د. العربي إزعبل - قراءة تحليلية لقصيدة "موقد السراب" للشاعر مصطفى الحاج الحسين

تنقسم هذه القصيدة الرائعة من أديبنا وشاعرنا الكبير من إسطنبول إلى جزءين اثنين : أولهما : استرجاع لماضي الشباب حيث " القصيدة " تتحدى الشاعر بل وتتحداه ظروف و أمكنة و متاهات الروتين الحياتية مثله مثل كل الناس ؛ وكأن في كل منعطف حياتي يكتسب التجارب و تحتد عناصر شخصية الشاعر ..لا الحاجة تقف حجر عثرة أمامه ولا اليتم أناخ ظهره ، ولا كل اكراهات الزمن المشيب قادر على أن يترك فيه بصمة أذى....وقف الشامخ متحديا كل الصعاب ويشحذ هممه لتحقيق غاية سامية ظلت عالقة في الفكر والروح والوجدان والفؤاد وهذه الرغبة الأكيدة هي الفكرة الثانية لمضمون هذه القصيدة الرائعة شكلا ومضمونا :
الفكرة ، هي : محاورته ( القصيد) أي الشعر في أبهى صور وارقى بوح ، أسر لها بما في القلب والوجدان والروح والفكر واعطاها من نفسه الجمال والقوة النابعة من داخل شخصية محنكة حنكتها تجاربه الحياتية في كثير من الميادين التي اشتغل فيها ...فصاغها حكمة وقوة وقولا فصلا نتيجة كل ذلك ..
وها هو ذا في هذه القصيدة يبدع منذ استهلالها لها بعنوان مجازي قوي ( موقد السّراب) !! فلماذا حذف الشاعر اللبيب الحكيم هنا المبتدأ وجاء بالخبر ( موقد) مضافا إلى كلمة ( السّراب) إنها لغة المجاز اللفظي حيث : الموقد هو الشاعر نفسه يحترق ؛ في داخله خليط من الأحاسيس والعواطف تضطرب فلا الأرض أرض ولا السماء سماء ..وجاء بالسراب وكأنه يقول : كم تجربة مرت من عمري وكم أمنية سعيت إلى تحقيقها في جد ونشاط وعزم وقوة وإصرار على أمل مستقبل/ حاضر أكثر سعادة وهناء وراحة من الماضي القريب ...كل ذلك ذهب ادراج الرياح وكأنني لم أكن شيئا أو كأني كمن وضع قدرا فارغةعلى نار ينتظر أن ينضج
( السراب) ..وهل السراب ملموس حقيقي ؟؟أم يريد القول إن تجاربه في الحياة علمته ألا شيء يدوم على وجه هذه البسيطة ؟!
ليواصل الشاعر قصيدته في حبكة متراصة الحلقات متدرجة الأفكار متماسكة النفس الشعري من بداية النص إلى نهايته في أسلوب شاعري راق ومميز وكأنه غدير رقراق يسيل عذوبة ورقة وجمالا وتوهجا....
فالموسيقى الخارجية للنص ليست إلّا إحساساً بالإنتصار على ظروف قاهرة وهذا الانتصار مرده إلى زمانة وتعقل الشاعر وقوة شخصيته في تحقيق الذات ....
اشتغل الشاعر على مجموعة من الأساليب البلاغية وخاصة المجاز والكناية لكن في أسلوب سهل ممتنع ساعده ذلك على أن يستهل قصيدته حسن استهلال وان يوصل فكرته في يسر وسهولة وأن يختم قصيدته ختما راقيا فكرا وعمقا ووجدانا .
تحية تقدير لكم استاذ مصطفى الحاج حسين المحترم ..لقد أبدعت واوفيت وما قصرت ...قصيدة رائعة ...تحياتي وتقديري واحترامي لكم أستاذي.
دكتور : العربي إزعبل.
* موقدُ السَّراب ..*
أحاسيس : مصطفى الحاج حسين.
على موقدِ السَّرابِ
أشعلَني الانتظارُ
كانَ السَّيفُ ينقُشُ صرختي
على امتدادِ عُنُقي
وكنتُ في قبضةِ الانهيارِ
ألبَسُ دمعتي
وأحضُنُ رعشتي
وأصعدُ سلَّمَ الاكتواءِ
الأرضُ منْ فوقي
شاخصةُ الجهاتِ
السَّماءُ منْ تحتيَ
فَقَدَتْ بصيرتَها
والزمنُ
لا مكانَ يأويهِ
والأمكنةُ تنسابُ في جدولِ
الهَباءِ
ضحِكَ الرَّمادُ منْ يفاعةِ أمواجي
وقهقَهَ العدمُ
حين أبصرَ عنادَ نبضي
الأفقُ يحترسُ منْ نافذتي
المطرُ يلتفُّ على صحرائي
والجهاتُ لا تقتربُ منْ حنيني
مَنْ زوَّدَ اللَّيلَ بشموعِ دمي؟!
من أعطى النارَ
حقَّ التوغُّلِ في يباسي؟!
أنا
لا أذكُرُ أنِّي كنت أنا
كانتْ روحيَ على خصامٍ
مع جسدي
دمي
لم يطِقِ الإقامةَ في عروقي
أهدتني أمِّي
إلى حمائمِ السَّحابِ
أودعني أبي
عند ضفيرةِ النَّدى
وأخذتْني قصيدتي
إلى بوابةِ الينابيعِ
فَمَنْ دَلَّ الصَّمتَ على صوتي ؟!
مَنْ أعطى الأرقَ
مفتاحَ الأسئلةِ؟!
آنِّي أحبو فوقَ قُيودي
أحفُرُ بحراً لمراكبي
العائمةِ على موتي .*

مصطفى الحاج حسين.
إسطنبول




345449225_1012023896447125_2461432008253037161_n.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى