غزلان شرفي - ثلاث دراسات نقدية عن تجربة الشاعر والأديب السوري : مصطفى الحاج حسين

** ( سعف السراب )..
للأديب الشاعر السوري : مصطفى الحاج حسين
.......... بقلم : الأستاذة غزلان شرفي
قالوا قديما : ( الإبداع هو أن يخرج الإنسان من وحل الفشل إلى إنسان يُضرب به المثل) ، والأستاذ مصطفى الحاج حسين خير مثال ، وأحسن قدوة يُحتذى بها في مجابهة صعوبات الحياة ، و مثبطات العيش ... فمن الانسحاب من مقاعد الدراسة في سن مبكرة إلى التربع على عرش التميز والفصاحة والتمكن : شعرا ونثرا ، وهذا لا يختلف عليه اثنان ممن خبروا دهاليز كتاباته ، وتذوقوا جمالية مداده .
لطالما كانت لغة الشعر حالمة، محلقة في الخيال، جانحة للانفصال عن الحقيقة، لكنها مع ذ. مصطفى مشدودة إلى الواقع المر ، كونه اهتم بالجانب الراصد لهموم بلده ، وهواجس ذاته ، المنغمسة في بحر لجي ، لا قرار له ولا شاطئ ، زادت الغربة من تعميق جراحاته ، فجاءت قوافل حروفه تقودها نار الوجد ، وتظللها سماء الحنين في صحارى الفقد ... وستظل هاته الجراح تلهم شاعرنا للبوح الصافي بمكنونات القلب المنفطر ، والروح الثكلى ، مادام يعيش حالة من الامتداد في الزمن ، والتمدد في المكان ، بين إسطنبول وحلب .... هذا الحبل السري الذي لم ينقطع بعد رغم أن رحم الأم ( حلب) لفظه ( قسرا) خارجه، فلا زال يتغذى بآهاتها ، ويرتوي من وديان دمائها ، وما أشبع نهمه ، ولا أطفأ عطشه ... فالحنين يشاركه صحنه ، والشوق ينهل من مورده .... ليبقى دوما في حالة تعطش ورغبة لا تنتهيان .....
وأنا أتجول بين مروج الديوان ، وأتنقل من قصيد لآخر ، استشعرت طعم المرارة والخذلان اللذين عبر عنهما الشاعر بأبلغ بيان ، إذ تُحسه جزءً لا يتجزأ من خارطة الوطن الذي أحاطته عيون الإخوة بنظرات التنكر ، عوض المساندة والمؤازرة ، فكانت الخيانة مزدوجة ، داخليا وخارجيا ، الكل فيها سواء ، من جار أو صديق ، وقد أفرد الشاعر أكثر من نص في هذا الموضوع .....
لكل نبضة شعر في هذا الديوان نٓفٓس من أنفاس الشاعر ، يؤرخ للحظات ألم اكتنفت مشوار حياته، فحاول ترجمتها حروفا علّها تخفف من لظى ناره ..... فمن رحم المحنة ، كانت منحة الإبداع والتميز التي طبعت كتابات شاعرنا الحصيف ، الذي امتلك نواصي التعبير ، وطوّع القلم بكل تيسير ، فما كان حلمه سرابا ، ولا أمله يبابا ...... فها هو اليوم يؤسس لتيار شعري مميز ، يحتل مكانة وسطا بين الوجداني والملحمي في تزاوج رائق ؛ فالشاعر لم ينفصل ولو للحظة عن هموم وطنه ، ولا عن انشغالات بلده ، رغم أنه استشعر العنف ضده ، وضد أمثاله من شعراء السلام .... هذه القسوة التي جعلته يخاصم ذاته في أكثر من موضع ، ويستنجد بما يحيط من عناصر تؤثث المحيط الخارجي قصد مشاركته إحساسه بالتشرد والضياع ، حتى انه جعل للسراب سعفا ، وهل يكون لسراب سعفٌ؟ السعف للنخلة بمعنى الجريد ، وللعروس بمعنى الجهاز ، وللبيت بمعنى الأثاث .... فما يكون بالنسبة للسراب ؟ وهل للسراب وجود من أصله ؟ وهل له كينونة ؟ ....... كل شيء ممكن مع شاعرنا الذي اعتاد تكثيف المعاني ، والنزوح إلى الرمزية دون كثير تعقيد ..... وما اختيار عنوان هذه القصيدة بالذات ، والتي تحتل الرتبة الثانية والخمسين ضمن ستين قصيدة تضمنها الديوان ، جاء اعتباطا ، وإنما كونها تحمل قبسا من نور ، وفجوة من أمل في سلام بعيد المنال ، هذا علاوة على تميزها بصور وانزياحات من الحبكة بمكان لا نملك إلا التماهي مع معانيها إلى أبعد الحدود ....... ذات الأمل تطالعنا به قصيدة(رايةالياسمين)
فلا نملك إلا التعاطف مع الشاعر ، وكلنا رغبة في أن تزداد كوة الأمل اتساعا ليعم النور أرجاء الروح المكلومة التي تداوي خيباتها من خلال الصرير المبحوح ليراع سخر مداده لخدمة الهدف المنشود ........ يراع قلم يجود به الزمن ، له من السحر ما يجعل القارئ يمتطي صهوة الجمال ، ويحلق في سموات الأصالة اللفظية والمعاني المتجلية بمنتهى الدلال .... ثم يعود ليبحر في ثراء الانزياحات ، وكثافة المجازات ، فيتسربل بالإبداع في أبهى حلله ، حتى إني لأكاد أجزم أنه الشاعر المعاصر الوحيد الذي أقرأ له ( آلاما ) ( باستمتاع ) ، وأتجرع معه ( المرارة ) ( بتلذذ ) ...... ليس انفصالاعن واقع مر سطرته أنامله المبدعة ، وإنما انغماسا كليا في ديجور طاغ أخاذ ، بحثا معه عن نجوم متفرقة هنا وهناك ....... عساها تنير دواخل شاعرنا ، ودواخلنا كقراء ولو بخيط رفيع من نور ......
غزلان شرفي
فاس : حزيران/يونيو 2020
======================
** الأديبة الناقدة الأستاذة ( غزلان شوفي ) تكتب :
قراءة في قصيدة ( لجوء)..
للشاعر والأديب السوري :
مصطفى الحاج حسين .
--------------------------------------------
نحن اليوم أمام نص إبداعي من توقيع الشاعر مصطفى الحاج حسين،نص ذي حمولة كبيرة وعميقة، تفتح الباب على مصراعيه للغوص في معانيه وأفكاره.
العنوان: يتكون من كلمة واحدة، عبارة عن مصدر من الفعل الثلاثي( لجأ/ يلجأ/ لجوءً، فهو لاجئ) مما يمنح القارئ انطباعا أوليا، ومنذ الوهلة الأولى، بأن القصيدة تحتمل الغوص في بحار شتى، فقد يكون الشاعر باحثا عن لجوء عاطفي، وجداني، أو ربما حتى سياسي، على اعتبار أن اللفظ يُستعمل في حقول دلاليه عدة؛ هذا اللجوء الذي لن تتضح معالمه إلا بالتنقل بين كلمات القصيدة، والتشبع بمعانيها، خصوصا وأن الشاعر أدرج اللفظة نكرة ،مما يضعنا في موقف الحيرة، وهنا تجدر الإشارة إلى أن النص نثري، مما أتاح للشاعر التحرر من ضوابط الوزن والتفعيلة والقافية، وهذا يتماشى مع المضمون، كما سنرى لاحقا…
ينطلق الشاعر في نصه من الاعتراف بحالة الخصام والتنافر التي يعيشها مع ذاته، حالةٍ آنية، مستمرة بدليل استعمال المضارع في تصريف الافعال( يختبئ/ أتهرب/ أشيح)، ليستمر في تأكيد الحالة بتوظيف لا النافية للجنس(لا كلام/لا توافق/لا سلام) وهذا يضعنا أمام صدمة عاطفية منذ الاستهلالية، ويستمر ذا الهروب من خلال موقعة الشاعر لذاته خارج النبض( نبض قلبه؟؟؟؟؟/ هل الأمر يتعلق هنا بخيبة عاطفية، أم أن الأمر أعمق من ذلك بكثير؟؟؟؟……)
وتستمر القسوة، ومخاصمة الذات فيما يلي من الأبيات، لكن الملاحظ أن الشاعر،في معرض قصيدته انتقل إلى الزمن الماضي، وهنا حدثت خلخلة في السيرورة الزمنية، هل هي مقصودة، لتأكيد قِدم الوجع؟؟أم فلتة من فلتات القلم؟؟( هربت/ سقطت/ صار/ خانتني/ تخلت)……
قمة الوجع والاغتراب والألم تظهر في إشراك العناصر الطبيعية الكونية من أرض وسماء وغيوم في الحالة النفسيه لشاعرنا، بل إنها تآمرت عليه، وأمعنت في تعذيبه،وما انتشلته من ضياعه….. وهنا وظف الشاعر صورا راقية جدا، مع انزياحات بليغة، باستعمال المفردات والضدية فيما يُفترض بها من دور( الهواء اعتصر حنجرتي/ الندى سلبني أزهاري/ وعتم الضوء غرفتي…..)
في الجزء الأخير من القصيدة، يعود الشاعر إلى استعمال الزمن المضارع في سياقات جدا عميقة، وجدا صادمة، فقد أصبح يتوق لمفارقة الحياة، ومعانقة الموت، الذي أصبح يراه أرحم و وأدفأ من الوحدة التي تُغلف وجوده وحياته، لدرجة التخلي عن هويته، وكينونته وحقيقته، والرضا بحالة العدم التي سيتيحها له الموت حين يحوله إلى رماد…… إلى رميم، إلى استقرار ولو بالجحيم كمصير…….
وفي المجمل، يمكن القول أن الألفاظ المستعملة خدمت المعنى بشكل كبير، إلا أن تٓحدّرٓها من معجم ملفوف بالسواد، مضغوط بالتشتت والتشظي ألبس القصيدة رداء من التشاؤم، جعل القارئ ينفر في بعض المواقع، وهذا راجع لوحدة الموضوع، وعدم التنويع،… إلا أنه لا يفوتني أن أثني هنا على الشاعر كونه قام بتشكيل كثير من الكلمات كي تسهل على المتلقي القراءة، كما أنه اعتمد الجمل القصيرة ، مما جعلنا في حالة تركيز دائم مع النص، مع غياب أي لبس أو تعقيد لفظي أو معنوي….. لكن غاب عن النص ذلك الجرس الموسيقي في مجمله، رغم وجود نثرات منه في قلة من المواضع( أزهاري/ انكساري….) لكن الموسيقى تمنح الشعر حياة…….
فيما يخص الأسلوب ، فكله خبري إقرارا لحقيقة الضياع، وتأكيدا لها…….. وهنا، آخذ على الشاعر عدم تشبثه ببصيص من نور وأمل،في مجمل قصيدته، مما جعلها ناطقة بالسوداوية، موغلة في الانعزال، دون تفصيل لأسباب هذه الحالة……
وفي الختام، أشكر شاعرنا القدير على جمالية أسلوبه، وخلو لغته من الأخطاء، وابتعاده عن الحشو والإطناب، وأتمنى أن نقرأ له نصوصا على نفس المستوى من الكفاءة، لكن بمواضيع أكثر تفاؤلا، وأميل إلى الأمل والانفتاح…….
‌⁩ غزلان شرفي
المغرب .. فاس .
*****************************
* لجوء …
شعر : مصطفى الحاج حسين .
يختبئُ وَجهِي منِّي
وأتهرَّبُ من أنفاسِي
أبتَعِدُ عن دَمِي
وأشيحُ عن قامَتِي نَظَري
لا كَلامَ مع قلبي
لا تَوافقَ مع روحي
ولا سَلامَ مع دَمعَتِي
إنِّي خارجَ نَبضِي
إنِّي وراءَ غِيَابِي
هَرَبَتْ مِنِّي خُطَايَ
وسَقَطْتُ في مستنقعِ الصَّمتِ
صارَ الكلامُ شَوكاً
وقَصيدَتي مَنفىً لِلذَاكِرَةِ
خَانَتنِي الأرضُ
وتخلَّتِ السَّماءُ عَنِّي
فَعَلى عَطَشِي تآمَرتِ الغُيومُ
وقبري باعَ جثماني للضواري
النَّارُ نَهَشَتْ بَسمَتي
الهواءُ اعتَصَرَ حنجرتي
والنَّدى سَلبَني أزهاري
وعَتَّمَ الضَّوءُ غُربتي
وصوتُ الطفولةِ نَخَرَ انكساري
أُنَادِي على مَوتٍ رَحِيمٍ
يَنتشلُ صَقيعَ وحدَتي
أستجيرُ بالعَدَمِ
أنْ يَقَبَّلَ أوراقَ اعتمادي
ويُعطيِني جِنسِيَّةً جَدِيدَةَ
اسمِي :
– رَمَادٌ
كنيتِي :
– رَمِيْمٌ
وَطَنِي :
– جَهَنَّمُ
لُغَتِي :
– الخَرَسْ *.
مصطفى الحاج حسين .
======================
** " قصيدتي مقبرتي "
للشاعر : مصطفى الحاج حسين ...
* بقلم الأستاذة غزلان شرفي.
لطالما صادفتني مقولة( الإبداع يولد من رحم المعاناة)، ولطالما استوقفتني آراء المناقشين لها ،بين مؤيد ومعارض، بينما كنت أتخذ
موقف الحياد من الأمر، مُقنعة نفسي بأن الإبداع رهين بحاجة صاحبه للتعبير، سواء كان سعيدا أو تعيسا..... ولما أتيحت لي الفرصة للاطلاع على دواوين الأستاذ المبدع مصطفى الحاج حسين، وعلى مجموعاته القصصية، وجدتُني منبهرة بطريقته الخاصة، واستثنائيته المميزة في ترجمة الألم والمعاناة والعذاب النفسي، جراء الاغتراب عن الوطن إلى شلالات جمال، وأنهار روعة، تنساب برقة وأناقة، فتُلبِسُ الحزن رداء الوهج، وتحيك للألم أثوابا من أمل....
إن المطلع على السيرة الذاتية لمبدعنا الأريب لا يملك إلا الإعجاب بهذه الإرادة الصلبة، والرغبة العارمة في امتلاك نواصي الكتابة، وتكريس الجهد والعمر للتمكن منها، وكأنه ولد ليكون شاعرا، ولا شيء غير ذلك؛ وإن كان في مرحلة من شبابه كان ينقش أبياته على الحيطان و الجدران التي هي في طور البناء حين يحضره إلهامه، فإنه الآن، وبعد بلوغه مرحلة النضج الفكري والعاطفي، قد تمكن من نقشها داخل قلوب قرائه ومتتبعيه، ووشمها في ذاكرة الثقافة العربية، وطرّزها بحروف من نور لن تخبو مهما طال عليها الأمد، لأننا صرنا إلى زمن التشبع حد الغثيان، والاكتفاء حد التخمة لكثرة ما يُسطر يوميا، وما "يُنظم" من "أشعار"... لكن..... وسط هذا الكم الهائل من الكتابات،لن يصح إلا الصحيح،في الابتداء والانتهاء، كما هو الشأن بالنسبة لكل ( موضة) جديدة، "فالتقليعات" تجلب الأضواء عند ظهورها لأول مرة، ويكثر حولها اللغط والصخب، لكن سرعان ما تخبو وتؤول إلى النسيان.
في ظروف كالتي صاحبت نشأة الشاب ذ. مصطفى الحاج حسين، كانت الخيارات خانقة حارقة، وفي بيداء حياته، نمت شتلة الكتابة لديه، وبدأت في النمو، حتى غدت واحة فيحاء، ترخي بظلالها على كل مظاهر حياته، وتخفف من طعم المرارة والخذلان اللذين رافقانه، فقد فتحت له الأبجدية حضنها، ورسمت له جناحين مكناه من التحليق خارج مجرة أحزانه، وفوق تضاريس آلامه، فكان الشعر هو السلوى، وفيه طاب له السكن والمأوى، لقد كان إدمان ممارسة الكتابة بالنسبة لشاعرنا كالبلسم لجراحاته، والمُسكّن لآهاته،هي علاقة تجاوزت المعنى المادي المحسوس( ورقة وقلم) لتصبح آصرة روحية عاطفية متينة، تعكس تلك اللّحمة التي يستشعرها الشاعر مع وطنه، المُبعٓد عنه قسرا، فأصبح الشعر وطنه الثاني، وحضنه الحاني....
وأنا أتجول بين قصائد ديوان( قصيدتي مقبرتي) ، استشعرت كم الحزن الهائل الساكن بين أضلاع شاعرنا، وتلمست آثار الندوب التي يحملها قلبه المسكون بحب معشوقة تمكنت من التربع على عرش عواطفه، فكان لها تاج المُلك بامتياز، وكان لها السبق في المداد.. ديوان جمع بين ستين(60) روضة من رياض الإبداع، تعددت معانيها، وتنوعت رسائلها، ورغم أن الخيط الناظم لها انحصر في الحزن والخيبة والألم، وقليل من الأمل، إلا أنها ستظل ورودا عبقة، ولعل أندر الورود، وأكثرها جذبا للإعجاب..... هي تلك السوداء..... وهنا، أؤكد أن ما خطته أنامل شاعرنا، رغم سوداويته، إلا أنه استثنائي في معانيه وبلاغته وصوره وانزياحاته...
أنا وجع النسمة
جناح الدمعة
عصفور المسافات...
لكن، لعل ما يشد الانتباه أكثر في هذا الديوان هو عنوانه( قصيدتي مقبرتي).. جملة من كلمتين، بمعان من سطور وصفحات...... عنوان اختاره الشاعر من بين عناوين عديدة للنصوص المتضمنة بين دفتي الديوان، إنها القصيدة العشرون التي يصف فيها الشاعر قصيدته بكونها مخبأه السري ومقبرته.... هذا المعنى يتكرر في مواضع كثيرة جدا من الديوان حيث نالت المفردة نصيب الأسد من حيث التواجد...
لو كانت السماء تتسع لقصيدتي
لأمطرت حروفي شموسا(القصيدة3)
-
وبلا قصائد ترثي أيامي
سأكون سعيدا (ق 17)
-
يا قصيدة كتبتها غربتي. (ق22)
-
هي نبيذ المسافات
كوثر الوقت
قصيدة الرحيق (ق 25)
-
صارت قصيدتي
منزوعة الأبجدية. (ق 29)
-
وقصائدي صبت النار
على جسدها اللدن. (ق 30)
-
دع قصيدك
يلملم حطام الحروب. (ق 33)
-
قصيدتي تكشف عني العماء
تبصرني خطاي
وأنا أزحف في عراء. (ق 47)
-
يصعب وصولي إليك
لا أملك إلا أن أحبك
وأن أكتب عنك كل القصائد
لولا أنت ، ما أتيت للدنيا
ولا كتبت الشعر. (ق 59)
-
أنا سيجت وطني بالندى
سورت سماءه بالقصائد (60)
من هنا، يمكنني القول أن القصيدة ليست في الحقيقة مقبرة لشاعرنا، بقدر ما هي حياة، ولادة جديدة، انبعاث، نفٓس..... فهو مع كل ضيق يتملكه، وكل كرب يعتريه يلجأ الى النظم، حيث يجد الونٓس، ويحظى بالأليف..
مع كل هبّة شعر من الديوان، يلفح وجوهنا صهد اللظى، وزفرات حرّى، قد تأخذ حينا منحى السخرية والتهكم،مثل قوله:
على صاحب هذه الجثة
الاعتذار من السيد القاتل
لأن دمه القذر
تسبب بتلويث الثياب الأنيقة. (ق11)
-
فليمت رعاع سوريا
ليس لهم مكان
فليكونوا تجارب للأسلحة
موضوع مؤامرات الدول المتحضرة
(ق 31)
وأحيانا، قد ترتدي عباءة الشوق للمحبوبة التي أخذت بمجامع القلب والروح:
أنا يا حبيبتي لا أتقن في الدنيا
إلا حبك، والكتابة عنك (ق51)
يسعدك انهزامه ...
وأحايين أخرى، تصير الحروف دموعا تنعى فقد الأهل والأحبة:
موت ذوي القربى أشد مضاضة
من موت الانفجار (ق 41)
لتتحول في مواضع أخرى إلى كشافات نور تفضح تخاذل الإخوة العرب، وتآمرهم اللاأخلاقي ضد الشقيقة الجريحة، وأبنائها المهجّرين:
بكل وقاحة وصفاقة
أباحوا ذبح بياض الياسمين
واستباحوا بكل فظاظة ونجاسة
كرامة الأشراف اللاجئين
أرادوا إذلال الأحرار
بئسهم لأنهم من الأنصار الكاذبين
يا ويلهم ماذا يفعلون مع المهجرين؟
تاريخنا وديننا واحد
فلم الجفاء
ونحن أتيناهم مسالمين. (ق35)
---
دون أن يغفل أمر المتسلقين المتحذلقين، شعراء المنابر والنظام، الذين يضمرون الكره لكل من أسال-بشرف- مداده في حب الوطن:
يسعدك انهزامه
وانكساره
والإساءة لاسمه
وإبعاد الأصدقاء عنه
وإقصاؤه عن أماكن يسعى اليها
وحرمانه مما يحتاجه من هواء
وفضاء يتسع لأحلامه
يسعدك قتله
ومطاردة أنفاسه (ق10).
ورغم قتامة المنظر، ودُكنة سمائه، إلا أن نسمات من أريج الياسمين تهب علينا، بين الفينة والأخرى، من خلال شرفات صغيرة أقامها الشاعر في صرح بنائه الإبداعي المميز:
قل لحلمك
أن لا يضمر
أو يختفي
فبعد السقوط
نهوض
هكذا علمتني العاصفة
....
قسما ستثمر الجراح
وينبلج السلام
ويرفرف علم المطر
فوق سماء الطفولة (ق24)
...
سيتعب الموت
وينتحب
بل وسيعتذر منك
وستنتشر رسائل الندى
على اليباس والتصحر
ويعم بياض الياسمين. (ق 28)
وفي نهاية هذه الجولة الماتعة في مروج الإبداع الناطق بآي التميز العاكس لمرآة الواقع بكل تناقضاته، ولجروح الروح بكل تشظياتها، لا يسعني إلا التنويه بهذا القلم الباذخ ، الذي استطاع أن يؤسس لتيار استثنائي في عالم القصيدة النثرية، المحلقة فوق قيود المألوف، بفضل إرادة صاحبه، ودُربته وكفاءته، إلى جانب موهبته الثرة، وقريحته المتفجرة، قلم امتلك من المقومات ما جعله ريشة ترسم بالحروف صورا ناطقة بكل التفاصيل الإنسانية، حتى إنه لٓيستحق أن يصنف كثراث إنساني ثقافي للذاكرة السورية ، بكل آلامها وآمالها...... فديوان( قصيدتي مقبرتي)، علاوة على ما تشرفت بالاطلاع عليه من دواوين أخرى لشاعرنا الفذ، يختزل محنة الشعب السوري، ومعاناته داخليا وخارجيا بشكل مختصر، مركز، مدقق، وإبداعي لا يملك القارئ معه إلا ان يتماهى مع حروفه، ويتعاطف معها حد البكاء، مع أن البكاء في حد ذاته ليس هو الحل لأزمة أشقاء.
شلالات تقدير للشاعر الحر، الصداح بالحق الأستاذ المبدع مصطفى الحاج حسين.
-
*غزلان شرفي ..
فاس /

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى