مقتطف مصطفى الحاج حسين - رواية: ملح السراب) الجزء الرابع

كان عائداً من عمله ، منهكاً لا يقوى على جرّ نفسه ، فتحت له “مريم ” الباب ، وهتفت بفرح واضح :
– ” رضوان ” .. أنا أعرف كتابة اسمي .
ظنّها تهلوس، فهي أمّيّة مثله ، فسألها ساخراً :
– وكيف تعلّمتِ الكتابة ياعبقريّة ؟.
– من ” سميرة ” ، هي التي علّمتني .
خفق قلبه ، أمعقول هذا ؟! .. هل يمكن له أن يتعلّم ، وهو ابن الثانية عشرة ، وبرقت في ذهنه فكرة ، سرعان ما كبرت ، قبل أن يخطو عتبة الغرفة :
– سأعرض على ” سامح ” أن يعلّمني ، سأرجوه إن
رفض . سأشتري له ” البوظة ” .
وفجأة .. شعر برغبة عارمة ، في رؤية “سامح ” ،قرر أن يذهب إليه حالاً ، وقبل أن يغسل يديه
ووجهه من الغبار والعرق ، ودون أن يغيّر ثيابه
المهترئة والمتّسخة ، قفز مسرعاً، بينما كانت أمّه
تعدّ له طعام الغداء .
دخل بيت عمّه ” قدّور “، وجد ” سامحاً” محنيّاً على كتابة وظائفه ، فقال بسرعة :
– ” سامح ” أريدك أن تعلّمني كتابة اسمي .
رفع ” سامح ” رأسه نحوه ، وارتسمت ابتسامة
ساخرة على شفتيه :
– تعلّم الكتابة صعب عليك .
– ولماذا صعب ؟!.
هكذا سأل بحنق .
– صعب .. ثمّ ماذا ستستفيد إن تعلّمت كتابة
اسمك ؟!.
– سأستفيد ، سأتعلّم كتابة اسمك واسم أبي وأمّي و مريم وسميرة أيضاً .
ضحك ” سامح ” ، فاغتاظ ” رضوان ” وقد أدرك
شعور ابن عمّه بالتفوق عليه ، فأحسّ نحوه بكرهٍ
شديدٍ ، غير أنّه وفي هذه اللحظة لا يريدإغضابه ،
وهو على أيّ حال قادر على ضربه ، لذلك كبح
حنقه :
– ماذا قلت ؟؟.. هل أنت موافق ؟.
هزّ ” سامح ” رأسه علامة الموافقة ، وبقيّ صامتاً
يتطلّع إلى الأرض ، كأنّه يفكّر بشيء ما .
– إذاً هيّا بنا .. تعال علّمني .
– لا .. ليس الآن ، سأعلّمك ولكن فيما بعد .
– ولماذا فيما بعد ؟!.. أنا جاهز الآن .
سأل بلهفة من فقد صبره .
– اسمع يا ” رضوان ” ، هناك فتى في صفّي يزعجني كلّ يوم ، وأنا لا أقدر عليه ، أريدك أن تنتظره عند باب المدرسة وتضربه .. هذا هو شرطي ، لكي أعلّمك ، فما رأيك ؟ .
صرخ ” رضوان ” دون تفكير ، فلقد شعر بالنّشوة
والاعتزاز بنفسه ، ” فسامح ” يعترف بقوّته ، بشكل
غير مباشر :
– طبعاً أنا موافق .. حتّى من غير أن تعلّمني ، فأنت ابن عمي ، أنا على استعداد لقتله نهائياً من أجلك .
عاد ” رضوان ” إلى بيته ، وهو يفكر :
– سوف أجعله عبرة لكلّ الطلاب الذين لا أحبّهم ،
فأنا قويّ ، الجميع يشهد لي بذلك ، وكلّ من يدرس يحسدني على قوّتي .
في اليوم التالي ، وقف ” رضوان ” قرب المدرسة ،
ينتظر وهو متفائل بقدرته على سحق خصمه ،
ولذلك فهو لم يحمل معه سلاحاً ، كان يهمس في
سرّه :
– سأعاركه بيديّ ، وإذا لزم الأمر سأشقّ رأسه
بالحجارة .
وكان يتخيّل كيف أنّ ” سامحاً ” سيحسدّه على
قوته ، ويعرف أنّه بدونه لا يساوي شيئاً .
بدأ الطلاب يخرجون ، فأخذ يحملق فيهم واحداً
واحداً ..ولاح له ” سامح ” يرتدي صدريّته ويحمل
حقيبته، ولمّا اقترب منه كان وجهه مصفراً ، فدنا
منه وهمس :
– ” رضوان ” .. أنا خائف .
فصاح ” رضوان ” بصوت مرتعش :
– ولماذا تخاف ؟؟!! .. أنت دلّني عليه فقط .
فقال ” سامح ” بصوته المضطرب :
– سيعرف أنّك ابن عمّي ، وسيقدّم شكوى بحقّي
للأستاذ .
– لا عليك .. لن أجعله يعرف من أنا .. سأتبعه إلى أن يبتعد، ثمّ أنقضُ عليه وأرميه مثل الكلب فوق
التّراب .
ابتعد ” سامح ” كالمذعور وهو يهمس:
– لقد جاء .. ها هو ، ذاك الذي يحمل حقيبة سوداء
كبيرة .
نظر ” رضوان “حوله، فشاهد عدداً كبيراً من التّلاميذ متشابهي الثياب ، غير أنه عرف خصمه من بينهم ، صاحب المحفظة السّوداء ، وعندما اقترب منه ، وجده أطول قامة ، وتظهر في وجهه علامات القوّة والشقاوة، تبعه ” رضوان” بينما كان”سامح ” يبتعد ، وهو ينظر خلفه ، بين اللحظة والأخرى .
دخل الخصم في زقاق جانبي ، وأخذ يسرع خطاه ،
عندما عاجله ” رضوان ” بصرخة قويّة:
– توقّف ياكلب .. توقّف عندك .
التفت ذو المحفظة السّوداء مستغرباً ، فرأى
“رضوان ” مسرعاً نحوه وهو يصرخ :
– نعم .. أنت .. توقف ، سوف ألعن أباك .
وفور وصوله هجم عليه ، مسدداً ضربة قوية على
وجهه ، فحمل هذا محفظته ، وهوى بها على وجه ” رضوان ” فتدفق الدّم من أنفه غزيراً ، فجنّ جنونه .. وزعق :
– سأفعل بأمك يا ابن ال ….
والتقط حجراً كبيراً وقفذف بها خصمه، الذي تفاداها ببراعة ، واشتبكا بقوة ، وكلّ يحاول أن ينتف شعر الآخر ، بينما دم ” رضوان ” يسيل على وجهه ، والتفّ الصبية يتفرّجون على المشهد المثير ، ومن بعدٍ لمح ” رضوان ” ابن عمّه ” سامحاً ” واقفاً يراقب المعركة ، فشعر نحوه بالحقد ، كيف يقف هكذا دون أن يساعده ، فهذا الخصم قويّ لا يستهان به ، وندم لأنّه لم يأت معه بسلاح، وأصابه الخجل عندما استطاع خصمه أن يلوي له ذراعه ، لا بدّ أنّ ” سامحاً ” يسخر منه الآن ، يده تكاد تكسر تحت ثقل الضغط ، ففكر أن يستغيث ” بسامح ” ، ولكن قوته المزعومة ستهتز حقاً في نظر ” سامح ” .. تألم كثيراً ولكنّه استطاع في اللحظة الأخيرة أن يصرخ :
– اترك يدي ياابن السّافلة .. لقد كسرتها .
ولم يكد يكمل عبارته حتّى جاءته ركلة على
مؤخرته ، تحرّرت يده وركض يبحث عن حجر ،
لكنّه وجد صاحب المحفظة ينحني على الأرض ،
فانطلق يعدو وخلفه خصمه ، وهو يهتف :
– توقّف يا جبان .. سألعن أباك .
حول سور المدرسة قعد ” رضوان ” حاملاً في طيّات نفسه ذلّه وانكساره ، لقد هزم ..
ياللفضيحة ، وكان يتساءل :
– كيف سأقابل ” سامحاً ” ؟. وماذا سيقول هذا
الوغد ” لسميرة ” ، التي أتظاهر أمامها دائماً
بالقوة ؟؟ .. اللعنة عليك يا ” سامح ” ، هل نصبت
لي فخاً ؟!؟!.. هل كنت تعرف مدى قوة ذلك
السّافل ؟؟.. ودفعتني لأتعارك معه ؟ ..
أكنتَ تمتحن قوتي ؟!.. أم كنت مخدوعاً بقوتي
مثلما كنتُ أنا مخدوع .. ولكنّي سأريك قبل أن أري خصمي ، بأنّي لست جباناً .. فإن هربت اليوم ،
فذلك لأنّي متعب من العمل ، في الغد سأحتال على أبي وأبقى في البيت ، وآتي إلى المدرسة ، قسماً سأهشّم رأسه ، سأضربه حتّى الموت .. فلا تسخر منّي ياوغد ، وإياك أن تذكر شيئاً أمام أختك ” سميرة ” .
ما كان عليّ أن أهرب ، كان عليّ أن أحمل سلاحاً ،
وأن أجد حجراً ، بدل أن أهرب .. اللعنة على
الحجارة ، حين نحتاجها لا نجدها .. ما أبشع
الهزيمة ؟! .
ظلّ ” رضوان ” هكذا متوارياً ، يفكّر .. وها قد حلّ
الظّلام ، ولا بدّ له أن يعود ، قبل أن يتفقّده أبوه .
وفي اليوم التالي ، استطاع ” رضوان ” أن يحتال
على أبيه ، ولم يذهب إلى الشغل ، نهض من فراشه
متّجهاً نحو المطبخ ، وأخذ يتفحّص السّكاكين،
فانتقى واحدة لينتقم بها لكرامته ويستعيد ماء
وجهه من خصمه ، وبسرعة أخفاها وراء ظهره ،
حين دخلت عليه أمّه سائلة :
– لمَ تركت فراشك وأنتَ مريض ؟ .
فهرب أمامها دون أن تلمح السّكين ، إنّه لا يخافها
على الإطلاق ، وهي أيضاً تتستّر عليه فلا تخبر
والده بما يفعله . ولقد كتمت أمر تدخينه السّجائر
أمامها رغم تهديداتها المتكررة .
كان عليه أن ينتظر ، ريثما يحين موعد انصراف
طلاب المدارس ، فقضى هذا الوقت في محاولة
تجربة السّكين في قطع الأشياء ، وقام بالتدرّب
عليها ، حيث يقفزها بقوة عن بعد، فتعلق بأعمدة
الكهرباء . لم يشأ أن يقابل ” سامحاً ” ، أجّل ذلك
ريثما يستردّ كرامته ويحقّق انتقامه ، وأقسم :
– لو أنّي رأيته الآن ، وشعرت بأدنى بادرة منه على
السّخرية والتقليل من شأني ، لكنت قتلته بالسّكين
فوراً .
انصرف الفوج الأول ، وتدفق الأولاد مندفعين
مبتهجين لاستعادتهم حريتهم ، فأسرع إلى زقاق
معركة الأمس ، مصمّماً على الانتقام ، في نفس
المكان الذي شهد انهزامه ، حتّى لا يشعر بالخجل
والعار كلّما مرّ به .
وقف عند الزاوية مترصداً الذاهبين والقادمين ، إلى أن برز خصمه قادماً من بعد ، خفق قلبه في حين اشتدّت قبضته على السّكين .. اختبأ عند المنعطف محدثاً نفسه :
– سأباغته بطعنة في بطنه .. وأهرب .
حينما اقترب ذو المحفظة السّوداء ، وصار بمحاذاة المنعطف ، برز له ” رضوان ” شاهراً سكّينه بيده ، انتبه الولد لهذه الحركة السّريعة ، فتجمّد مكانه لا.يعرف ماذا يفعل ، فسارعه ” رضوان ” بهجمة تريد أن تصل بطنه بطعنة خارقة ، وقبل أن يصل إليه ،انقضّت يد جبّارة لرجل شاهد ” رضوان ” يمشي خلف خصمه ، ولكنه لا يدري كيف غفل عنه .
زعق الرجل وهو يشد بقوة يد ” رضوان ” :
– ارمِ السّكين على الأرض ياكلب .. كدت تقتل ابني .
سقطت السّكين .. وصرخ ” رضوان ” :
– دخيلك ياحجي .. اتركني .
في تلك اللحظة شاءت الأقدار أن ينعطف ” قدور .. أبو سامح “، في هذا الزقاق ، ويبصر ابن أخيه، فركض نحو الرّجل صارخا ً:
– ” تترجّل ” على ولد ياجبان .
– سألعن والده .. كاد يقتل ابني .
لم يحتمل ” قدّور ” وسدّد قبضة قويّة على عين
الرجل ، فترنّح الرجل بينما كانت يده تضغط مكان
الضّربة ، وبدأ الصّياح ، فالتمّ الأطفال حول
المتشابكين ، وفتحت النساء الأبواب وبدأن
بالصراخ .
وفجأة .. وبسرّعة فائقة .. انحنى الرجل والتقط
سكين ” رضوان ” وقبل أن يتفاداه العم ” قدّور ” ،
كانت السّكين قد استقرّت في بطنه ، تعالت
الأصوات .. والصرخات .. من كلّ صوب ، بينما
كانت عينا العم شاخصتين ، لقد أذهلته المفاجأة ،
وانطلق الرجل القاتل يعدو .. ومن خلفه ابنه ..
ووقف ” رضوان ” يبكي ، لا يعرف كيف يتصرّف ،
ولم يتحرّك إلاّ بعد أن خرَّ عمّه على الأرض ، فأخذ
الطفل ” رضوان ” يركض صارخاً :
– لقد قتل عمّي ” قدّور ” .. عمّي مات .

يتبع.. / 5 /


مصطفى الحاج حسين
حلب


ملح.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى