ألف ليلة و ليلة مهدي النجار - الف ليلة وليلة والحقبة الكسولة

نشبع مما سمعناه من الليلة الفائتة بروحنا اللعوب، الطرية، الحالمة، وتضج أزقتنا بأصوات غير مألوفة، وهي أصوات ملوك وفرسان وسيافين وعفاريت وجن، نسوي الدكات الطينية والخرق العتيقة وقصاصات الورق اكسسوارات من الذهب الاحمر مرصعة بالدر والجواهر وفرشاً وعروشاً من الديباج، ونحزم بطوننا ببقايا حبال القنب ونضع في احزمتنا سيوفاً من جريد النخل ونرصع رؤوسنا ببقايا الاولني الفخارية المتكسرة مثل تيجان مرجانية متلألئة، عندما يعم الليل ويقرص البرد جلودنا الملتصقة بعظامنا وترتجف اجسادنا مثل سعفات، نترك الازقة موحشة وخالية إلا من بقايا صدى اصواتنا ولعبنا الملكية الحالمة، ونهرع بعد ترتيب وتعديل ملابسنا الشوارعية نحو (الحاجة) للاستنامة في احضان سالوفاتها الحلوة نجلس في حجرة حول موقد تتوقد فيه الجمرات الحمر كما لو انها عيون جنيات، يمؤنا الشغف والامل والرهبة، ليس سهلاً ان تبدأ (الحاجة) سالوفاتها وانما بعد ان تمط ارواحنا وتهيج الرغبات الساكنة فينا وبعد ان تمرر عينيها القابعتين في محجرين داكنين فوق وجوهنا مثل قارئة الحظوظ وتسوي من جلستها، تبدأ (سالوفاتها) بلهجة مغرية بها ميزة القدرة على الجذب التي يتمتع بها حجر المغناطيس، نبرة صوتية دافئة تتغلغل في تضاريس عقولنا وتستدعي كل خلايا حواسنا:

(كان يا مكان. الله ينصر السلطان . هناك ما هناك. ذاك ما ذاك................) بعدها نغط بكليتنا في عالم السالوفات العجيب الغريب، ونعيش بأنفاس لاهثة مع أرهاط الغلمان والجند، والجنيات والعفاريت الملوك والسلاطين والتجار والجواري والشطار، الذهب والفضة، التيجان والقصور، البحار والصحارى، اسمطة الأكل والشراب الباذخة..... ثم تغرى عقولنا بالكسل.وتأخذنا دغداغات النوم فنذهب الى منازلنا برؤوس وطأطئة تحلم بخاتم سليمان السحري وعفاريت القماقم المنقذة وطاقيات الاخفاء والعصي الخارقة، نتمنى ان نقول للشيء: كن فيكن!!

وننام مطمئنين هانئين الا حين يقرصنا البرد او الجوع في ساعات تكشف الاغطية الالية عن اجسادنا او تسرب الامطار من سقوف الغرف العتيقة ثم تعاد هذه السالوفات يومياً مرتبة ومنضدة بهذا الشكل او ذاك، ملطفة بالحذلقة والترقيع والتعقلن ، ومخلوطة بانقاض من المعاني والالفاظ، في المدرسة وفي البيت وفي الحياة اليومية، لنتعرف عليها أخيراً بما يسمى (الثقافة) ولكن عندما تحكيها (الحاجة) بلهجتها الصافية، الطيبة، يدعونها (خرافات)) وعندما يحكيها الشيخ أو (الافندي) المعلم والسياسي بلغته المتحذلقة، الملتوية يدعونها (علم وتربية وتراث)!!

ومثلما يتكون جسمنا من الخلايا والانسجة تتكون ادمغتنا من انسجة السالوفات حتى تصبح هي خلاياه التكوينية، المحكمة الصنع، وهي التي تجبل مجتمعاتنا بالظاهرة الاسطورية من حيث بقاء هذا الاجتماع سابحاً في بحر من الحقائق المتخيلة، كذلك تعامله مع الكائنات والقوى الرمزية أو القصصية الخارقة للطبيعة كما لو انها حقائق واعتقاده بانها قادرة على ان تحكم الحياة وان تولد المعجزات وتفسر المعضلات .

ان الظروف البدائية والقاهرة قدمت نفسها تلقائياً الى وعي الانسان في حقبة (الليالي) كمجال من (القوى الخارقة) يجب عليه ان يصوره عبر حكاياته وسردياته وبذلك يفسره ويسترضيه ويشبع منه ويسيطر عليه. ان هذه الحقبة الكسولة جعلت إنسانها يرفض الواقع كما هو (بوصفه الاحتمال الوحيد للنظام القائم في الطبيعة والمجتمع) عبر أساطيره المغلقة والمروية في منطق نوادر مجازية وحوادث عجيبة فاخرجته كلية من الوعي التاريخي الى الوعي المتخيل ونلاحظ ان عقل (الليالي) ألالتباسي لم يخلق هو بالذات اساطير حقبته انما رتب واعاد ورمم أساطير أسلافة بطريقة الحذلقة والترقيع والحشو لمواد مختلفة وانقاض متنوعة:

نموذج (1) خاتم سليمان: (ثم انه اختلى في مكان وجده ودعك الخاتم فحضر له ابو السعادات وقال له لبيك فأطلب ما تريد؟ قال أريد منك (كذا وكذا..) وقال سمعاً وطاعة ثم أحضر له ما يريد....) ليلة 996.

نموذج (2) الجن : (قال لهم حسن عجلوا بالخيل فقالوا سمعاً وطاعة ثم دقوا الأرض بأرجلهم فانشقت فغابوا فيها ساعة ثم حضروا وإذا بهم قد طلعوا ومعهم ثلاثة أفراس مسرحية ملجمة .....) ليلة 975.

نموذج (3) الحيوانات: (وبعد ساعة أقبلت عليه حية عظيمة مثل البغل وعلى ظهر الحية طبق من الذهب وفي وسط ذلك الطبق حية تضيء مثل البلور... ... ثم إن الحية أشارت الى تلك الحيات ان تأتي بشيء من الأكل فاتت بتفاح وعنب ورمان وفستق وبندق ... ... قالت له ملكة الحياة مرحباً بك ايها الشاب ما اسمك؟) ليلة 476.

ان من اهم المجالات التي استهدفتها حكايات (الليالي) وصورتها وحاولت اختراقها وإحضارها وامتلاكها عبر الأسطورة هي مركب من جملة مواضيع اشتهائية ابرزها أولاً: الملك (السلطة) ثانياً : المرأة (الحب).

لقد قدمت (الف ليلة وليلة) خيالاتها ببراعة مثيرة للدهشة ، كما هو شان الخيالات الإبداعية الأخرى ، مما جعل الناس يعتبرونها حقائق ويعتقدون بإمكانية اعادة تلك الليالي الجميلة، لذا على الوعي المعاصر ان يحفر كثيراً في تلك المدونات الضخمة لتفكيكها ومن ثم ايجاد الصلات المتشابكة والمعقدة بينها وبين ما هو منتج (او يعاد انتاجه) من ثقافة التباسية معاصرة وبدلاً من ان يتسم التراث ألالتباسي (الادبي والفكري) كقوة معيقة تشدنا الى الخلف في كل مرة ينبغي النظر اليه بشكل تاريخي (تحليلي ونقدي) يحررنا ويحرر الاجيال التالية من التصورات التجليلية والتبجيلية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى