ قارئ يمتلك الصدق مع نفسه ويحبّ أمّته.
هذا هو العقّأد الثاني، مصطفى الحاج حسين، فتحيّةً له، وأشدّ على يده وأقول له: انتبهْ لنفسِكَ فأنتَ عملاق أدبيّ من عمالقة الأدب العربي والعالمي، وستشكف الدراسات عن هذا عاجلاً أم آجلاً إن شاء الله.
هذا الديوان
هذا هو الديوان الرابع الذي ينشره العقّاد الثاني، مصطفى الحاج حسين، وقد ضمّنه مشاعره المرهفة، التي نجد تأثير الحرب الفظيعة عليها، بل على كلّ حرف قد كبته، فهو قد عاش في ظروف الحرب سنوات، ثمّ عاشَ ألم الاغتراب، ولا سيّما بُعده على الأهل وعن حبيبته الآسرة «حلب»، تلكَ المدينة التي تسكنه، يقول في قصيدة عنوانها: (وهج السراب):
مهما اقتربْتُ منكِ
وضممتُكِ إليَّ بقوّةٍ
تبقينَ عنّي بعيدةً !!
حتىٰ لو سكبْتُ قلبي
في دمِكِ
ومزجْتُ روحي
بأنفاسِكِ
وأطعمْتُ يديكِ
من حنيني
وانصهرَتْ لهفتي
علىٰ عنقِكِ
وذابَتْ هواجسي
وانفطرَتْ شهقتي
وَبَكَتْ كلماتي
وارتعشَتْ همستي
وخارَتْ نظراتي
وارتمَتْ شجوني
وتساقطَتْ شجاعتي
وانتحرَتْ رغبتي
أحسُّ أنّكِ بعيدةٌ
تبدينَ غائبةً
وعنّي شاردةً
قلبُكِ لا يدقُّ بضراوةٍ
وروحُكِ ناعسةٌ
قبلتُكِ بلا رائحة
وحضنُكِ يتثاءَبُ كالخريفِ
لا صوتَ لأصابعِكِ
لا شغفَ في شفتيكِ
وشَعرُكِ
يتهرَّبُ من ملامستي
لماذا هٰذا الموتُ
ينثالُ من صمتِكِ ؟!
لماذا هٰذا الخوفُ
يطلُّ من عينيكِ ؟!
هل كانَ حبُّنا وهماً ؟!
وهل كانَتْ قصائدُنا
عجافاً؟!.
هذا الخطاب في القصيدة ليس موجّهاً لحبيبة بعينها، سوى الوطن وحلب، وتبدو معالم حلب واضحةً أكثر في القصيدة الأخرى التي عنوانها «العصيّة»:
في قلبي وجعٌ وبكاءٌ
وفي روحي دهشةُ الأبرياءِ
وأسئلةٌ تنمو في داخلي
في كلِّ صبحٍ ومساءِ
وحيرةٌ تعصف بي
وارتباكٌ وخوفٌ
وصوتٌ يصرخُ في فضائي
وماذا بعدَ كلِّ هٰذه الدّماء؟!
بعدَ هٰذا الدّمار
يا أخوتي يا أصدقاء !!!
تتسابقونَ إلينا وعلينا
تسوقونَ بمحبّةٍ لبلدِنا
الموتَ والفناء !!!
يا لَكُمْ مِنْ أوغادٍ جبناء
هيهاتَ لكم
أنْ تطفؤوا نورَ اللهِ
فنورُ الخالقِ يتجلّىٰ
في حلبَ الشّهباء
لا تظنّوا أنّكم ستنتصرونَ
مُحالٌ لكم هٰذا
يا أغبياء
ستبقىٰ سورية عصيّةً
علىٰ الأعداء
هكذا قال السلطان وهنانو
وصالح وكلّ الشّهداء
فرغم كلّ ما حلّ في هذه المدينة من ويلات يبقى نور الخالق يتجلّى فيها، ويزيدها تألّقاً، ويزداد عشقه لها. بل نراه يسكب قهره ووجعه في قصيدة وهو يتألّم كما تتألّم حبيبته «حلب»، فيقول في قصيدة (ندىٰ عمري):
في لغتي أسمُكِ أوَّلُ الكلماتْ
وما أنتِ كلمةٌ أو نجمةٌ
أسمُكِ في روحي آياتْ
موجودٌ في دمي منذُ خُلِقْتُ
وإلىٰ آخرِ اللّحظاتْ
لا أعرفُ إلّا أنتِ
ولا أهوىٰ سوىٰ عينيكِ
مهما عشتُ وطالَتْ بي الحياةْ
سأبقىٰ أحبُّكِ وأعشقُ طيبَكِ
وأقبِّل ذكراكِ بعدَ المماتْ
حبيبتي أنتِ غَصْبَ غربتي
فاتنتي ومهجةُ أحلامي
مهما توسّعَتْ وامتدّتْ بيننا المسافاتْ
لَمْ أجدْ غيرَكِ لأعشقَها
لا بديلَ عنكِ
بينَكِ وبينَ قلبي ذكرياتْ
سأظلُّ أناديكِ وأكتبُ عنكِ
أغنّي أشواقي دمعاً وآهاتْ
أنتِ للضّائعِ منارةٌ
وللمتيَّمِ اليائسِ الحائرِ صلاةْ
أحكي عنكِ للضَّوْءِ إنْ أظلمَ
وللبحرِ لو تيبَّسَ موجُهُ
وللّيل لو ضاقَتْ عليهِ السّاعاتْ
جلُّ وقتي وكلُّ نبضي
ومعظمُ صمتي وسائرُ بَوْحي
عَنْ موعدٍ من صوبِكِ آتْ
هيهاتَ أنسىٰ وجهَكِ
قريباً ألقاكِ وأغمرُكِ بالقبلاتْ
حلبٌ أنتِ
مدينةُ السّحرِ والأمنياتْ
أَسْمِعي روحي صوتَكِ
عطشَ قلبي أحييهِ بالأغنياتْ
أنتِ ندىٰ عمري وأوجاعي
مهما حالَتْ بينَنا السّنواتْ.
وينساب الديوان شعراً صافياً عذباً يحمل الشجن والألم، ممزوجاً بعبق الحضارة والأمل، مع الصور البديعة الطريفة الجديدة المتجدّدة التي كان يبثّها في كل جملة شعرية يصوغها.
إنّه ديوان يستحقّ مع بقيّة الدواوين التي أصدرها دراسات متعمّقة في فنّه الشعريّ وشخصيّته الأدبيّة الناضجة والمتميّزة، بل يستحقّ من القرّاء أن ينهالوا عليه، لأنّه قد سكبَ فيه معانيَ العطاءِ والألم والأمل، فتحسُّ أنّه نابضٌ بالحياة، رغم كثرة ذكره للموتِ، الذي يختطف كلّ يوم بفعل جرائم الحرب الوحشيّة عدداً كبيراً من أهل وطنه، دونَ وجهِ حقّ.
محمد بن يوسف كرزون
نيسان/أفريل 2017
(بورصة – تركيا).
/// قراءة في ( قهقهات الشيطان ) ..
المجموعة القصصية للقاص والشاعر
مصطفى الحاج حسين .
بقلم - محمد بن يوسف كرزون
* * القلم كائن مشاغب في يد الكاتب والشاعر مصطفى الحاج حسين، فهو لا يدعُكَ تتركُ حرفاً يغيبُ عنكَ إنْ أنتَ أردْتَ أن تقرأ شيئاً ممّا يسيل من أجله. فالحروف تتقافز، والحركات تتراقص، وعلامات الترقيم تُزاحمُ بعضَها بعضاً، فتدخل النصّ ولا تتركه إلاّ بعدَ أن تمرّ عليه كلّه؛ فمهما كنتَ في حالة تعب أو حتّى إنهاك، فإنّ كتاب الأديب.مصطفى يأسركَ ويُنسيكَ كثيراً من معاناتك، ويدعُ ذاكرتَكَ تُعيدُ فتحَ الملفّات القديمة، لَكَ ولغيرِك َ: في الحارة، وعندَ شيخ الكُتّاب، والمدرسة، وأماكن العمل
وملاعب الصِّبا والشباب...كلّ هذا لأنّ مصطفى قد فتحَها
في قصصه الرشيقة الوثّابة القلقة.
ولعلّ ما في قصص هذه المجموعة هو المزج بين
الواقعيّة التي أفرطَ في تصويرها، وبين الفنّ المدهش الذي ساقه، وبين الدّقّة المتناهية التي ساقها بكلمات قليلة؛ كلّ هذا في لغة فصيحة سهلة رشيقة متناغمة، تُحسُّ أنّها لغتَكَ التي تستعملها في يومِكَ لا غير، ما عدا بعض العبارات القليلة التي ساقها باللهجة العامّيّة الدارجة.
فعلى مدى تسع قصص، هي ما حوته هذه المجموعة لا ينفكّ قلم الكاتب يتنقّل من جوّ طفوليّ وحركات الطفولة ، في القصص الثلاث الأولى من المجموعة : قهقهات الشيطان، واغتيال طفولة (1)، واغتيال طفولة (2)، نرى فيها عفويّةالطفل الذّكيّ، الذي يريدُ أن يشاغب ويتحرّك، ويقرأ محيطه على هواه الطفوليّ، ليجعلنا نعيش معه طفولته لحظة بلحظة تقريباً، وهذه القصص الثلاث أشبه ما تكون برواية مصغّرة.
وفي القصّة الرابعة (صاحب حقّ)، يأخذنا إلى علاقات الشباب، بدايات الشباب، وكيف هي محكومة بالأمزجة والأهواء، وحدس الشخصيّة الرئيسيّة فيها كيف كان صادقاً.
ولكنّ القصّة الخامسة نقلتنا نقلة نوعيّة مختلفة ،
اختلطت فيها الأشواق بالوجدان بالواجب بالعُقَدالنفسيّة
إلى الحدّ الذي يمكنكَ أن تصدّقَ أنّ (الحبّ أعمى)، وهو عنوان هذه القصّة العميقة الأبعاد والمدلولات.
وفي القصّة السادسة، (إقلاق راحة)، يسخر سخرية
شديدة التهكّم بالبيروقراطيّة والمزاجيّة وابتعادالموظّف الحكوميّ عن واجبه الذي هو مسخَّر له، حقّاً لقد قدّمَ لنا قهرهُ، وذكّرنا بقهرنا الكثير الكثير في حياتِنا مع الدوائر الحكوميّة، إلى الحدّ الذي جعله لا يذكر لنا سبب ذهابه إلى المخفر ، لأنّ ما حدثَ معه في المخفر كان أدهى وأمرّ. ولا ينسى أن يُعَرِّجَ على المواقف السلبيّة لشرائح كثيرة من مجتمعه من مواجهة مشكلة، أيّ مشكلة، تحصل مع أحد أبناء هذا المجتمع.
ولا يكتفي بتلك القصّة وحدها في التنديد البيروقراطيّة والفساد الإداري، إذْ يُتبِعُ تلكَ القصّة بقصّة عنوانها (ثأر)، تُظهر اهتمام أيّ موظّف حكوميّ بمصالحه الذاتيّة وبالقشور، والابتعاد عن الجوهر، حتّى في علاقاته الشخصيّة وفي حياته الخاصّة.
أمّا قصّة (تل مكسور)، فهي ملحمة سابقة لأوانها،
تستقرئ الواقع، وتتنبّأ بالمستقبل، بشكل لا لَبْسَ فيه. فمن العار أن يفرضَ شاب متطفّل أتى من قريةٍ بعيدة، نفسَهُ على قريةٍ آمنة وادعة، فيخيفهم منه أمنيّاً، وهو معلّم، فكيف يجمع بين رسالة التعليم وغاية الاستغلال بأداة مزيّفة؟ ولكن في النهاية تنتفض له "خديجة" أرملة الشهيد، وتلقّنه درساً قاسياً أمام القرية جميعاً، وتهزأ منه ومن تهديداته.
ويختم المجموعة بقصّة عادل إمام حرمني من
حبيبتي يمزج فيها بين الإمتاع والضحك، وبين تراجيديا اختيار الزوجة في مجتمعاتنا، وكيف أنّ الحبّ ممنوع، ويُظهر الكاتب السلبيّةَ الفظيعة التي يتّفق عليها المجتمع كلّه في تحريم الحبّ الذي ينتهي بالزواج،
وتفضيل مجتمعاتِنا أن يتمّ الزواج عن طريق اختيار أهل الشاب لعروس يرونَ أنّها هي وحدها التي تناسبه، وأنّه لا يعرف الاختيار ولا يُحسِنه.
لن أمتدح هذه المجموعة القصصيّة، فالجوائز التي
حصلت عليها أغلب قصص المجموعة وحدها كفيلة
بالنيابة عنّي بالمديح، ولا سيّما حصول قصصها على
أكثر من جائزة في مسابقة الشاعرة الدكتورة سعاد
الصبّاح، هذا فضلاً عن حصولها على جوائز متعدّدة
من مسابقات اتّحاد الكتّاب العرب في سورية وفروعه.
ولكن أقول: أينَ مصطفى الحاج حسين في مسيرة
الأدب العربي المعاصر، وهو الذي تجاوز في عمره
الخمسين بأكثر من خمس سنين، وتجاوز عمره الأدبيّ الثلاثين عاماً أو أكثر؟ للأسف الشديد، ساحاتنا الأدبيّة العربيّة كانت مشغولة في غير هذا الأديب، أو كانت مشغولة عنه وعن غيره من الأدباء المبدعين المدهشين، لتلمّع مَنْ كان يريدُ أن يتسلّقَ على الحياة الأدبيّة تسلّقاً،
لمآرب لا علاقة لها بالأدب والإبداع الأدبيّ.
أحيّيكَ أيّها المبدع المتدفّق حيويّة، وأقول: حمداً لله على سلامتِكَ، إذْ لم تدخل مستنقعات الأدب الموحلة، وبقيتَ زهرةً فوّاحةً عَبِقَةً بالأريج الصافي، تُبدعُ لنا شعراً، وتزيدنا من قصّكَ الجميل.
وأطالبُكَ برواية أو ملحمة، فأنتَ تمتلك كلّ مقوّمات
الكتابة الروائيّة.
محمد بن يوسف كرزون .
بورصة – تركيا
/// قصيدة : ( حائط السَّراب ) ..
للشاعر والأديب السوري :
مصطفى الحاج حسين.
بقلم الناقد والأديب :
محمد بن بوسف كرزون .
يبدأ الشاعرُ نصّه الشعريّ بمعاتبةٍ شديدة لليلِ الصامتِ الذي يزيدُ من أوجاعه أوجاعاً في هذا الصمتِ المخيف، الذي يترافقُ مع أسىً متصاعد.
ويريدُ الشاعر أن يدخلُ في ساحةِ البَوْحِ
ليعبّرَ عن آلامِهِ، يهدهدها، يهادنها، ويعترفُ
بأنّ الآلام قد تعاظمَتْ،حتّى إنّ دمعتَهُ
صارتْ تبحثُ عن مخبأ تلوذُ به، فسقوطهُ
قادمٌ لا محالةَ، وهي صورةٌ مأساويّة ظهرتْ
نتيجةَ ما حلَّ في الوطنِ كلّه، ذلك الوطن
الجريح، الذي ما زال ينزفُ منذ سنين،
ويستمرّ النزيف بحرقةٍ، نزيفُ أرواحٍ ونزيفُ
دمار وخرابٍ وتشتُّت... فكيفَ لا تنعكس
تلك الحالات على نفسِ الشاعرِ، فيعاتبُ
الليلَ الذي أبعدَهُ عن وطنِهِ، فباتت همومه
أضعافَ ما كانتْ عندما كان يعيشُ الحربَ
وهو في وطنِهِ؟!.
تلك الهموم التي أمستْ صديقَتَهُ التي
يتعايش معها وتتعايش معه، لتنهالُ في
قصيدتِهِ صورٌ فنّيّةٌ غايةً في الطّرافةِ
والجدّة.
وتتدفّقُ الصور المعبّرة عن معاناةِ الشاعر،
فالسّماءُ تُمْطِرُ عويلَ هروبه، وهذه صورةٌ
مبتكرة بديعة، لم يسبقْ أحدٌ أن لمَّحَ إلى أيِّ
جزئيّةٍ منها.
ونراهُ يتابع الصورَ المبتكرةَ، فيقول:
( خُذْ منّي خطواتي يا ليلُ
تعكَّزْ علىٰ لهبِ نزيفي
وانطلقْ
صوبَ ضحكةٍ تكسّرَتْ فوقَ سهوبي.)
وهنا صورتان بديعتان طريفتان غايةً في
الطرافة والإبداع، (تعكَّزْ على لهيبِ نزيفي)،
والثانية تلك الضحكةُ التي تكسَّرَتْ فوقَ
سهوبِ قلب الشاعر، بل فوَق ترابِ الوطنِ،
إلى أن حوّلَتْهُ خراباً...
ما أقسى هذا الخراب الذي يعاني منه
الشاعرُ في كينونةِ نفسِهِ، ألماً على الوطنِ
ممّا يحدثُ له، وألماً في نفسِهِ ممّا يحدثُ
للوطن العزيز الجريح!
ونرى في الصورتين اللتين سقناهما قبلَ
قليل نسيجاً عجيباً من التناسقِ والإبداع،
فهما تنضمّانِ إلى نسيج النصّ الصُّوَريّ،
وتتماسكان تماسكاً نادرَ الحدوثِ في
القصيدة العربية المعاصرة.
وتأتي بعد تلكما الصورتين صورٌ أخرى لا
تقلُّ طرافةً وانسجاماً مع النصّ، بل قطار
متماسكٌ من الصور التي ترتقي بالنصّ
وتشدُّ القارئَ إلى التحليقِ في معانيه
العميقة.
يقول بعدها:
( سلِّمْ لي على نافذةٍ
فرَّتْ من كوّةِ اختناقي
صافحْ رائحةَ النّدىٰ
عانقْ رقصةَ الرّؤىٰ
واحتضنْ
دفاترَ العُشْبِ الرّهيفِ
لتنامَ أعينُ الجوعِ
في وريدي.)
وما أبدعَ ما ختم به صورَهُ ونصّهُ:
لتنامَ أعينُ الجوعِ
في وريدي.
على أنّ القارئَ الحصيف يرى اللغة
المتماسكة التي سعى الشاعرُ إلى ربط
مفرداتِهِ وجمله بها، حتى يجعلَكَ لا ترى أيَّ
انقطاعٍ في نصّهِ المتواصل المتواثب
الكئيب... هذا النصّ الذي يعلنُ تمرّدهُ على
النصوصِ التقليديّة، باستخدامه المنساب
لجميع قواعد السرد الشعريّ بتلقائيّة عجيبة
تفعلُ فعلَها في القارئ، وتتركُ بصمةًلا تُمحى في ذاكرتِهِ... لقد قرأ شعر الشاعر (مصطفى الحاج حسين) الذي لن يُنسى.
وفي المجملِ، ترى القصيدةَ نصّاً متماساً لا
ينفصلُ منه جزءٌ عن جزءٍ، وعلى هذا فالنصُّ عمارةٌ شعريّة متراصّة، تقدّمُ مضموناً متماسكاً، في نسيج من الصور الشعريّة المتفوّقة.
تلكَ هي قصيدةُ شاعرنا مصطفى الحاج
حسين، وهي لا تختلفُ عن لغتِهِ الشعريّةِ
عموماً في دواوينه المتعدّدة، والتي كان لي
الشرف في قراءة أغلبها، بل لا أتحرّجُ في
أن أقول كلّها.
محمد بن يوسف كرزون .
* ( حائط السّراب)...*
شعر : مصطفى الحاج حسين .
أسرفتَ في صمتكَ
أيّها الليل المتهالك
فوقَ غربتي
نزيفكَ أغرقَ أنفاسي
وصارت دمعتي تبحثُ عن مخبئٍ
لسقوطي
وحروفي ماعادت تنبثُ
برفيفِ أحلامي
عن ماذا تفتش في جيوبِ نبضي ؟!
وقلبي تتداعى منهُ الجّهات
ياليلُ دثّرني بأمواجِ راحتيكَ
وهدهد لي اشتعالي
وزّع على أجنحتي همس الغيم
وأَقم في يباسِ ظلِّي
بعضَ المدى
حائطٌ من سرابٍ
ينهارُ فوقَ دهشتي !
والسّماء تمطرُ عويلَ هروبي !
خُذ منّي خطواتي ياليل
تعكَّز على لهبِ نزيفي
وانطلق
صوبَ ضحكة تكسّرت فوقَ سهوبي
سلّم لي على نافذةٍ
فرَّت من كوّةِ اختناقي
صافح رائحةَ النّدى
عانق رقصةَ الرؤى
واحتضن
دفاترَ العشب الرّهيف
لتنامَ أعين الجّوع
في وريدي *.
مصطفى الحاج حسين .
إسطنبول
/// قصيدة : ( تعقب) ..
للشاعر والأديب السوري :
مصطفى الحاج حسين .
الناقد والشاعر : عدنان بصل .
إنّ النصّ المعنون ب(تعقّب) يحمل همّا جميلا وجماله متأتّ من كونه وجداني بامتياز إنّما استخدام الكاتب لأسلوب الخبري أصبغ النص بالسردية التي هبطت بمستوى النص إلى مستوى الخاطرة وحتى إلى التقريرية في هذه المخاطرة
مستلزمات النص المبدع تقتضي التنوع بين الأسلوب الخبري والأسلوب الإنشائي الأمر الذي يعطي حركيّة للنص فكما يستخدم الفنان التشكيلي الألوان المتنوعة في لوحته فتبدو مترعة بالجمال فعلى الأديب أن يستخدم تنوع الأسايب فإذا كان المبتغى خلق قصيدة نثر فلا بأس باستخدام الأسلوب الخبري ولن يجب أن يوظف توظيفا بلاغيا كي يحقق الغاية منه وفي نص (تعقب) الذي أرى فيه نصا جميلا وحضورا لافتا للمجاز بأشكال مختلفة كنت أتمنّى ان يكون قد شغل عليه بشكل أفضل كي يأخذ مكانه كقصيدة نثر وأنا لم أورد شواهد عن الجمل الخبريّة لأنّ النص برحمته خبري .
الشاعر عدنان بصل .
* ( تعقّب ).. *
شعر : مصطفى الحاج حسين .
أتعقّبُ غيابي
أُرسلُ خطايَ خلفَ انهزامي
وأطلقُ أجنحة هواجسي
لأعرفَ أمكنةَ نزيفي
أتلصّصُ على حنيني
لأباغتَ قلبي متلبّساً بدموعهِ
هربت منّي أيّامي
وأنكرتني الذّكريات
ووشت بي قصيدتي
إلى الفضاءِ الأصمِّ
صارَ لهاثي يحاصرني بالاختناقِ
انقضّت الجّهاتُ على رؤايا
وأمسكت جثتي بالغيوم
لتنوح الدّروب فوق رفيفي
أنا احتراقُ الدّمع في الحنجرة
ونموّ الدّم في الشّهيقِ
تعثّرت بي خيبتي
وأنا أنادي الرّيح
لتحملَ عنّي تشرّدي
وتزحف نحوي الانكسارات
تحتاطني ظنوني
تقفزُ الحُرقة من دهشتي
حينَ تمدُّ لي الهاوية يدها
تتعرّى منّي الكلمات
تفتضحُ أسرار صمتي
لأعلن على مرآى موتي
ولادة عنادي
سأرسم لأشواقي خارطة الحلم
سأفتح نافذة في جدرانِ الألمِ
وأُطَيّرُ للمدى شمس فؤادي
أنا سليل القهر والاندحار
أعلنُ عن قيامةِ الخراب
سينهضُ بنا الرّماد
ونعودُ للبلادِ التي
لفظتنا بمجون .
مصطفى الحاج حسين .
إسطنبول
/// وكان الناقد والأديب والشاعر :
محمد بن يوسف كرزون :
قراءة مخالفة لقراءة عدنان بصل :
َوهذا ما كتبه ( محمد بن يوسف كرزون)
هذا ليس تحليلاً لنصّ، هذا درسٌ في الكتابة الشعرية، أرادَ الناقدُ أن يقدّمَ درساً تفصيلياً في ما يرغبُ هو أن يرى الشعر عليه... لا أكثر ، ويلقّنه لشاعرنا الماجد «مصطفى الحاج حسين».
ولو أنّه كان يريدُ أن يحلّل ويظهرَ المحاسن
والمساوئ لكان عليه أن يأخذ حجماً أكبر ممّا كتب.
هو يقدّم تعليقاً لا غير، ولم يُظهر من مواطن الجمال فيالنصّ الشعري سوى عبارة (همّاً جميلاً) في بداية مقالته،و(أرى فيه نصا جميلا وحضورا لافتا للمجاز بأشكال مختلفة) في نهاية المقالة، وكلمتاه هاتان عموميّتان إنشائيتان، لم يثم الدليل عليهما في نصّه النقديّ، ولم يحلّل أيّ صورة مجازيّة من صور النصّ الكثيرة بل التي أُتخِمَ فيها النصّ لجماله.
يكتبُ الشاعر مصطفى الحاج حسين قصيدتَهُ بألمِ أمّته الذي امتزَجَ بألمه الشخصيّ، فلم نعد نرى الحدودَ الفاصلة بين الألمين .
هو يستخدمُ الضمير الشخصيّ الفردي (أنا) وما يلحقُ به من ياء المتكلّم والفعل المضارع الذي صيغَ على بالصياغة الفرديّة ذاتها، ولكن قراءتنا لتفاصيل قصيدته لا تخفي امتزاج ألمه بألمِ أمّته جميعاً، التي تغوصُ الآنَ (في عُتمةِ النار)، والتي (تلملمُ انكسارات موتها)، وكأنّها (تعدو صوبَ شهقاتِ الأفول)، ورغم تراثها العظيم، الذي اتّخذ الشاعر من اللغة رمزاً له، فإنّ هذه اللغة الرمز لم تعد تنفع شيئاً، فهي ليست سوى (أجنحةٍ تمتدُّ لتعلنَ خرابَ أمّةٍ كاملة): (أمدُّ لغتي أجنحة لخرابي).
ثمّ ينقلنا إلى تفصيل آخر لا يقلّ دهشةً
وغرابةً، ولكنّه واقع وحقيقة: (أوزّعُ ينابيع دهشتي على خريرِ اختناقي) .
فهذه الأمّة تصرخ وهي تكادُ أن تختنقَ ممّا هي فيه من ويلات وحروب ومؤامرات ، في دهشةٍ غريبة من مواقف العالَم كلّه تجاه ما تعاني منه.
وينهي القصيدة كما ابتدأها، بالموت أو
النهاية:
لا شيء يشبه اسمي
إلاّ أمواج العدم .
القصيدةُ في تفاصيلها تكادُ تكون ملحمة مصغّرة، تحاكي ما يجري في الواقع المرير، وتنبئُ عن أنّ الأمّة تسير إلى نهايتها إلى تفتُّتِها، إلى موتها المحتوم ، وهي الأمّة التي عاشت قروناً طويلة صابرةً على الشدائد والمحن ، وصمدتْ.
ويأتي تحذيرُ الشاعر في غاية الأناقة والجمال، عندما يمزج (الأنا) بــ(نحن)،ويعلنُ أنّ وجعه هو في العمقِ والأزمة التي يكادُ لا ينفعُ معها دواء.
القصيدة مُترَعةٌ بالصورالمدهشة،والمجازات المذهلة، التي لا تشبه قصيدةً أخرى من قصائد الشعر النثريّ المعاصر والحديث في تفاصيلها، وإن كان قد استندَ في واحدةٍ منها إلى البلاغة القرآنية، في قوله:
ورحتُ أهزُّ بجذعِ قهري
تساقطَ عليَّ جمرُ صمتي
فهي تذكّرنا بآياتٍ من «سورة مريم» :
(وهزّي إليكِ بجذعِ
النخلةِ تساقط عليكِ رطباً جنيّاً).
ولكنّ نتيجة هزّه لقهره كانَ جمر الصمتِ الذي يكوينا جميعاً ولا نستطيعُ الفكاكَ منه، عندما نرى أمّتَنا تُذبَحُ وريداً وريداً ونحنُ صامتون.
محمد بن يوسف كرزون .