خالد جهاد - على قمة الدنيا وحيداً

على قمة الدنيا وحيداً..كان عنوان أحد دواوين وقصائد شاعرة فلسطين فدوى طوقان والتي قرأتها لها ضمن أعمالها الكاملة،فأنا قدر المستطاع لا أرهق نفسي في البحث عن كتبٍ متفرقة لكاتبٍ أو شاعر طالما وجدت الأعمال الكاملة لتوفر علي مشقة البحث لأن الكتب ليست متوفرة ً دائما ً..لكن القمة تختلف في تعريفها من شخص ٍ لآخر..

لا أدري..كنت حتى منتصف العشرينات من عمري أشعر أنني على القمة لمجرد الصعود إلى سطح البناية التي أسكنها،فأرى منها أسطح البنايات المجاورة والشارع والحي بطريقة سوريالية مختلفة تشبه الطريقة التي يرى بها السواح الأجانب مدننا العربية،وأضحك كثيراً في سري لأنني أرتدي ملابس المنزل القديمة فوق سطحٍ متسخ مليءٍ بالغبار والأتربة وأفكر بإستثمار هذه الحالة كمشهدٍ فني..ما هذا العبث؟..

كانت ابنة خالي عندما كنا مراهقين تمازحني قائلةً أتعتقد أنك في باريس؟ نحن فوق سطح البناية..وتكمل..ربما نلتقي بفأرٍ أنيق يحب أن يشاركنا حفلتنا مع بقية إخوتنا بينما نأكل بعض البوظة التي خبأناها لهذا الحفل الساهر برفقة الراديو..فكنا نسمع الأغنيات ونسخر منها ومن المذيعين..حتى أنني ذات مرة وبناءاً على إلحاحها والحاح بقية الأطفال أرسلت رسالة نصية قصيرة إلى محطة الإذاعة أطلب فيها أغنية مع أن الشريط متوفر في بيوتنا،لكننا أحببنا تجربة طلب أغنية وإرسال اهداء بأسماء ٍ وهمية كي لا يعرفنا أحد وفي الحقيقة فإن لا أحد يعرفنا فعلاً!!!

كانوا يواسونني في تلك الفترة لأنهم يعرفون أنني كنت حزيناً لأنني لن أتمكن من الالتحاق بالجامعة بسبب ظروف أهلي المعيشية وكنت وقتها أعتقد أنها النهاية،وصدقاً كانت فترةً صعبة كنت مشتتاً فيها بين أشياء ٍ كثيرة..فقد كنت أحلل ظروفي وحياتي وكل ماحولي ومن حولي،وكنت أركز في التلفاز كثيراً وأستمع إلى حوارات مختلف الشخصيات في مختلف المجالات وأقوم بغربلة وحفظ العديد من الأفكار،كان هذا عزائي الوحيد لكنه أفادني كثيراً في زمن ماقبل (اليوتيوب) فلا زلت أذكر آراءاً غير اعتيادية قالها الكثيرون ونجوا لأنها لم تؤرشف ولكنني استطعت منذ ذلك الحين تكوين فكرة عن مضمون وقناعات الكثير من الوجوه البراقة التي تعتقد أنها غير مكشوفة اعتماداً على ذاكرة الناس القصيرة التي لن تعرف انقلابهم على ماضيهم ليس كنوعٍ من التصحيح لمسارهم بل من باب التلون حسب ما تقتضيه المصلحة..

لكن هذا التناقض الذي رأيته بعيني في الإعلام بالتزامن مع التناقض الهيستيري الذي رأيته في الحياة اليومية،وتباين وجهات النظر بشكل عنيف في كل شيء،وجعله مادةً للتداول والإستفادة وتحقيق المكاسب،الى جانب استغلال الكثيرين لأي ثغرة للدخول منها،ولكلٍ مآربه التي يضمرها،فيبدي عكس ما يخفي حتى في أكثر الأمور إنسانية ً وقدسية..
مما جعلني في حالة شكٍ وحذرٍ وتساؤلٍ مستمر،ودفعني لخوض تجاربٍ كنت في غنىً عنها لكن رغبتي في الحصول على إجاباتٍ لأسئلة ٍمهمة لي جعلتني أغامر،فخرجت منها بجروحٍ كثيرة..ضمدتها وحدي وتحملت مسؤوليتها وتبعاتها وحدي أيضاً..فكانت النواة لنسف التبعية لأي شيء ٍ يراه الناس مسلماً به دون المرور بمثلث القلب والعقل والروح..

المفروض..كلمة لا تعنيني،فأنا تعلمت من تربية أهلي الحازمة كيف أتصرف في كل الأمور الأساسية،فكبرت مع الشعور بالمسؤولية،لكنني لم أمتلك مهارات التعامل مع الواقع اليومي في ظل عدم امتلاك أهلي لإجابات ٍ لكل ما نراه،بل كانوا يصمتون وأحياناً تكون الإجابة بعبارات مثل (هذه هي الحياة،ما باليد حيلة،لسنا مختلفين عن باقي الناس) والتي كانت تثير جنوني،وتدفعني إلى المزيد من البحث والتمرد لكن دون إيذاء أحد أو اقتحام منطقته الخاصة،فاصطدمت بتناقض مجتمعاتنا التي نصفها بالعاطفية والمحافظة والمتدينة والتي تعرف مفهوم العيب،وساعدني على تكوين قناعاتي وجودي في بيئة متعددة الجنسيات والثقافات مما يجعل التجربة أكثر شمولاً دون أن تكون محصورة في فئة أو شريحة معينة،فالمتعلم ليس مثقفاً بالضرورة..بل قد يكون علمه وبالاً عليه لأنه لا يتعدى مجرد واجهة اجتماعية بغية التباهي أو الإنتماء لطبقات يهاجمها كثر بينما يستميت في الوصول إليها،وتكون الثقافة وتكرار بعض المفاهيم والمصطلحات مجرد ديكور أو وردة في معطف أحدهم لتكمل (الحالة الراقية) التي تشبه إخفاء شقوق الجدران خلف دولاب أو لوحة فنية لأشخاص لا يحبون الفن ولا يهتمون به لكنهم يريدون أن ينالهم بعضٌ من بريقه،كما وأن الكثيرين برغم رفعهم لشعارات (المضمون والجوهر) لديهم نظرة شديدة الجهل والسطحية والتفاهة وأفكار نمطية عن مفاهيم ومقاييس الجمال والعلم والثقافة والخلق والتدين والوطن والهوية والحب والرومانسية والإنسانية والإيجابية والعفوية التي يغلب عليها عبارات مستهلكة،ممضوغة مليارات المرات مثل قطعة اللبان أو العلكة كما نقول في بلادنا،عدا عن انتشار الأحقاد بين الناس بطريقة غير مبررة مع إيجاد ذرائع جاهزة دائما ً لتبريرها ضد أي فئة،مما يجعل واحدة من أهم الحكم التي عرفتها على الإطلاق في حياتي هي أن أتعامل مع كل حالة بشكل فردي فلا تعميم ولا إطلاق لأي حكم لأن الأشقاء قد لا يملكون نفس النظرة لنفس الشيء مهما بدت الفكرة محل إجماع،واكتشفت ذلك حتى من قرائتي المبكرة وبحثي المتواضع منذ الطفولة في الدين فوجدت أن هناك مبادئاً أساسية ولكن الحكم فيها متنوع بتنوع الحالات والبيئات والثقافات فيقيم كل شيء حسب الحالة والظرف دون تعميم ودون اجتزاء من السياق الزماني والمكاني عكس ما يتداوله أغلب الناس..

ووجدت أنه لا يمكن لأحد أن يرى بشكل ٍ صحيح طالما كان مصراً على صوابه دوماً،وطالما كان غير قادر على رؤية الأشياء من منظورٍ مختلف أو رؤيتها كما يراها الآخر مع محاولة وضع نفسه في مكانه،وطالما كان لا يستطيع أن يرى سوى نفسه وثقافته وغير قادرٍ على الإعتراف بجمال الآخر ونجاحه وتميزه وأنه لا يكتمل إلا به،وأن مزاياه لن تضرني إلا إن كنت لا أثق في نفسي وقدراتي..

ولربما كانت الحياة حافلةً بالصعوبات والأحزان والأوجاع إلا أنني أستطيع القول أن مرحلة النضج هي الأجمل والأكثر سلاماً عندما تعود روحك بعد اغترابٍ طويل في الكون إلى مكانها في صدرك مدركةً أن العديد من المفاهيم التي تعلمناها في كتب المدرسة والتي تمردنا عليها هي الأقرب إلى الصواب..
فالبقاء للأصلح والأنقى لا الأقوى،والخلق والصدق والإخلاص والأمانة هي الإرث الذي يبقى من الإنسان،وأن كل البريق والبهرجة والأضواء ستزول ولن يبقى إلا ماهو صادق وحقيقي،وأن استنساخ تجارب الآخرين أو التقليل منها أو تجاهل جمالها لن يوصل شخصاً إلى مكان ٍ أفضل،هكذا علمنا التاريخ..
فبرغم كل التطور السريع لا زالت الشمس والسماء والبحر والأرض لا تشبه الا نفسها..ولا زال سطح بنايتي يجعلني أشعر أنني على أعلى قمم العالم..أراقب السماء والليل والشروق والغروب والناس..أرقص على الناي كالدراويش لكن بثيابي العادية،أتحرر من قيود الزمان والمكان وأصنع مكاناً صغيراً جداً أدور فيه من قلبي حول الكون،يلف تاريخي مع التفاف سيقاني،أعانق الماضي والحلم والألم والغياب والطفولة..فيخرج الطفل من قلبي كما يخرج الجنين من بطن أمه ليرقص معي عند كل غروبٍ قائلاً قد تغرب الشمس لكن الروح لا تغرب أبداً..بل تظل على قمة الدنيا وان كانت وحيدة..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى