د أحمد الخطيب - الشنفرى.. تراجيديا جاهلية ثلاثية الأبعاد

الشاعر الجاهلي الكبير ( الشنفرى ) لم يمر على الحياة في عصره مرورا عابرا كشخص عادي ، بل إنه ، بدون قصد ، ترك تأثيرات واضحة على سيرته المذهلة ، في ميادين ثلاثة :
- كان عداء مشهورا بعدوه السريع ، حتى ضرب به المثل ، فقيل : أعدى من الشنفرى .
وكانت الخيول الاصيلة تقصر عن اللحاق به ، ويقال إن قفزته كانت تعادل عشرين قدما . وهذا يعني انه العداء الأول في الجاهلية ، وقد توفي قبل الهجرة النبوية بسبعين عاما .
- الشنفرى اهم الصعاليك واكثرهم دويا بين القبائل ، وأشجعهم وأكثرهم فتكا . نشأ يتيما ، وذا سحنة سمراء ، وشفتين غليظتين ( سبب تسميته بالشنفرى ) ، وكانت قبيلة ( سلامان ) التي يعتقد أنها قتلت والده ، تعامله معاملة العبيد . ولما كبر شعر بالدونية التي عومل بها ، فتمرد على ذلك الظلم ، وارسل صرخة قوية وعالية النبرة ، منذرا قومه بأن عليهم ان يستعدوا لرحيله عنهم ، فلم يعد يطيق استعبادهم له ، قائلا :
أقيموا بني أمي صدور مطيكم
فإني الى قوم سواكم لاميل
وجاهر بأنه استبدل بقومه قوما من الصحراء التي لجأ إليها . أما القوم الذين مال إليهم واختارهم فهم حيوانات الصحراء ووحوشها ، وكثبانها ورمالها ، وما فيها من اخطار وتشرد وجوع ، وان أهله الجدد هم مجموعة من الوحوش ، مأمون جانبهم ، فلا يبوحون بالسر ، ولا يخذلون من ارتكب خطأ :
ولي دونكم اهلون سيد عملس
وأرقط زهلول وعرفاء جيأل
هم الرهط لامستودع السر ذائع
لديهم ولاالجاني بما جر يخذل
(السيد العملس : الذئب السريع العدو . الارقط الزهلول : النمر الأملس . العرفاء : الطويلة ، والجيأل : الضبع . )
وأنه رغم بسالة كل وحش من هذه الوحوش وشجاعتها ، فهو الأشجع والأسرع إلى صيد الطريدة :
وكل أبي باسل ، غير انني
إذا عرضت اولى الطرائد ، أبسل
وقد دافع بقوة عن القرار الذي اتخذه ، فلا يقبل الضيم امرؤ عاقل ، طالما ان الارض واسعة ، والهجرة متاحة عن رغبة او رهبة:
لعمرك ما بالارض ضيق على امرئ
سرى راغبا او راهبا وهو يعقل
ولكن الصعلكة التي اختارها الشنفرى لم تمنعه من الإيمان بمبادئ واخلاق رفيعة ، وقد تجلى ذلك في حسن تصرفه وهو جائع ، فلا يستعجل في تناول الطعام كما يفعل الجشعون ، وأن معركته مع الجوع تقوم على الصبر إلى ان ينسيه صبره جوعه :
وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن
باعجلهم ، إذ أجشع القوم اعجل
اديم مطال الجوع حتى أميته
واضرب عنه الذكر صفحا فأذهل
و قد فاخر بأنه يرافقه في وحدته ثلاثة اصحاب : قلبه الجرئء ، وسيفه الصقيل ، وقوسه ذات العنق الطويل :
ثلاثة أصحاب : فؤاد مشيع
وأبيض إصليت وصفراء عيطل
وكان خاله الصعلوك الاشهر ( تأبط شرا ) قد شجعه على الصعلكة ، وقام بتدريبه على القتال وسلوك نهج الصعاليك . غير انه فيما بعد اصبح الشنفرى اكثر الصعاليك بأسا وخطورة وتمردا .
- و الشنفرى شاعر كبير ، وتعد قصيدته اللامية التي سميت ( لامية العرب ) من اشهر القصائد الجاهلية واكثرها تعبيرا عن حياة الصحراء بكل مافيها . وتمثل لوحة غنية تظهر ما تحتويه الصحراء من كثبان رمل ، ووديان ، ووحوش مختلفة . وقد اعجب العرب كثيرا بهذه القصيدة ، وشرحها عدد منهم ، كما ان المستشرقين والغربيين عموما فتنوا بها ، وانكبوا على دراستها ، وترجمت إلى أكثر من خمس لغات أجنبية
في لاميته هذه افصح الشنفرى الصعلوك عن مقدرة شعرية هائلة ، فكانت مذهلة في صورها وتراكيبها والمشاعر التي رافقتها . أما لغته فقد حشد فيها الشنفرى عددا هائلا من الألفاظ البدوية الغريبة التي هي ابنة بيئته . ولذلك يحتاج قارئها إلى شروح تفصيلية للإحاطة بمعانيها .وهناك مجموعة من الحكم توزعت على أبيات القصيدة التي بلغت ستة وثمانين بيتا .
* * * *
يقال إن الشنفرى آلى على نفسه ان يقتل من بني سلامان مئة شخص ، وكان كلما قام بغارة عليهم يقتل عددا منهم ، حتى وصل عدد القتلى إلى تسعة وتسعين ، وقبل ان يكمل المئة ، نصب له أعداؤه بنو سلامان كمينا ، فقبضوا عليه ، ومثلوا به تمثيلا داعشيا كريها لاداعي لذكر تفاصيله ، وقد قابل الموت بشجاعة .
وتذكر الروايات إن رجلا من بني سلامان ركل جمجمة الشنفرى ، فعلق بقدمه عظم ، ومات على اثرها ، فبلغ قتلاهم به المئة . ولا تخلو هذه الرواية من التأليف والصناعة ، رغم تواترها في كتب عديدة .
ولكن الجدير بالذكر أن هذا الجاهلي الشجاع الذي كتب له الخلود ، لأنه دوخ القبائل بسرعة عدوه ، وطوع وحوش الصحراء ، وسحر دارسي الشعر بلاميته وغيرها من قصائده ....اضاف حين موته لافتة أخرى .. . فحين سأله قاتلوه عن المكان الذي يريد أن يدفن فيه ، قال : لااريد ان أدفن ، اريد ان ترموا بجثتي في الصحراء القريبة ، لياكلها الوحوش التي صادقتها .
الشنفرى نموذج للمظلومية الاجتماعية في العصر الجاهلي ، ولكنه لم يقبل الخنوع و استطاع ان يرد على الظلم بطريقة تجاوزت المألوف ، فكان مثيرا للإعجاب بأكثر من ميدان .


د أحمد الخطيب / سورية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى