شعبان يوسف - عبد الفتاح الجمل.. وجيل الستينات، ومدرسة المساء الصحفية فى مصر

فى النصف الثانى من عقد السبعينات فى القرن المنصرم، كان هناك ثمة حصار قوى يضرب فى الحياة الثقافية المصرية، وكانت كذلك حرب ضروس ضد كل المجلات الطليعية التى كانت تصدر فى مصر، وعلى رأس تلك المجلات، كانت مجلتا "الكاتب، والطليعة" فى عين المدفع، وهما آخر حصنين كان المثقفون والكتّاب والمبدعون المصريون يلجأون إليهما، جريدة الأهرام كانت مغلقة على أسماء معينة يختارها المشرفون على صفحاتها الثقافية بعناية أمنية فائقة، بحيث لا يفلت اسم من هنا أو هناك يكون سببا فى أى إزعاج سياسى أو فكرى أو ثقافى، ومن ثم هجرها المثقفون من الأساس وبشكل قاطع، رغم أنها كانت تنطوى على أسماء وقامات بالغة الأهمية مثل نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وغالى شكرى وزكى نجيب محمود وغيرهم، وقد اكتفى الكتّاب بالالتقاء بنجيب محفوظ على مقهى ريش كل عصر يوم الجمعة من كل أسبوع، كذلك كان هناك توفيق الحكيم الذى كان يلقى قدرا من الاحترام وسط المثقفين، ولكن لا الحكيم، ولا محفوظ كانت لهما أى سلطة فعلية على توجيه الثقافة فى الجريدة، أما جريدة الأخبار فكانت تعانى المرض ذاته، وإن كانت الصحفية الشابة عبلة الروينى استطاعت أن تمرّر بضعة أخبار محدودة عن نجيب سرور، مع نشر حوار قصير مع الشاعر أمل دنقل، وظلّ الأمر هكذا دون أى آفاق لتجاوزه فى تلك المؤسسات الكبرى، ومعهم بالطبع مؤسسة الجمهورية التى كانت تضم بعضا من الكتّاب الطليعيين مثل صلاح عيسى وفريدة النقاش ومحسن الخياط، ولكنهم كانوا شبه ممنوعين أو شبه موقوفين عن النشر فى تلك الجريدة التى أسستها ثورة 23 يوليو فى بأمر مباشر من جمال عبد الناصر عام 1953.
فى ذلك المناخ، كان المثقفون والكتّاب والمبدعون، يعتمدون على مخرجين أساسيين ذى حيوية فائقة، المخرج الأول كان يتلخص فى النشر فى صحف ومجلات بغداد وبيروت ودمشق والبحرين والكويت كذلك، وكان لهذه المجلات مراسلون مصريون نشطون، وعلى رأسهم الأستاذ صلاح عيسى الذى كان يراسل مجلة "الثقافة" فى العراق، وابراهيم أصلان كان يراسل مجلة "البيان" الكويتية، وكان سامى خشبة يراسل مجلة الآداب فى بيروت، وهكذا، أما المخرج الآخر كان يجد ضالته فى مجلات الماستر الفقيرة، وهى التى كان يكتب مصدروها على صدر كل إصدار "نشرة غير دورية"، هكذا ولدت مجلات ونشرات ثقافية كثيرة، منها إضاءة 77، وكتابات، ومصرية، وموقف، والشرنقة، وأقلام الصحوة، وأصوات، ثم خطوة، والنديم، وموقف، والخماسين، والحساب، وآفاق 79، وغير ذلك من نشرات محدودة الانتشار، ورخيصة، وفقيرة الطباعة والإخراج كذلك، لكنها كانت غنية بمادتها، وصنعت حركة ثقافية بارزة وفى غاية التأثير.
فى ذلك المناخ الخانق كان اسم الكاتب والأديب عبد الفتاح الجمل يتردد كأسطورة ثقافية تتحرك على قدمين بين الناس، وتحيا وتتنفس وتمارس العمل الثقافى بكل نبل ونزاهة وشجاعة لا تبارى، وكان مرشدى فى ذلك الوقت إلى تلك الأجواء الفاعلة، صديقى الكاتب والقاص الشاب يوسف أبورية، والذى كان طالبا فى كلية الإعلام، وكانت تصدر فى الكلية جريدة اسمها "صوت الجامعة" يترأس تحريرها الكاتب الصحفى الكبير جلال الدين الحمامصى، والذى كان يدرّس فى الكلية، وكان الطالب النابه مرعى مدكور رئيس قسم الثقافة، وكان يعاونه بشكل رئيسى يوسف أبو رية الذى يدير الصفحة الثقافية باقتدار، وبالتالى كان يتحرك بنشاط دائب وملحوظ بين المثقفين خارج الجامعة، واستطاع أن يعقد صداقات مع مجموعة كبيرة من مبدعى وكتّاب جيل الستينات.
فى البداية كان أبو رية يجرى حوارات مع الشعراء الشباب وينشرها فى جريدة صوت الجامعة، وأجرى حوارا معى ونشره فى الصفحة الثقافية، مع قصيدة لى، ثم تطور الأمر وأعد تحقيقا مع شعراء الظاهرة الشعرية الجديدة، ونشره فى جريدة "المساء"، ثم طلب منى قصيدة أخرى لنشرها فى الصفحة الثقافية فى صفحة "عبد الفتاح الجمل"، هكذا كان يطلق عليها الأدباء بكل ثقة "صفحة عبد الفتاح الجمل" لما أسبغ عليها كثيرا من صفاته التى لا تشبه المناخ السائد، وهذا يدلّ على أن اسم عبد الفتاح الجمل، كان أقوى من اسم الجريدة نفسها، ونشرت القصيدة، وكانت المكافأة تسعة جنيهات وكسور، بعدها اقترح يوسف أن أذهب معه لكى أتعرّف على عبد الفتاح و"شلّته" فى مقهى إيزافيتش فى شارع عماد الدين، وبالطبع ذهبت، لم يكن الجمع الثقافى سوى مظاهرة صغيرة يقودها يحيي الطاهر عبد الله، وسعد صموئيل، وابراهيم أصلان، ومحمد البساطى وابراهيم منصور، وغيرهم، وكان يتوسط تلك المظاهرة ذلك الرجل الأسطورة عبد الفتاح الجمل، الجالس كصقر حاد النظرة، وكذلك كأب مرح بين أولاده الظرفاء.
فى البداية شعرت بأنه أحد الآلهة الشعبيين إذا صح التعبير، وفجأة نظر ذلك الإله نحوى، ثم التفت فجأ إلى يوسف وقال له: "ما تعرفّنا ياجو بصاحبك" وقبل أن ينطق يوسف بكلمة واحدة ويقوم بعملية التعريف، قال يحيي: "حلمك ع الراجل، ده لسه جديد ومش واخد ع الأجواء بتاعتنا"، وبعدما قام يوسف بتعريفى، والتنويه عن أننى نشرت قصيدة فى الصفحة، قال عبد الفتاح: "خلاص عرفته، ده من كشّافة يحيي الجدد"، ونظر ليحيي قائلا: "إيه يايحيي، انت كل شوية تسلّط علينا حد من الكشّافة بتوعك اللى انت بتطلقهم فى القهاوى والندوات، مش كفاية الوردانى_يقصد محمود الوردانى الذى كانت تربطه علاقة قوية بيحيي_"، وقبل أن تحدث ضجة عاصفة من الضحك أطلقها الحشد المخيف حول عبد الفتاح، التفت لى وقال: "أهلا بيك فى أى وقت، وبالمناسبة قصيدتك حلوة، فيها نفس خاص وكويس، وبعيدة عن التغريب اللى بيعملوه زمايلك"، ولكن يحيي لم يترك ملاحظة الجمل تمر عبثا دون أن يعقب عليها قائلا: "لا ياخويا، ده مش من الكشّافة بتوعى، ده من أصدقاء أخوك خليل كلفت وكمان مبعوث العناية الابراهيمية،_ يقصد الناقد والمترجم الكبير ابراهيم فتحى_ خلاص كده؟، عشان أريحك وأجيب لك ماالآخر".
منذ تلك اللحظة لم تنمح انطباعاتى عن ذلك الرجل الذى لم أقابله إلا قليلا بعد ذلك، ولكننى كنت أتابع صراعه الأسطورى فى ظل مناخ كان يعلن يوما بعد يوم عن إصرار عنيف لمطاردة أى ملامح لأى ثقافة وإبداع طليعيين، وبالتالى كان عبد الفتاح يصرّ على تنزيه صفحته من تلك الإبداعات الركيكة، وشاهدته عندما كان أحد كتّاب القصة يقول له: "لماذا لم تنشر لى نصّا واحدا من نصوصى، رغم إنى أرسلت لك أكثر من عشر قصص"، وهنا رد عبد الفتاح بحدة: "يابنى الصفحة دى مش بتاعة أمى، عشان أنشر فيها كل ما أريده، أنا باحاول أعمل ما يرضى ضميرى قبل رضا أى حد"، وبالطبع كانت السبعينات ردة ثقافية واسعة على كل المستويات، بعد أن استطاع الجمل أن يدشّن جيلا كاملا من الكتّاب والشعراء والنقاد والفنانين فى عقد الستينات، بعدما أغلقت الصحف الكبرى على أسماء أخرى بعينها، ولذلك عندما رحل فى فبراير 1994، صدر نعى على هيئة بيان جاءت فيه كلمات شديدة التأثير، جاء فيها: "طوال أكثر من ربع قرن، ظل عبد الفتاح الجمل، يعمل بإحساس عال بالمسئولية تجاه المواهب التى منحها كل وقته ليدفع بها إلى الوجود، وخلال عطائه الانسانى النبيل، قدّم أعمالا بارزة ومؤثرة فى مجال الرواية والقصة وأدب الرحلات والترجمة هى الآن فى القلب من تراث وطنه العظيم... ونحن هنا، سواء من كان منا من تلاميذه، أو زملائه، أو أصدقائه، نقدم له العهد على أن ظل دائما أوفياء للقيم النبيلة التى آمن بها، وأخلص لها طوال حياته.."، ووقع على ذلك "النعى_البيان" مئات من المثقفين، وعلى رأسهم: نجيب محفوظ، وعلى الراعى، ومحمود أمين العالم، ومحمد البساطى، وابراهيم أصلان، وغالى شكرى، وجمال الغيطانى، ويوسف القعيد، وبهاء طاهر، وصنع الله ابراهيم، ورجاء النقاش، وغيرهم من رموز الحياة الثقافية المصرية، وأعدت مجلة القاهرة التى كان يرأس تحريرها الكتور غالى شكرى ملفا كبيرا تعرض لبعض سيرته، ونشرت نصوصا أدبية له، لم يكن قد ضمها لأى كتاب من كتبه القليلة التى نشرها فى حياته، وكتب فى هذا الملف عدد من أصدقاء وتلاميذ ومحبى عبد الفتاح الجمل، منهم: محمد كامل القليوبى، وعطيات الأبنودى محمد البساطى، وأسامة الغزولى، وعبده جبير، وفتحى فرغلى، وغيرهم.
وفى حقيقة الأمر، لم تكن لحظة الوفاة هى علامة الرحيل الأولى، ولكن كانت هناك لحظات رحيل عديدة لعبد الفتاح فى مسيرته الغنية، وكانت إحدى تلك اللحظات فى أوائل عقد الثمانينات، عندما تأكد الجمل بأن الزمن أصبح غير الزمن، واللحظة لم تصبح مناسبة له، فقرر الرحيل فى ثبات، وتلك اللحظة يروى عنها صلاح عيسى فى مقال له كتبه ونشره فى جريدة الأهالى بتاريخ 20 أكتوبر 1982، أى فى حياة الجمل، وذلك عندما التقيا عند صديق لهما لمشاهدة أفلام فيديو قصيرة تقص لحظات رحيل المقاومة الفلسطينية عن بيروت، هنا نظر عبد الفتاح لصلاح عيسى، وقال له بتأثر بالغ: "أنا كمان رحلت..طلبت إحالة نفسى للمعاش..وانتهى الأمر..".
كان الخبر مفاجئا لصلاح عيسى، ولكنه كان غادرا، رغم كل المقدمات التى كان يعانى منها الجمل، وكل الجمال الأخرى التى تحملت كافة أشكال الاستبعاد والقمع والمنع فى الحياة الثقافية المصرية، والذين ظلّوا يقاومون العبث الذى راح يتسع يوما بعد يوم، وظلوا مخلصين حتى النفس الأخير، يقول صلاح عيسى فى ذلك المقال: "..وحين كان جيلنا يتحسس طريقه ليقول كلمته، قادما من القرى والنجوع وشوارع المدن الخلفية، محملا بخجل الريفيين وشكوكهم فى أهل البندر، وببعض جلافة ولدتها حياة قاسية تفتقد للرقة وتخلو من النعومة، التقينا بعبد الفتاح الجمل فى مكتب لم يغيره الزمن، بركن قصى من صالة تحرير (المساء) الواسعة، ظل ما يقرب من ربع قرن معملا لتفريغ المواهب المتجددة فى القصة والشعر والنقد والصحافة.."، ويحكى عيسى فى ذلك المقال عن تجربته مع الجمل، ويسرد سلسة من بعض أمجاده فى جريدة المساء التى عمل بها الجمل منذ بداياتها، وعاصر كل تقلباتها الحادة فى مراحل تاريخية، كانت كفيلة بالاستغناء عنه، ولكنه صمد حتى ولد جيل كامل على يديه.
صدر العدد الأول من جريدة "المساء" فى 6 أكتوبر عام 1956، وترأس تحريرها الأستاذ خالد محيي الدين، وهو أحد أعضاء مجلس قيادة ثورة 23 يوليو، وكان له دور بارز فى الأحداث الخطيرة التى جرت فى مصر منذ 5 مارس إلى 25 مارس 1954، ووقف مع الديمقراطية، وعندما انتصر التيار المضاد لتوجهات خالد محيي الدين، تم استبعاده عن ممارسة السلطة، ولكنه ظل أمينا ومخلصا للثورة حتى تمت استعادته لكى يكون رئيسا لتحرير جريدة المساء، ولأنه كان الأقرب إلى تيار اليسار فى ذلك الوقت، فكان اختياره من أجل تشغيل اليساريين فى الجريدة، وكانت العلاقة قوية بين الدولة واليسار فى ذلك الوقت، بعد أن تمت الإطاحة بتيار اليمين الدينى الذى كان يشكل خطرا على الدولة والبلاد فى آن واحد، واستطاع خالد محيي الدين أن يضم عددا كبيرا من اليساريين إلى الجريدة، منهم الأساتذة والدكاترة طاهر عبد الحكيم، وعلى الراعى، وعبد العظيم أنيس، وفتحى عبد الفتاح، وأنور عبد الملك، وفيليب جلاب، وعايدة ثابت، ومحمد عودة، وعلى الشلقامى، وسعد التائه، وعلى الدالى، ولطفى الخولى، وغيرهم، كتيبة كاملة من الكتّاب والمثقفين والمبدعين كانت شبه معطلة عن العمل والإنتاج والنشر، أو على الأقل موزعة هنا وهناك.
كانت الثقافة من أبرز المهام التى اهتمت بها الجريدة، ولذلك نشرت فى عددها الأول قصة "صح" للكاتب الشاب يوسف ادريس، وفى الأعداد الأولى تم نشر رواية "حارة أم الحسينى" مسلسلة للكاتب شهدى عطية الشافعى، وآثرت الجريدة ألا تنشر اسم الكاتب لأسباب ربما تكون سياسية أو فنية، حيث أن الكاتب كان يعمل بالسياسة ولم يرد أن يزج باسمه فى ساحة الأدب، وكذلك كان يكتب مقالات ودراسات ذات طابع أدبى وفكرى باسم "أحمد نصر"، كما أن الكاتب الشاب صنع الله ابراهيم كتب مجموعة مقالات، باسم "صنع الله الأورفولى"، وهى أول ما نشره فى حياته الأدبية، وكان الفنان المصرى السودانى محمد حاكم، هو المشرف الفنى على كل صفحات الأدب والثقافة، وكان معه الفنان مصطفى حسين.
لا نستطيع أن نقول بأن مصر كانت تخلو من الصحافة الثقافية فى ذلك الوقت، بل بالعكس، كانت الحياة الصحفية عامرة بالصحافة الثقافية، وكان قادة ثورة يوليو على درجة كبيرة من الاهتمام بالثقافة، فكانت مجلات المصور والهلال وحواء وروز اليوسف وآخر ساعة والتحرير والإذاعة وغيرها من مجلات متنوعة، تهتم اهتماما واسعا وغزيرا بالثقافة، فضلا عن المجلات التى كانت متخصصة فى كل ما يخص الأدب والثقافة مثل مجلة "الرسالة الجديدة"، وعندما تأسست جريدة الجمهورية، ضمت فى تحريرها كتابا كبارا مثل طه حسين ويوسف ادريس وأحمد رشدى صالح وبيرم التونسى وعبد الرحمن الخميسى وغيرهم، وكان كل واحد من هؤلاء يكتب مقالا أسبوعيا، فضلا عن الاهتمام اليومى بحالة الثقافة فى مصر.
التميز الذى جاءت به جريدة المساء فى الثقافة، لم يكن فى الصحافة الثقافية اليومية فقط، ولكن جاء الاهتمام بكتّاب الهامش والشباب فى تلك الفترة، ورغم أن العدد الأول من الجريدة نشر قصة للكاتب يوسف ادريس، إلا أن الجريدة نشرت بعد ذلك قصصا لمحفوظ عبد الرحمن ومحمد الخضرى عبد الحميد ومحمد صدقى وسيد جاد وصالح مرسى وعبدالله الطوخى وغيرهم، وتناوب الإشراف على الصفحة مثقفون وكتاب ذو مكانة ثقافية عالية مثل الدكتور على الراعى وعلى الدالى وسعد التائه، ولم تحتكر تلك الأسماء الانفراد بقرار النشر، ولكن كانت هناك مساحة واسعة من اتخاذ قرار النشر، ونشطت مجموعة من الكتاب الشباب الذىن أمدوا الصفحة بكل جميل ومهم فى الوقت نفسه.
بعد صدور الجريدة بثلاثة أسابيع، أى فى 29 أكتوبر 1956جاء الإنذار البريطانى بتهديد مصر، وتحولت الحالة فى مصر إلى أقصى درجات الاستعداد للحرب، وانبرت الجريدة فى نشر كل ما يمت من فنون وآداب وثقافة بأى صلة للحالة التى فرضت نفسها بقوة على البلاد، وبعد أن كانت تصدر فى ثمان صفحات، راحت تصدر فى أربع صفحات فقط، وكانت الجريدة قد وضعت بابا تحت لافتة "يوميات الشعب"، ويستعرض ذلك الباب أحوال الناس المتعددة، وكان المحررون يجرون حوارات مع كافة فئات الشعب، وكتب في تلك الزاوية عدد من الكتاب مثل زينب صادق، وشفيق خالد، وسرى الدين، وغيرهم، كما أن بابا آخر كانت تنشر فيه آراء بعض الكتّاب والمثقفين من الجريدة ومن خارجها، أو من كانوا تحت التدريب، وبعد صدور الجريدة بأربعة أسابيع ظهر اسم عبد الفتاح الجمل لأول مرة فى الجريدة، وفى زاوية "آراء وأفكار"، وكان ما كتبه عبد الفتاح متأثرا بالجو العام الذى كان سائدا آنذاك، أى جو المعركة، وكان المقال الذى نشر فى العدد رقم 37 بتاريخ 11 نوفمبر 1956 بمثابة رسالة إلى أبطال بورسعيد، يقول فيه: "بور سعيد.. لست أسطورة..بل أنت أسطورة سوف ترويها الأجيال، اختارتك المقادير، رغم حداثة سنّك، لأنك ولدت بمولد القناة، وحملت منها عن المصريين جميعا، ذل حفرها وافتتاحها وإدارتها، وعزة تحررها، ثم تمخض ذلك عن أحداثك العظام.."، ورغم أن المقال كتب بنبرة عاطفية، إلا أنه كان يعبّر عن ذلك الشعور الذى كان يتنفسه كل المصريين آنذاك، بالإضافة لمن يتأمل المقال، سيلاحظ أنه حمل كافة أركان البنية الأسلوبية التى ظلّت ترافقه فى كتاباته المتنوعة طوال حياته، مع التطوير والتعميق بالطبع، ومن بينها تشخيص الحدث بمفردات مفاجئة، مثل أن يقول عن بور سعيد (رغم حداثة سنّك)، وتلك التيمة الأسلوبية تسللت من مياه يحيي حقى اللغوية والمتدفقة، إلى قنوات وجداول الجمل العذبة.
بعد ذلك المقال بيومين فقط، أصبح اسم عبد الفتاح الجمل واحدا من المحررين الأساسسين فى الجريدة، ونشر تحت لافتة "يوميات الشعب" مقالا بديعا بتاريخ 13 نوفمبر عنوانه (عندما تعوى صفارة الإنذار)، وفى ذلك المقال كان قد تجاوز الحالة الرومانسية التى طغت على مقاله الأول، ويرسم فى المقال حالة الناس الحماسية التى دفعت بعضهم لكى ينهالوا ضربا على أحد المارة الذى كان يهذى بكلمات ظنوها معادية لمصر، وعندما سألهم الجمل: "إيه الحكاية بس ياناس؟"، رد عليه أحدهم قائلا:
(ده واحد صهيونى ساكن هنا، واقف بيسب لمصر والمصريين بالدين، وموش عاجبه حال الشعب المتحمس، وخد كفايته.. يستاهل، وعلى الرصيف يقف جزار مع ياجدع؟ تخاف إزاى؟ هيه لعبة داحنا حننتصر.. حننتصر بإذن الله.. هو فيه حلاوة من غير نار، انت عايز انتصار من غير دم وهدم وموت وسلخ، بص لقدام ياجدع.. دا المستقبل بتاعنا، هيه لعبة..)، وظلّت تلك الأجواء تعمل فى القصة التى تعتبر الحرب ليست لعبة، المدهش والمذهل والمفاجئ بالنسبة لى، أن المقال نشر بتاريخ 13 نوفمبر 1956، وفى 16 نوفمبر 1956، أى بعد نشر المقال بثلاثة أيام، نشرت الجرية قصة "ه...هى لعبة!؟" فى الجريدة ذاتها على الصفحة الأخيرة كلها، وأرى أن القصة متأثرة بشكل كبير بذلك الجوّ السردى الذى طرحه عبد الفتاح فى مقاله، وهو يعتبر المصدر الأساسى لقصة يوسف ادريس، والذى يقارن المقال بالقصة سوف يكتشف ذلك الأثر الواضح، وتردد تيمة "هى لعبة" فى النصين.
بعد ذلك راحت الجريدة تنتظم بشكل واضح عندما هدأت حالة الحرب، وراحت تهتم بالحالة الثقافية التى تعتنى بالهامش، وبرزت أسماء لا يمكن إغفالها فى تحرير مواد القسم الثقافى، أبرزهم القاص والروائى فاروق منيب، والذى كان دوره لا يقل عن دور عبد الفتاح الجمل فى تلك الفترة، ووكان منيب يكتب مقالات نقدية عن كافة ما تصدره المطابع من مجموعات قصصية وشعرية، وروايات، وكتب فى النقد الأدبى الجديد، واستطاع أن يقدم كافة شباب الأدب والإبداع الجدد فى ذلك الوقت، منهم الأديب والفنان عز الدين نجيب، والذى كان طالبا فى كلية الفنون الجميلة، كذلك قدّم الدسوقى فهمى، ثم محمد البساطى، ومحمد جاد، وسيد خميس، وغيرهم، كما لا ننسى الكاتب فوزى سليمان، والذى أثار عددا كبيرا من القضايا الثقافية التى كانت تشغل الرأى العام الثقافى آنذاك، وأجرى حوارات مع كثير من الأدباء الشباب الذين لم يجدوا منبرا للتعبير عن أنفسهم سوى صحيفة المساء، وأجرى حوارا مع أول كاتب متفرغ، وهو الكاتب على أحمد باكثير، ثم حاور عددا من المتفرغين الذين كانت لهم ملاحظات على منحة التفرغ.
وكذلك الناقد الفنى والتشكيلى كمال الجويلى، وكانت متابعاته شديدة الأهمية، وكان يكتب باسمه المعروف، وكذلك باسم "ابن زيدون"، ولم تقتصر متابعاته على معارض الفن التشكيلى بحكم تخصصه، ولكنه كان يشتبك مع كافة مجالات الحالة الثقافية فى مصر، وكان عبد الفتاح الجمل ابنا مخلصا لمدرسة صحيفة المساء، واستطاع أن يرث كل تلك السمات التى تميزت بها تلك المدرسة، حتى بعد أن غاب معظم محررى الجريدة فى ظروف سياسية معلنة فى بدايات عام 1959، ظل عبد الفتاح صامدا، ولم يكن هتّافا، ولكنه كان معنيا بأطياف الفن والجمال فى عمومهما، ولو تأملنا معظم كتاباته الغزيرة، سنجده دوما كان يكتب عن المسرح والسينما والفن التشكيلى والدراما، بالإضافة إلى أنه كان يكتب عن بلدته دمياط، وضواحيها، وقراها، قبل أن يخلّدها فى روايته العظيمة "محب"، التى كتبها نشرها وصدرت عن دار الهلال عام 1992، وكذلك روايته الأولى التى نشرها على نفقته الخاصة عام 1970 "الخوف"، ورغم أن اسم عبد الفتاح الجمل كان كبيرا وعظيما، إلا أنه لم يستثمر ذلك الاسم لكى تنشر له إحدى دور النشر الحكومية أو المستقلة أى من كتبه، فقط دار الهلال هى التى نشرت روايته "محب"، وكتابه الرائع "طواحين آمون" الذى نشرته هيئة الكتاب، وربما يكون اهتمام الجمل الأعظم يعود لاهتمامه بالفن التشكيلى، فبعد أن تخرج من كلية الآداب عام 1945 من جامعة فاروق بالأسكندرية، راح يتنقل بين محافظات مصر، وأقام معرضا للتصوير الفوتوغرافى بأسيوط عام 1953، حيث كان مغرما بالتصوير بشكل عام، وفى عام 1955 ترك مهنة التدريس عام، وراح يجول فى العالم لمدة عام، بعد ذلك، التحق بجريدة المساء على النحو الذى ذكرناه، وظل يعمل مع زملائه الكتّاب والمحررين الذين تفرقوا فى جهات شتى، ليبقى هو الذى ترأس الصفحة الثقافية منذ عام 1961 ليستكتب كثيرا من الكتّاب المرموقين مثل أستاذه يحيي حقى، والدكتورة والأديبة لطيفة الزيات، والناقد فؤاد دوارة، وغيرهم، وعندما أسست الجريدة ملحقا أسبوعيا وأطلقت عليه "الملحق الفنى والأدبى"، وأشرف وأدار ذلك الملحق باقتدار عبد الفتاح الجمل، راح يمارس مهمته المقدسة، وظهرت الكتابات الأولى لمعظم أبناء جيل الستينات، حتى الذين نشرت أعمالهم فى مجلات أو صحف أخرى، اعتبروا أن ولاداتهم الحقيقية كانت فى صفحة عبد الفتاح الجمل اليومية، أو فى ملحقه الأسبوعى، وقرأنا لصبرى حافظ دراسات نقدية، ولمحمد كامل القليوبى دراسات فى السينما والمسرح، ويكفى أن الناقد على شلش نشر مسرحية "السقوط" لآرثر ميلر مسلسلة فى ذلك الملحق، وكذلك نشر يحيي حقى ترجمته لرواية "الأب الضليل" فى ملحق عبد الفتاح الجمل، رغم إنه لم يكن عاجزا عن النشر فى أكبر الصحف والمجلات، ولكنه آثر النشر فى ملحق جريدة المساء، وولدت كتابات خليل كلفت النقدية والفكرية فى جريدة المساء، وظلّ عبد الفتاح يدير القسم بمفرده، وكان يشرف على إخراج الصفحات بنفسه، إذ لم يكن اهتمامه الفنى فى الإخراج، يقل عن اهتمامه بالمادة المنشورة، كان يقول دائما: "لازم المادة العظيمة، تظهر فى شكل عظيم"، كان أثر عبد الفتاح الجمل عظيما، حتى تحول ذلك الأثر إلى أسلوب ومنهج وطريقة حياة ومدرسة، لم تستطع الأزمنة اللاحقة أن تطورها، كما لم تستطع الاحتفاظ بظواهر أخرى عظيمة، رحم الله أستاذنا العظيم عبد الفتاح الجمل

شعبان يوسف
أعلى