الموت على البحر
أرى الولد, صغير الجسم. ساقاه رفيعتان في الشورت الأبيض الواسع, وقميصه مفتوح. عيناه كأنّما فيهما نظرة متأملة, مبكرة كثيرًا عن سِنّه, وهو يقف في أول الصبح على حافة البحر الموحش, عند (المندرة) .
أمامه صفحة ساكنة وشاسعة, مشعّة ولا تكاد تترقرق, دسامةٌ بيضاء في الضوء الذي يكاد يكون شتويًّا, تنتهي برغوة شفافة تغوص في الرمل بوشيش خفيض, متكرر.
أُحِسُّ, عبر السنين الطويلة, بالنداوة اللينة تحت قدميه الحافيتين, والهواء المبلول على وجهه.
وأجد أن الشوق, مثل نزوع الموج, يرتمي على الشطّ ممدودَ اليدين, بلا تحقق, مثل اندفاع الماء, مُستَنْفَدًا بعد رحلة طويلة على ثَبَج العُمر, ينكص محسورًا أبدًا إلى عرض اليمّ العميق, ولا يفتأ يعلو وينحسر. حلمه يأتي ويعود, لا يهدأ إلى راحة, وكأنه لم يترك خط النهاية المتعرِّج, لحظةً واحدة.
في تلك الساعة لم يكن هناك غيره على الشاطئ الواسع.
وعلى مسافة كبيرة داخل هذا الامتداد الساكن المتسايل تحت سماء خفيفة اللون, كنقطتين, أراهما, لا تكادان تتحركان, أعرف أنهما أبي وأمي وحدهما في البُعد الفسيح. وأريد أن يرجعا, بسرعة, إليّ.
يصل الموج الطفيف إلى قدميّ, ويترك غشاء فضّيًّا رقيقًا لا يكاد يجفّ, وهو يلمع, حتى يبتل من جديد بزبد يتقطع ويذوب.
في تلك السنة أجَّرْنا كابينة في مصيف أصدقاء الكتاب المقدس في (المندرة). وكان للمصيف سور منخفض من الطوب الأحمر حول أرض واسعة ناعمة الرمل. وكنت أحبّ أن ألعب تحت النخل العجوز العفيّ خشن الحراشيف, بين الكباين الخشبية المتناثرة من غير نظام, وأن أنظر إلى عناقيد البلح الأخضر المدوّر تقريبًا بغضارته الكثيفة تحت السَّعَف العريض وهو يهتز بأطرافه الشوكيّة المسنّنة على زرقة السماء التي تكاد تكون بيضاء. وكانت الفِراخ تجري وتنقّ وتلقط أَكلها من الرمل تحت النخل وحول الكباين, ونُقفل الباب الخشبي في السور, عندما نجري وراءها, أنا وأمي, لنمسك واحدة, وتذبحها أمي بالسكين الحادة التي تومض في الشمس, وهي تقول: (كاك كاك إلهي يصبّرك على ما بلاك), ثم ترمي الفرخة على الرمل تصفّي دمها وهي تجري قليلاً ثم تسقط وأجنحتها تتخبط بجسمها.
وكنت أعدّ الأيام, لأنني سأدخل المدرسة الثانوية بعد هذا المصيف مباشرة, وأفرح بكل يوم جديد. وكنت أستوحش مع ذلك إلى أخواتي البنات عايدة وهناء ولويزة التي كبرت الآن وتمشي في البيت على رجليها غير الثابتتين وتصرخ وتقول بضع كلمات. تركناهنّ في بيتنا في (غيط العنب) مع جدتي أماليا وخالتي وديدة وخالتي سارة وأخوالي.
وكان أبي يأخذ حمام الصبح مع أمي, مبكرًا جدًّا قبل القهوة, هو بالمايوه الأسود الطويل كالفانلة, وجسمه كالعود مشدود, وله عضلات جافة ونحيلة. وهي بالمايوه القماش, غامق الزرقة, مقفل تمامًا, له أكمام قصيرة مكشكشة عند أعلى الذراعين وينزل إلى الركبتين, وكانت قد فصّلته وخيّطته بنفسها على الماكينة (السِّنْجر) القديمة الرفيعة البطن التي بهتت الكتابة الذهبية عليها, قليلاً.
وأجري معهما, وأنا لما أكَد أصحو من النوم, بالشورت الأبيض والقميص الخفيف, نعبر الكورنيش اللامع السواد من أمام المصيف مباشرة. هواء البحر البارد بعد كِنّ الكابينة ودفئها يصدم وجهي, والسيارات قليلة جدًّا في هذه الساعة. وننزل إلى الرمل الواسع المتحدّر, وليس فيه ولا شمسية, وأقف على حافة الماء وأنتظرهما حتى يعودا من البحر, وعلى ذراعي الفُوَط الطويلة كثيفة الوَبرة.
وتخرج أمي من البحر, ناصعةً ومضيئة وناعمة, وشعرها القصير المقصوص مبلول يقطر بالماء. ويلحق بها أبي, قائم العود, ينظر إليها بحب وطيبة, بعينيه الثاقبتين العميقتين في وجهه الحادّ العظام. ويلتفّان بالفوَط, ونرجع جريًا إلى الكابينة
رفرفة الحمام المشتعل
كان الطفل يجري إلى بيت أم توتو (الجريجية) في تقاطع شارعي البان والنرجس, كأنه يلوذ بمكانٍ مسحور.
لم يكن في حسّه, تمامًا, معنى أنها (جريجية).
كان الاختلاف حينئذ, عنده, من طبيعة الأشياء.
كان يشتري الفول من (التركي) بشاربه الأبيض الكبير المصفر قليلاً عند أطرافه من الدخان, وكان عندما يدخل بيوت جيرانهم المسلمين يحس شيئًا من الرهبة. وكان الكونستابل المالطي الذي ينطلق بالموتوسكل في شارع الترمواي, يوقف عربات الحنطور والكارو ويرسل الخيل والحمير الجريحة المقرَّحة الجُنوب إلى الشفخانة ويشتم العربجية شتيمة بذيئة ويشخُر لهم بالإسكندرية الفصحى. وكان عم حسن التونسي بيّاع اللبن يسكن في حارة وراءهم, وعنده في البيت ثلاث جواميس وحمار أبيض فاره ويلبس البُرنس المغربي السمني الناصع يلقي طرطوره وراء عنقه. شعره الناعم أبيض ولحيته بيضاء كاللبن. وكان زوج خالته عم مقار أسود لامع السواد, وكان هناك الصعايدة في الزرائب, وفي وابور الطحين. والفلاحون الذين يبيعون الخصّ والجرجير والليمون والكرّات على حميرهم, لا يلبسون إلاّ قميصًا داكن الزرقة قصيرًا مربوطًا بحبل على الوسط.
والصيادون بلباسهم الإسكندراني الأسود المنفوخ والصديرية ذات الأزرار الكثيرة على الفانلة الطويلة الكمّين, يبيعون السمك في مقاطف من الخوص المجدول يحملونها على رؤوسهم المعممة بطاقية صغيرة ملفوفة بالشاش الأبيض عدة مرات. والأفندية بالجاكتات الطويلة والبنطلونات الضيقة في آخر الرجلين. وكانوا جميعًا يجعلون العالم مكانًا غنيًّا ومتقلب الألوان, مخيفًا إلى حد ما, وجذابًا أيضًا
وكان أمام البيت دكان جزارة كله مبلّط بالقيشاني, الجدران والأرض تلمع, وأنصاف العجول والذبائح الأخرى مشقوقة, مفتوحة البطون, بأقفاصها العظميّة الداخلية الفاتحة الاحمرار, معلقة بخطاطيف أمام الباب تحت اليافطة الزجاجية السوداء المكتوب عليها بخط ثلث ذهبي فخم طويل الحروف, كان قد تعلم القراءة وربط الحروف, وقرأ: جزارة محمد محمود البهنساوي
ضرب الجرس, واندفعنا نجري على السلالم الرخام, ودخلنا حصة العربي. كان خليفة أفندي يتكلم بلهجة فلاّحي قليلاً, ويُعطّش الجيم دائمًا, وله شارب كث كشريط مستقيم الحواف تحت أنفه, وعظم وجهه غائر وجافّ. وكنت في أول صفّ, وطلب مني خليفة أفندي أن أسمّع المحفوظات. كانت سورة الليل وسورة الضحى مقررتين علينا في المحفوظات, وكنت حسن الحفظ, فتلوتهما, واحدةً بعد الأخرى, مسحورًا بالإيقاع والمعاني, وحَلَّ في الفصل كله سكونٌ تام وأنا ألقي الآيات المنغَّمة القِصار, وكان خليفة أفندي ينظر إليّ نظرة ثابتة عميقة, حتى فرغت, وفي الصمت سمعت همهمة خافتة غامضة من الفصول الأخرى, والأنفاس كلّها معلقة, حتى قال خليفة أفندي فجأة: اللّه..! هذا إلقاء مثل سلاسل الذهب.. فتح الله عليك يا بُني. فأحسست وجهي يتضرّج من الزهو والخجل.
في حصة الدين كان الأولاد المسلمون يذهبون إلى غرفة المدرّسين حيث يتجمع زملاؤهم من الفصول الأخرى, ويعطيهم خليفة أفندي درس الدين. وأسمعهم, من الشباك, يقرأون القرآن معًا بصوت عال منغَّم له إيقاع مليء يحتشد له قلبي بالرهبة, وأحسدهم وأريد أن أكون معهم. أما نحن فيدخل إلينا جرجس أفندي مدرّس الإنجليزي, وكان صعيديًّا وقصيرًا ونحيلاً وله وجه قاسٍ أسمر, ويحفظنا قانون الإيمان والوصايا العشرة ومزامير داود وموعظة الجبل وكتابًا صغيرًا فيه أسئلة وأجوبة.
(...)
كان جابر أكبر جماعة الصغار, ولكنه من الكبار أيضًا, يضع رِجْلاً هنا ورِجْلاً هناك. وبعد الامتحانات التي عقدت في تلك السنة, لأول مرة في حياتي, تحت خيمة عالية نُصبت في الحوش الكبير ولها فتحات وقماش ملون مزخرف كقماش شوادر الأفراح والمآتم, قال لي جابر إن عنده سحّارة ملآنة بالمجلات والكتب والروايات فقلت له إنني أريد أن أقرأها, كلها, في الإجازة, فقال لي تعالَ ووصف لي أين بيتهم.
كان بيتهم في شارع 12 من ناحية كرموز, دخلت من الباب الخشبي من فوق عتبةٍ رخامية ممسوحة, وفوجئت بالسماء فوقي, وكان في جانب الحوش الذي جرت فيه الفراخ من أمامي, فُرن موقد جلست أمامه سيدة بملابس سوداء وطَرحة على أطرافها غبار أبيضٍ من الدقيق, تخبز.
سألتها عنه فرحّبت بي وقالت لي: هوّ أنتَ صاحبه? يا أهلا يا ضنايَ. ونادته بصوتٍ عال, ودخلتُ معه إلى البيت وكان غرفة واحدة فقط, وكان أبوه راقدًا على كَنَبة ومغطى بملاءة مصنوعةٍ من خِرق ملونة قديمة مخِيطة بعضها إلى بعض ويسعل بشدة, وركع جابر أمام الكنبة وفتح لي غطاءً قائمًا عموديًّا يُفتح إلى جنب في بطن الكنبة التي كان أبوه يرقد عليها, وأحسست بحَرجٍ شديد ونوعٍ من الإِثم, ولكن الرجل العجوز قال لي: اتفضل يابْني خُد اللي آنتَ عايزه, دا جابر أخوك وكلّمني عنك كتير. ربنا يخليك يابني ويديك الصحة أنت واللي زيك يا ربّ يا كريم. ومدّ جابر يده واستخرج أكوامًا من الكواكب وكل شيء والدنيا والمصور واللطائف وروايات جرجي زيدان وروكامبول. وجلست على الأرض أمام الكنبة أنتقي منها ما لم أكن قد قرأته من عند الست وهيبة أو من عند أصهار خالي سوريال. وتشجعت فمددت يدي أيضًا تحت الرَّجل الراقِد بضعفٍ واستسلام, مغمَض العينين شاربه الكبير مُصفَرّ تمامًا ووجهه متهضم جاف ومليء بالتجاعيد الخشنة. وخرجَتْ يدي برصّةٍ ملفوفة بدوبارة من أربعة كتب ذات جلدة ورقية خشِنة صفراء
- ادوار الخراط: ترابها زعفران
أرى الولد, صغير الجسم. ساقاه رفيعتان في الشورت الأبيض الواسع, وقميصه مفتوح. عيناه كأنّما فيهما نظرة متأملة, مبكرة كثيرًا عن سِنّه, وهو يقف في أول الصبح على حافة البحر الموحش, عند (المندرة) .
أمامه صفحة ساكنة وشاسعة, مشعّة ولا تكاد تترقرق, دسامةٌ بيضاء في الضوء الذي يكاد يكون شتويًّا, تنتهي برغوة شفافة تغوص في الرمل بوشيش خفيض, متكرر.
أُحِسُّ, عبر السنين الطويلة, بالنداوة اللينة تحت قدميه الحافيتين, والهواء المبلول على وجهه.
وأجد أن الشوق, مثل نزوع الموج, يرتمي على الشطّ ممدودَ اليدين, بلا تحقق, مثل اندفاع الماء, مُستَنْفَدًا بعد رحلة طويلة على ثَبَج العُمر, ينكص محسورًا أبدًا إلى عرض اليمّ العميق, ولا يفتأ يعلو وينحسر. حلمه يأتي ويعود, لا يهدأ إلى راحة, وكأنه لم يترك خط النهاية المتعرِّج, لحظةً واحدة.
في تلك الساعة لم يكن هناك غيره على الشاطئ الواسع.
وعلى مسافة كبيرة داخل هذا الامتداد الساكن المتسايل تحت سماء خفيفة اللون, كنقطتين, أراهما, لا تكادان تتحركان, أعرف أنهما أبي وأمي وحدهما في البُعد الفسيح. وأريد أن يرجعا, بسرعة, إليّ.
يصل الموج الطفيف إلى قدميّ, ويترك غشاء فضّيًّا رقيقًا لا يكاد يجفّ, وهو يلمع, حتى يبتل من جديد بزبد يتقطع ويذوب.
في تلك السنة أجَّرْنا كابينة في مصيف أصدقاء الكتاب المقدس في (المندرة). وكان للمصيف سور منخفض من الطوب الأحمر حول أرض واسعة ناعمة الرمل. وكنت أحبّ أن ألعب تحت النخل العجوز العفيّ خشن الحراشيف, بين الكباين الخشبية المتناثرة من غير نظام, وأن أنظر إلى عناقيد البلح الأخضر المدوّر تقريبًا بغضارته الكثيفة تحت السَّعَف العريض وهو يهتز بأطرافه الشوكيّة المسنّنة على زرقة السماء التي تكاد تكون بيضاء. وكانت الفِراخ تجري وتنقّ وتلقط أَكلها من الرمل تحت النخل وحول الكباين, ونُقفل الباب الخشبي في السور, عندما نجري وراءها, أنا وأمي, لنمسك واحدة, وتذبحها أمي بالسكين الحادة التي تومض في الشمس, وهي تقول: (كاك كاك إلهي يصبّرك على ما بلاك), ثم ترمي الفرخة على الرمل تصفّي دمها وهي تجري قليلاً ثم تسقط وأجنحتها تتخبط بجسمها.
وكنت أعدّ الأيام, لأنني سأدخل المدرسة الثانوية بعد هذا المصيف مباشرة, وأفرح بكل يوم جديد. وكنت أستوحش مع ذلك إلى أخواتي البنات عايدة وهناء ولويزة التي كبرت الآن وتمشي في البيت على رجليها غير الثابتتين وتصرخ وتقول بضع كلمات. تركناهنّ في بيتنا في (غيط العنب) مع جدتي أماليا وخالتي وديدة وخالتي سارة وأخوالي.
وكان أبي يأخذ حمام الصبح مع أمي, مبكرًا جدًّا قبل القهوة, هو بالمايوه الأسود الطويل كالفانلة, وجسمه كالعود مشدود, وله عضلات جافة ونحيلة. وهي بالمايوه القماش, غامق الزرقة, مقفل تمامًا, له أكمام قصيرة مكشكشة عند أعلى الذراعين وينزل إلى الركبتين, وكانت قد فصّلته وخيّطته بنفسها على الماكينة (السِّنْجر) القديمة الرفيعة البطن التي بهتت الكتابة الذهبية عليها, قليلاً.
وأجري معهما, وأنا لما أكَد أصحو من النوم, بالشورت الأبيض والقميص الخفيف, نعبر الكورنيش اللامع السواد من أمام المصيف مباشرة. هواء البحر البارد بعد كِنّ الكابينة ودفئها يصدم وجهي, والسيارات قليلة جدًّا في هذه الساعة. وننزل إلى الرمل الواسع المتحدّر, وليس فيه ولا شمسية, وأقف على حافة الماء وأنتظرهما حتى يعودا من البحر, وعلى ذراعي الفُوَط الطويلة كثيفة الوَبرة.
وتخرج أمي من البحر, ناصعةً ومضيئة وناعمة, وشعرها القصير المقصوص مبلول يقطر بالماء. ويلحق بها أبي, قائم العود, ينظر إليها بحب وطيبة, بعينيه الثاقبتين العميقتين في وجهه الحادّ العظام. ويلتفّان بالفوَط, ونرجع جريًا إلى الكابينة
رفرفة الحمام المشتعل
كان الطفل يجري إلى بيت أم توتو (الجريجية) في تقاطع شارعي البان والنرجس, كأنه يلوذ بمكانٍ مسحور.
لم يكن في حسّه, تمامًا, معنى أنها (جريجية).
كان الاختلاف حينئذ, عنده, من طبيعة الأشياء.
كان يشتري الفول من (التركي) بشاربه الأبيض الكبير المصفر قليلاً عند أطرافه من الدخان, وكان عندما يدخل بيوت جيرانهم المسلمين يحس شيئًا من الرهبة. وكان الكونستابل المالطي الذي ينطلق بالموتوسكل في شارع الترمواي, يوقف عربات الحنطور والكارو ويرسل الخيل والحمير الجريحة المقرَّحة الجُنوب إلى الشفخانة ويشتم العربجية شتيمة بذيئة ويشخُر لهم بالإسكندرية الفصحى. وكان عم حسن التونسي بيّاع اللبن يسكن في حارة وراءهم, وعنده في البيت ثلاث جواميس وحمار أبيض فاره ويلبس البُرنس المغربي السمني الناصع يلقي طرطوره وراء عنقه. شعره الناعم أبيض ولحيته بيضاء كاللبن. وكان زوج خالته عم مقار أسود لامع السواد, وكان هناك الصعايدة في الزرائب, وفي وابور الطحين. والفلاحون الذين يبيعون الخصّ والجرجير والليمون والكرّات على حميرهم, لا يلبسون إلاّ قميصًا داكن الزرقة قصيرًا مربوطًا بحبل على الوسط.
والصيادون بلباسهم الإسكندراني الأسود المنفوخ والصديرية ذات الأزرار الكثيرة على الفانلة الطويلة الكمّين, يبيعون السمك في مقاطف من الخوص المجدول يحملونها على رؤوسهم المعممة بطاقية صغيرة ملفوفة بالشاش الأبيض عدة مرات. والأفندية بالجاكتات الطويلة والبنطلونات الضيقة في آخر الرجلين. وكانوا جميعًا يجعلون العالم مكانًا غنيًّا ومتقلب الألوان, مخيفًا إلى حد ما, وجذابًا أيضًا
وكان أمام البيت دكان جزارة كله مبلّط بالقيشاني, الجدران والأرض تلمع, وأنصاف العجول والذبائح الأخرى مشقوقة, مفتوحة البطون, بأقفاصها العظميّة الداخلية الفاتحة الاحمرار, معلقة بخطاطيف أمام الباب تحت اليافطة الزجاجية السوداء المكتوب عليها بخط ثلث ذهبي فخم طويل الحروف, كان قد تعلم القراءة وربط الحروف, وقرأ: جزارة محمد محمود البهنساوي
ضرب الجرس, واندفعنا نجري على السلالم الرخام, ودخلنا حصة العربي. كان خليفة أفندي يتكلم بلهجة فلاّحي قليلاً, ويُعطّش الجيم دائمًا, وله شارب كث كشريط مستقيم الحواف تحت أنفه, وعظم وجهه غائر وجافّ. وكنت في أول صفّ, وطلب مني خليفة أفندي أن أسمّع المحفوظات. كانت سورة الليل وسورة الضحى مقررتين علينا في المحفوظات, وكنت حسن الحفظ, فتلوتهما, واحدةً بعد الأخرى, مسحورًا بالإيقاع والمعاني, وحَلَّ في الفصل كله سكونٌ تام وأنا ألقي الآيات المنغَّمة القِصار, وكان خليفة أفندي ينظر إليّ نظرة ثابتة عميقة, حتى فرغت, وفي الصمت سمعت همهمة خافتة غامضة من الفصول الأخرى, والأنفاس كلّها معلقة, حتى قال خليفة أفندي فجأة: اللّه..! هذا إلقاء مثل سلاسل الذهب.. فتح الله عليك يا بُني. فأحسست وجهي يتضرّج من الزهو والخجل.
في حصة الدين كان الأولاد المسلمون يذهبون إلى غرفة المدرّسين حيث يتجمع زملاؤهم من الفصول الأخرى, ويعطيهم خليفة أفندي درس الدين. وأسمعهم, من الشباك, يقرأون القرآن معًا بصوت عال منغَّم له إيقاع مليء يحتشد له قلبي بالرهبة, وأحسدهم وأريد أن أكون معهم. أما نحن فيدخل إلينا جرجس أفندي مدرّس الإنجليزي, وكان صعيديًّا وقصيرًا ونحيلاً وله وجه قاسٍ أسمر, ويحفظنا قانون الإيمان والوصايا العشرة ومزامير داود وموعظة الجبل وكتابًا صغيرًا فيه أسئلة وأجوبة.
(...)
كان جابر أكبر جماعة الصغار, ولكنه من الكبار أيضًا, يضع رِجْلاً هنا ورِجْلاً هناك. وبعد الامتحانات التي عقدت في تلك السنة, لأول مرة في حياتي, تحت خيمة عالية نُصبت في الحوش الكبير ولها فتحات وقماش ملون مزخرف كقماش شوادر الأفراح والمآتم, قال لي جابر إن عنده سحّارة ملآنة بالمجلات والكتب والروايات فقلت له إنني أريد أن أقرأها, كلها, في الإجازة, فقال لي تعالَ ووصف لي أين بيتهم.
كان بيتهم في شارع 12 من ناحية كرموز, دخلت من الباب الخشبي من فوق عتبةٍ رخامية ممسوحة, وفوجئت بالسماء فوقي, وكان في جانب الحوش الذي جرت فيه الفراخ من أمامي, فُرن موقد جلست أمامه سيدة بملابس سوداء وطَرحة على أطرافها غبار أبيضٍ من الدقيق, تخبز.
سألتها عنه فرحّبت بي وقالت لي: هوّ أنتَ صاحبه? يا أهلا يا ضنايَ. ونادته بصوتٍ عال, ودخلتُ معه إلى البيت وكان غرفة واحدة فقط, وكان أبوه راقدًا على كَنَبة ومغطى بملاءة مصنوعةٍ من خِرق ملونة قديمة مخِيطة بعضها إلى بعض ويسعل بشدة, وركع جابر أمام الكنبة وفتح لي غطاءً قائمًا عموديًّا يُفتح إلى جنب في بطن الكنبة التي كان أبوه يرقد عليها, وأحسست بحَرجٍ شديد ونوعٍ من الإِثم, ولكن الرجل العجوز قال لي: اتفضل يابْني خُد اللي آنتَ عايزه, دا جابر أخوك وكلّمني عنك كتير. ربنا يخليك يابني ويديك الصحة أنت واللي زيك يا ربّ يا كريم. ومدّ جابر يده واستخرج أكوامًا من الكواكب وكل شيء والدنيا والمصور واللطائف وروايات جرجي زيدان وروكامبول. وجلست على الأرض أمام الكنبة أنتقي منها ما لم أكن قد قرأته من عند الست وهيبة أو من عند أصهار خالي سوريال. وتشجعت فمددت يدي أيضًا تحت الرَّجل الراقِد بضعفٍ واستسلام, مغمَض العينين شاربه الكبير مُصفَرّ تمامًا ووجهه متهضم جاف ومليء بالتجاعيد الخشنة. وخرجَتْ يدي برصّةٍ ملفوفة بدوبارة من أربعة كتب ذات جلدة ورقية خشِنة صفراء
- ادوار الخراط: ترابها زعفران