خرج أبو الطيب من شيراز لثمان خلون من شعبان قاصداً بغداد فالكوفة
ويقول بعض الرواة إن أبا الطيب لما قدم على عضد الدولة ومدحه وصله بثلاثة آلاف دينار وثلاثة أفراس محلاّة، ثم دس إليه من يسأله أين هذا العطاء من عطاء سيف الدولة؟ فقال: إن سيف الدولة كان يعطي طبعاً وعضد الدولة تطبعاً. فغضب عضد الدولة وأوصى إلى جماعة أن يقتلوه. وروى صاحب الإيضاح أن عضد الدولة قال إن المتنبي كان جيد الشعر بالغرب. فلما بلغت المتنبي قال: الشعر على قدر البقاع
وهاتان روايتان لا تثبتان على النقد. فأبو الطيب قد أفرغ وسمعه في مدح صاحبه ونال من جوائزه ما ملأه شكراً. فكيف قال ما نسب إليه؟ وكيف وهو يعلم أن كلامه حري أن يبلغ عضد الدولة؟
وعندنا رواية تخالف هذه:
قال صاحب الصبح المنبي: حكى عبد العزيز بن يوسف الجرجاني كاتب الإنشاء عند عضد الدولة قال: لما دخل أبو الطيب المتنبي مجلس عضد الدولة وانصرف عنه أتبعه بعض جلسائه، وقال له سله كيف شاهد مجلسنا وأين الأمراء الذين لقبهم منا. قال: فامتثلت أمره وجاريت المتنبي في هذا الميدان. وأطلت معه عنان القول. فكان جوابه عن جميع ما سمع مني أن قال ما خدمت عيناي قلبي كاليوم. ولقد اختصر اللفظ وأطال المعنى وأجاد فيه. وكان ذلك من أوكد الأسباب التي حظي بها عند عضد الدولة
فهذه الرواية أشبه بحزم أبي الطيب. ولماذا يقول الشاعر في أمير أفاض عليه عطاءه إن هذا عطاء متكلف وسيف الدولة كان يعطي طبعاً؟ أكان يبغي إرضاء سيف الدولة وهو في شيراز ولا يبالي إغضاب عضد الدولة وقد قصده وبذل في مدحه وسعه، ونال من عطاياه ما أثقله شكراً. ورواية (الشعر على قدر البقاع) سبيلها في الرد والدحض سبيل أختها
ثم ما الذي يغري ابن بويه بقتل شاعر عظيم أشاد يذكره وآثره بالمدح على ابن عمه معز الدولة ووعده أن يرجع إليه ليخلد مآثره. إن أعداء عضد الدولة أولى بهذه التهمة. وقد أدرك بعض المعاصرين أن قتل أبي الطيب إخفار لذمة عضد الدولة فأنشأ أبياتاً يحرضه فيها على عقاب من أخفروا ذمته
سار الشاعر بمراكبه وأحماله وغلمانه حتى بلغ الأهواز وبين الأهواز وشيراز واحد وخمسون فرسخاً. ثم سار خمسين فرسخاً حتى بلغ واسط. وهنا نقف لنعرض على القارئ روايتين: الأولى مروية في الصبح المنبي عن الخالديين قالا:
(كنا قد كتبنا إلى أبي نصر محمد الجبلي نسأله عما صدر لأبي الطيب المتنبي بعد مفارقته عضد الدولة وكيف قتل - وأبو نصر هذا من وجوه الناس في تلك الناحية وله فضل وأدب جزل وحرمة وجاه - فأجابنا عن كتابنا جواباً طويلاً يقول في أثنائه: (وأما ما سألتما عنه من خبر مقتل أبي الطيب فأنا أسوقه وأشرحه شرحاً بيناً) وفي هذا الشرح يذكر أبو نصر قتل أبي الطيب وسببه. ثم يبين تربص فاتك الأسدي في طريق الشاعر وعزمه على قتله فيقول:
(وأما شرح الخبر فان فاتكا هذا صديق لي. وهو كما سمي فاتك لسفكه الدماء وإقدامه على الأهوال في مواقف القتال. فلما سمع الشعر الذي هجا به ضبة اشتد غضبه. ورجع على ضبة باللوم وقال له كان يجب ألا تجعل لشاعر عليك سبيلاً. وأضمر غير ما أظهر)
واتصل به انصراف المتنبي من فارس وتوجهه إلى العراق. وعلم أن اجتيازه بجبل دير العاقول. فلم يكن ينزل عن فرسه ومعه جماعة من بني عمه رأيهم في المتنبي مثل رأيه من طلبه واستعلام خبره من كل صادر ووارد
وكان فاتك خائفاً أن يفوته. وكان كثير ما ينزل عندي. فقلت له يوماً وقد جاءني وهو يسأل قوماً مجتازين عن المتنبي فقلت له أكثرت المسألة عن هذا الرجل. فأي شيء رجل تريد منه إذا لقيته؟ فقال ما أريد إلا الجميل وعذله على هجاء ضبة. فقلت له هذا لا يليق بأخلاقك. فتضاحك ثم قال: يا أبا نصر والله إن اكتحلت عيني به أو جمعتني وإياه بقمة لأسفكن دمه، ولأمحقن حياته. قلت له كف عافاك الله عن هذا القول، وأزل هذا الرأي من قلبك فان الرجل شهير الاسم، بعيد الصيت. ولا يحسبن منك قتله على شعر قاله. وقد هجت الشعراء الملوك في الجاهلية والخلفاء في الإسلام. فما سمعنا بشاعر قتل بهجائه. وقد قال الشاعر: هجوت زهيراً ثم إني مدحته ... ومازالت الأشراف تهجى وتمدح
ولم يبلغ جرمه ما يوجب قتله. فقال يفعل الله ما يشاء وانصرف
ولم يمض لهذا القول غير ثلاثة أيام حتى وافاني المتنبي ومعه بغال موقرة بكل شيء من الذهب والطيب والتجملات النفيسة والكتب الثمينة والآلات. لأنه كان إذا سافر لم يخلف في منزله درهماً ولا شيئاً يساويه. وكان أكثر إشفاقه على دفاتره لأنه كان قد انتخبها وأحكمها قراءة وتصحيحاً)
قال أبو نصر (فتلقيته وأنزلته داري، وسألته عن أخباره وعمن لقي. فعرفني من ذلك ما سررت له وأقبل يصف ابن العميد وعلمه وكرمه وكرم عضد الدولة ورغبته في الأدب وميله إلى أهله
فلما أمسينا قلت يا أبا الطيب على أي شيء أنت مجمع؟ قال على أن أتخذ الليل مركباً فإن السير فيه يخف علي. فقلت هذا هو الصواب رجاء أن يخفيه الليل ولا يصبح إلا وقد قطع بلداً بعيداً. وقلت له والرأي أن يكون معك من رجالة هذه البلدة الذين يعرفون هذه المواضع المخيفة جماعة يمشون بين يديك إلى بغداد. فقطب وجهه وقال لم قلت هذا القول؟ فقلت لتستأنس بهم، فقال أما والجراز في عنقي فما بي حاجة إلى مؤنس غيره. قلت الأمر إليك، والرأي في الذي أشرت عليك. فقال تلويحك ينبي عن تعريض، وتعريضك ينبي عن تصريح. فعرفني الأمر وبين لي الخطب. قلت إن الجاهل فاتكا الأسدي كان عندي منذ ثلاثة أيام وهو غير راض عنك لأنك هجوت ابن أخته ضبة. وقد تكلم بأشياء توجب الاحتراز والتيقظ، ومعه أيضاً نحو العشرين من بني عمه قولهم مثل قوله. فقال غلام أبي الطيب وكان عاقلاً: الصواب ما رآه أبو نصر. خذ معك عشرين رجلاً يسيرون بين يديك إلى بغداد. فاغتاظ وشتمه شتما قبيحاً. وقال والله لا أرضى أن يتحدث عني الناس بأني سرت في خفارة أحد غير سيفي. قال أبو نصر فقلت يا هذا أنا أوجه قوماً من قبلي يسيرون بمسيرك وهم في خفارتك. فقال والله لا فعلت شيئاً من هذا
ثم قال: يا أبا نصر! بخرء الطير تخوفني ومن عبيد العصا تخاف علي؟ والله لو أن مخصرتي هذه ملقاة على شاطئ الفرات وبنو أسد معطشون بخمس وقد نظروا إلى الماء كبطون الحيات ما جسر لهم خف ولا ظلف أن يرده. معاذ الله أن أشغل فكري بهم لحظة عين. فقلت له: قل إنشاء الله تعالى، فقال هي كلمة مقولة لا تدفع مقضياً ولا تستجلب آتياً
ثم ركب فكان آخر العهد به.) اهـ
نقف هنا لنتأمل في هذه الرواية المطولة قبل أن نقيسها إلى رواية أخرى:
يقول الخالديان إنهما كتبا إلى نصر محمد الجبلي ثم يقولان: (وأبو نصر هذا من وجوه الناس في تلك الناحية) ليس في الرواية تصريح باسم ناحية ولكن ذكرت ضمناً في نسبة أبي نصر (الجبلي). والذي أراه أنها نسبة إلى جَبُّل وهي بلدة بين النعمانية وواسط على دجلة تبعد عن النعمانية خمسة فراسخ إلى الشرق الجنوب، وعن دير العاقول ثلاثة عشر فرسخاً. فهذا الراوي من بلدة تبعد عن مقتل أبي الطيب نحو أحد عشر فرسخاً وهو صديق للشاعر وقاتله. وخلاصة روايته:
1 - أن فاتكان الأسدي خال ضبة العيني الذي هجاه أبو الطيب كان يكثر السؤال عن الشاعر ليقتله انتقاماً لأخته التي هجاها. وقد صرح بهذا لأبي نصر
2 - وأن أبا الطيب نزل على أبي نصر بجبَّل فأخبره ونصحه بالحذر فلم يقبل. واحتقر فاتكا وقومه احتقاراً شديداً وغلا في كلامه غلواً لا يليق برجل عاقل
وفي خزانة الأدب نقلاً عن الإيضاح رواية أخرى نصها:
(وأخبرنا أبو الحسن السوسي في دار الوقف بين السورين، قال: كنت أتولى الأهواز من قبل المهلبي. وورد عليه المتنبي ونزل عن فرسه ومقوده بيده وفتح عيابه وصناديقه لبلل مسها في الطريق وصارت الأرض كأنها مطارف منشورة. فحضرته أنا وقلت قد أقمت للشيخ نزلاً. فقال المتنبي إن كان ثم فهاته. ثم جاء فاتك الأسدي يجمع وقال قدم الشيخ هذه الديار وشرفها بشعره والطريق بينه وبين دير قُنّة موحش قد احتوشته الصعاليك وبنو أسد يسيرون في خدمته إلى أن يقطع هذه المسافة، ويبر كل واحد منهم بثوب بياض. فقال المتنبي ما أبقى الله بيدي هذا الأدهم وذباب الجراز الذي أنا متقلده فإني لا أفكر في مخلوق. فقام فاتك ونفض ثوبه من رتوت الأعاريب الذين يشربون دماء الحجيج حسوا سبعين رجلاً ورصدوا له. فلما توسط المتنبي الطريق خرجوا عليه، الخ)
هذه الرواية تؤيد الأولى في أن أبا الطيب أبى أن يسير في خفارة أحد، وتخالفها في أن فاتكا هو الذي عرض على الشاعر أن يخفره. ومعنى هذا أنه ما كان مبيتاً شراً له وأنه لو قبلت خفارته ما قتله. وفي الرواية مطاعن:
فقول: أبي الحسن السوسي: (كنت أتولى الأهواز من قبل المهلبي الخ. يؤخذ منه أن مرور أبي الطيب بالأهواز كان في عهد المهلبي، والمهلبي توفي سنة 352 كما تقدم
ولو أن فاتكا لقي أبا الطيب في الأهواز فعرض عليه خفارته فأبى فعزم على قتله أو سلبه ما صبر عليه حتى قطع المسافة من الأهواز إلى واسط وهي خمسون فرسخاً، ثم سار من واسط حتى جاوز النعمانية، كما سيأتي، وذلك أكثر من عشرين فرسخاً.
وقول فاتك إن الطريق إلى دير قنة موحش بعيد أن يقال في الأهواز وبينها وبين دير قنة مراحل كثيرة وبلدان عامرة، وإنما يقال مثل هذا في موضع قريب من دير قنة النعمانية أو جبل.
ثم عرض فاتك خفارته على أبي الطيب وفي نفسه منه ما فيها مستبعد كذلك
فرواية أبي نصر أجدر بالقبول بعد حساب المبالغة فيها كقول أبي الطيب عن بني أسد (ابخرء الطير تخوفني الخ.) فالرجل مهما تكبر وتهور كان أعقل من أن يقول مثل هذا القول: وأحسب أبا نصر حينما سئل عن مقتل أبي الطيب أراد أن يبين عن نصيبه في هذه القصة التي يتشوف الناس إلى سماعها فأدخل شيئاً من الصنعة، ومبالغة القصاص، وبالغ في نصحه أبا الطيب وفي إباء هذا قبول النصيحة وهكذا
- 2 -
سار أبو الطيب من الأهواز إلى واسط فنزل بها، قال علي ابن حمزة البصري عن القصيدة الكافية التي ودع بها الشاعر عضد الدولة: (هذه القصيدة آخر شعر قاله أبو الطيب. وكتبتها والتي قبلها عنه بواسط يوم السبت لثلاث عشرة بقيت من شهر رمضان سنة أربع وخمسين وثلاثمائة)
بين واسط وبغداد زهاء أربعين فرسخاً، وعلى الطريق بلاد نذكر منها ما ذكر في روايات مقتل أبي الطيب: وهي النعمانية ودير قُنىّ ودير العاقول والصافية
النعمانية في نصف الطريق بين واسط وبغداد غربي دجلة وهي قائمة اليوم. وكانت تسمى بغيلة فأعيد أسمها القديم. ودير العاقول كان على شاطئ دجلة الشرقي، وكان عنده مدينة مسماة باسمه، وكان على ميل من النهر أيام ياقوت. وبينه بين بغداد 15 فرسخاً، وبينه وبين النعمانية زهاء خمسة فراسخ
وإلى الجنوب الشرقي من دير العاقول على مقربة منه دير مرماري الذي يسمى دير قُنىّ أو (قُنّه) وهو على 16 فرسخاً من بغداد يبعد على الشاطئ قليلا
وأمام دير قُنى على الشاطئ الصافيةُ على فرسخين إلى الجنوب والشرق من دير العاقول. وكانت على ميل من الشاطئ في زمن ياقوت.
وعلى نحو ثمانين كيلاً من بغداد إلى الجنوب والشرق توجد اليوم أرض تسمى أرض الدير. ذهبت إليها يوم الجمعة الثاني والعشرين من ربيع الأول سنة خمسة وخمسين وثلاثمائة. فإذا تلال كثيرة متقاربة قليلة الارتفاع عليها حطام من الآجر والخزف تبعد عن شاطئ دجلة الشرقي نحو كيل واحد
وقد سألت أعراباً نازلين هناك من قبيلة شّمر عن أرض أخرى تسمى أرض الدير في هذه الناحية فنفوا هذا. وسألت عن أسماء العاقول وقنى والصافية، أتعرف اليوم هي أو ما يقرب منها؟ فنفوا جازمين
وإذا نظرنا إلى المسافة بين هذه الأرض وبغداد فهي تقارب خمسة عشر فرسخاً. وهي المسافة المقدرة بين بغداد ودير العاقول في معجم البلدان وغيره
ومهما يكن فأكبر الظن أن هذه التلال بقايا دير قنى أو دير العاقول. وكانا متقاربين، وهذا يدل على أن دجلة لم تغير مجراها كثيراً في هذه الناحية
وأما الصافية فأحسب موضعها الآن في مجرى النهر، فقد كانت أيام ياقوت على ميل من دير قنى، ويؤيد هذا القول صاحب مراصد الإطلاع عن الصافية، (وقيل موضع دجلة)
- 3 -
الروايات في مقتل أبي الطيب متفقة في جملتها، ولكن بعضها أبين وأكثر تحديداً من بعض، وهي في التحديد قسمان:
1 - روايات تجعل مقتله قرب النعمانية أو قرب دير العاقول دون ذكر الموضع الذي قتل به
2 - روايات تذكر الصافية على أنها موضع القتل أو قريبة منه وهي على مقربة من دير العاقول، بينه وبين النعمانية، فليست تناقض الروايات الأولى، بل تزيد عليها تحديداً 3 - رواية ابن خلكان التي تحاول الجمع بين الروايات فتقول: (بالقرب من النعمانية في موضع يقال له الصافية من الجانب الغربي من سواد بغداد عند دير العاقول بينهما مسافة ميلين)
وحق أن الصافية قريبة من دير العاقول ولكنها ليست قريبة من النعمانية إلا قرباً نسبياً
4 - رواية ابن جني ونسخة بغداد ونسخة في الموصل تذكر مكاناً محرّفاً مضطرباً بين فرع ونيزع وشرع. ولم أجد لها ذكراً في الكتب
يستطيع الباحث بعد هذا أن يقول إن أبا الطيب قتل على مقربة من الصافية، ولكن ابن خلكان وابن الأنباري يقولان: (من الجانب الغربي من سواد بغداد) والصافية على الشاطئ الشرقي، فكيف هذا؟
رواية ابن خلكان متناقضة بلا ريب، فهو يقول في موضع يقال له (الصافية من الجانب الغربي) وهذا خطأ، وأحسبه اتبع ابن الأنباري فالعبارتان متقاربتان. فهل عبارة ابن الأنباري مقبولة؟
هو يقول (حيال الصافية من الجانب الغربي) فيمكن أن يقال إن مقتل الشاعر في الجانب الغربي حيال الصافية على الضفة الشرقية - وكلمة حيال هذه صحفت في بعض الروايات إلى جبال وليس عند الصافية جبال
يمكن قبول رواية ابن الأنباري بهذا التفسير لو لم نعرف الطريق بين واسط وبغداد أتساير الضفة الشرقية أم الغربية من دجلة، ولكننا نعرف من كتب المسالك أن الطريق شرقي دجلة. وقد عرفنا أنه مر بجبّل وليس لنا أن نفرض أنه سار شرقي النهر من واسط إلى جبل حيث نزل على ابن نصر ثم عبر إلى النعمانية ليعبر إلى الشرق مرة أخرى
وخلاصة هذه الكلمة أن جمع هذه الروايات ونقدها وتعّرف مواقع البلاد التي ذكرت في الروايات والطريق بين واسط ودار الخلافة. كل أولئك يبين لنا أن مقتل أبي الطيب كان عند الصافية شرقي نهر دجلة على نحو ستة عشر فرسخاً من بغداد
- 4 -
سار أبو الطيب من واسط يؤم بغداد في طريقه إلى الكوفة وكان مسيره يوم السبت سابع عشر رمضان. وفي هذا اليوم كتب عنه علي بن حمزة البصري روايته القصيدتين الأخيرتين من شعره كما تقدم
وبلغ جبّل بعد أن سار زهاء سبعة عشر فرسخاً فنزل عند أبي نصر الجبلي كما تقدم. ثم أخذ طريقه حتى حاذى النعمانية وهي في نصف الطريق بين واسط وبغداد ثم سار فمر بجرجرايا على أربعة فراسخ إلى الجنوب والشرق من دير العاقول ثم تقدم حتى قارب الصافية وبينه وبين بغداد ستة عشر فرسخاً
وهنالك خرج عليه فاتك بن أبي جهل الأسدي خال ضبة ابن يزيد الذي هجاه أبو الطيب. وكان فاتك في نيف وثلاثين فارساً رامحين وناشبين وكان مع أبي الطيب ابنه محسد وغلمانه الذين وصفهم في القصيدة الميمية التي رثى فيها فاتكا وفي قصيدة توديع ابن العميد كما تقدم
ولا ندري كم كان غلمانه ولكنهم كانوا ولا ريب أقل عدداً من عدوهم
قاتل الشاعر الشجاع حتى قتل. وقتل ابنه. وأكثر الروايات تخص من بين غلمانه غلامه مفلحاً. وفي الخزانة أنهم قتلوا كل من كان معه. وما أحسب الغلمان ثبتوا كلهم بعد قتل سيدهم. وفي رواية الخزانة أيضاً (وحمل فاتك على المتنبي وطعنه في يساره ونكسه عن فرسه. وكان ابنه أفلت إلا أنه رجع يطلب دفاتر أبيه فقنع خلفه الفرس أحدهم وحز رأسه)
(قال أبو نصر: ولما صحّ خبر قتله وجهت من دفنه ودفن ابنه وغلمانه وذهبت دماؤهم هدراً)
ردي حياض الردى يا نفس واتركي ... حياض خوف الردى للشاء والنعم
إن لم أذرك على الأرماح سائلة ... فلا دعيت ابن أم المجد والكرم
عبد الوهاب عزام
مجلة الرسالة - العدد 160
بتاريخ: 27 - 07 - 1936
ويقول بعض الرواة إن أبا الطيب لما قدم على عضد الدولة ومدحه وصله بثلاثة آلاف دينار وثلاثة أفراس محلاّة، ثم دس إليه من يسأله أين هذا العطاء من عطاء سيف الدولة؟ فقال: إن سيف الدولة كان يعطي طبعاً وعضد الدولة تطبعاً. فغضب عضد الدولة وأوصى إلى جماعة أن يقتلوه. وروى صاحب الإيضاح أن عضد الدولة قال إن المتنبي كان جيد الشعر بالغرب. فلما بلغت المتنبي قال: الشعر على قدر البقاع
وهاتان روايتان لا تثبتان على النقد. فأبو الطيب قد أفرغ وسمعه في مدح صاحبه ونال من جوائزه ما ملأه شكراً. فكيف قال ما نسب إليه؟ وكيف وهو يعلم أن كلامه حري أن يبلغ عضد الدولة؟
وعندنا رواية تخالف هذه:
قال صاحب الصبح المنبي: حكى عبد العزيز بن يوسف الجرجاني كاتب الإنشاء عند عضد الدولة قال: لما دخل أبو الطيب المتنبي مجلس عضد الدولة وانصرف عنه أتبعه بعض جلسائه، وقال له سله كيف شاهد مجلسنا وأين الأمراء الذين لقبهم منا. قال: فامتثلت أمره وجاريت المتنبي في هذا الميدان. وأطلت معه عنان القول. فكان جوابه عن جميع ما سمع مني أن قال ما خدمت عيناي قلبي كاليوم. ولقد اختصر اللفظ وأطال المعنى وأجاد فيه. وكان ذلك من أوكد الأسباب التي حظي بها عند عضد الدولة
فهذه الرواية أشبه بحزم أبي الطيب. ولماذا يقول الشاعر في أمير أفاض عليه عطاءه إن هذا عطاء متكلف وسيف الدولة كان يعطي طبعاً؟ أكان يبغي إرضاء سيف الدولة وهو في شيراز ولا يبالي إغضاب عضد الدولة وقد قصده وبذل في مدحه وسعه، ونال من عطاياه ما أثقله شكراً. ورواية (الشعر على قدر البقاع) سبيلها في الرد والدحض سبيل أختها
ثم ما الذي يغري ابن بويه بقتل شاعر عظيم أشاد يذكره وآثره بالمدح على ابن عمه معز الدولة ووعده أن يرجع إليه ليخلد مآثره. إن أعداء عضد الدولة أولى بهذه التهمة. وقد أدرك بعض المعاصرين أن قتل أبي الطيب إخفار لذمة عضد الدولة فأنشأ أبياتاً يحرضه فيها على عقاب من أخفروا ذمته
سار الشاعر بمراكبه وأحماله وغلمانه حتى بلغ الأهواز وبين الأهواز وشيراز واحد وخمسون فرسخاً. ثم سار خمسين فرسخاً حتى بلغ واسط. وهنا نقف لنعرض على القارئ روايتين: الأولى مروية في الصبح المنبي عن الخالديين قالا:
(كنا قد كتبنا إلى أبي نصر محمد الجبلي نسأله عما صدر لأبي الطيب المتنبي بعد مفارقته عضد الدولة وكيف قتل - وأبو نصر هذا من وجوه الناس في تلك الناحية وله فضل وأدب جزل وحرمة وجاه - فأجابنا عن كتابنا جواباً طويلاً يقول في أثنائه: (وأما ما سألتما عنه من خبر مقتل أبي الطيب فأنا أسوقه وأشرحه شرحاً بيناً) وفي هذا الشرح يذكر أبو نصر قتل أبي الطيب وسببه. ثم يبين تربص فاتك الأسدي في طريق الشاعر وعزمه على قتله فيقول:
(وأما شرح الخبر فان فاتكا هذا صديق لي. وهو كما سمي فاتك لسفكه الدماء وإقدامه على الأهوال في مواقف القتال. فلما سمع الشعر الذي هجا به ضبة اشتد غضبه. ورجع على ضبة باللوم وقال له كان يجب ألا تجعل لشاعر عليك سبيلاً. وأضمر غير ما أظهر)
واتصل به انصراف المتنبي من فارس وتوجهه إلى العراق. وعلم أن اجتيازه بجبل دير العاقول. فلم يكن ينزل عن فرسه ومعه جماعة من بني عمه رأيهم في المتنبي مثل رأيه من طلبه واستعلام خبره من كل صادر ووارد
وكان فاتك خائفاً أن يفوته. وكان كثير ما ينزل عندي. فقلت له يوماً وقد جاءني وهو يسأل قوماً مجتازين عن المتنبي فقلت له أكثرت المسألة عن هذا الرجل. فأي شيء رجل تريد منه إذا لقيته؟ فقال ما أريد إلا الجميل وعذله على هجاء ضبة. فقلت له هذا لا يليق بأخلاقك. فتضاحك ثم قال: يا أبا نصر والله إن اكتحلت عيني به أو جمعتني وإياه بقمة لأسفكن دمه، ولأمحقن حياته. قلت له كف عافاك الله عن هذا القول، وأزل هذا الرأي من قلبك فان الرجل شهير الاسم، بعيد الصيت. ولا يحسبن منك قتله على شعر قاله. وقد هجت الشعراء الملوك في الجاهلية والخلفاء في الإسلام. فما سمعنا بشاعر قتل بهجائه. وقد قال الشاعر: هجوت زهيراً ثم إني مدحته ... ومازالت الأشراف تهجى وتمدح
ولم يبلغ جرمه ما يوجب قتله. فقال يفعل الله ما يشاء وانصرف
ولم يمض لهذا القول غير ثلاثة أيام حتى وافاني المتنبي ومعه بغال موقرة بكل شيء من الذهب والطيب والتجملات النفيسة والكتب الثمينة والآلات. لأنه كان إذا سافر لم يخلف في منزله درهماً ولا شيئاً يساويه. وكان أكثر إشفاقه على دفاتره لأنه كان قد انتخبها وأحكمها قراءة وتصحيحاً)
قال أبو نصر (فتلقيته وأنزلته داري، وسألته عن أخباره وعمن لقي. فعرفني من ذلك ما سررت له وأقبل يصف ابن العميد وعلمه وكرمه وكرم عضد الدولة ورغبته في الأدب وميله إلى أهله
فلما أمسينا قلت يا أبا الطيب على أي شيء أنت مجمع؟ قال على أن أتخذ الليل مركباً فإن السير فيه يخف علي. فقلت هذا هو الصواب رجاء أن يخفيه الليل ولا يصبح إلا وقد قطع بلداً بعيداً. وقلت له والرأي أن يكون معك من رجالة هذه البلدة الذين يعرفون هذه المواضع المخيفة جماعة يمشون بين يديك إلى بغداد. فقطب وجهه وقال لم قلت هذا القول؟ فقلت لتستأنس بهم، فقال أما والجراز في عنقي فما بي حاجة إلى مؤنس غيره. قلت الأمر إليك، والرأي في الذي أشرت عليك. فقال تلويحك ينبي عن تعريض، وتعريضك ينبي عن تصريح. فعرفني الأمر وبين لي الخطب. قلت إن الجاهل فاتكا الأسدي كان عندي منذ ثلاثة أيام وهو غير راض عنك لأنك هجوت ابن أخته ضبة. وقد تكلم بأشياء توجب الاحتراز والتيقظ، ومعه أيضاً نحو العشرين من بني عمه قولهم مثل قوله. فقال غلام أبي الطيب وكان عاقلاً: الصواب ما رآه أبو نصر. خذ معك عشرين رجلاً يسيرون بين يديك إلى بغداد. فاغتاظ وشتمه شتما قبيحاً. وقال والله لا أرضى أن يتحدث عني الناس بأني سرت في خفارة أحد غير سيفي. قال أبو نصر فقلت يا هذا أنا أوجه قوماً من قبلي يسيرون بمسيرك وهم في خفارتك. فقال والله لا فعلت شيئاً من هذا
ثم قال: يا أبا نصر! بخرء الطير تخوفني ومن عبيد العصا تخاف علي؟ والله لو أن مخصرتي هذه ملقاة على شاطئ الفرات وبنو أسد معطشون بخمس وقد نظروا إلى الماء كبطون الحيات ما جسر لهم خف ولا ظلف أن يرده. معاذ الله أن أشغل فكري بهم لحظة عين. فقلت له: قل إنشاء الله تعالى، فقال هي كلمة مقولة لا تدفع مقضياً ولا تستجلب آتياً
ثم ركب فكان آخر العهد به.) اهـ
نقف هنا لنتأمل في هذه الرواية المطولة قبل أن نقيسها إلى رواية أخرى:
يقول الخالديان إنهما كتبا إلى نصر محمد الجبلي ثم يقولان: (وأبو نصر هذا من وجوه الناس في تلك الناحية) ليس في الرواية تصريح باسم ناحية ولكن ذكرت ضمناً في نسبة أبي نصر (الجبلي). والذي أراه أنها نسبة إلى جَبُّل وهي بلدة بين النعمانية وواسط على دجلة تبعد عن النعمانية خمسة فراسخ إلى الشرق الجنوب، وعن دير العاقول ثلاثة عشر فرسخاً. فهذا الراوي من بلدة تبعد عن مقتل أبي الطيب نحو أحد عشر فرسخاً وهو صديق للشاعر وقاتله. وخلاصة روايته:
1 - أن فاتكان الأسدي خال ضبة العيني الذي هجاه أبو الطيب كان يكثر السؤال عن الشاعر ليقتله انتقاماً لأخته التي هجاها. وقد صرح بهذا لأبي نصر
2 - وأن أبا الطيب نزل على أبي نصر بجبَّل فأخبره ونصحه بالحذر فلم يقبل. واحتقر فاتكا وقومه احتقاراً شديداً وغلا في كلامه غلواً لا يليق برجل عاقل
وفي خزانة الأدب نقلاً عن الإيضاح رواية أخرى نصها:
(وأخبرنا أبو الحسن السوسي في دار الوقف بين السورين، قال: كنت أتولى الأهواز من قبل المهلبي. وورد عليه المتنبي ونزل عن فرسه ومقوده بيده وفتح عيابه وصناديقه لبلل مسها في الطريق وصارت الأرض كأنها مطارف منشورة. فحضرته أنا وقلت قد أقمت للشيخ نزلاً. فقال المتنبي إن كان ثم فهاته. ثم جاء فاتك الأسدي يجمع وقال قدم الشيخ هذه الديار وشرفها بشعره والطريق بينه وبين دير قُنّة موحش قد احتوشته الصعاليك وبنو أسد يسيرون في خدمته إلى أن يقطع هذه المسافة، ويبر كل واحد منهم بثوب بياض. فقال المتنبي ما أبقى الله بيدي هذا الأدهم وذباب الجراز الذي أنا متقلده فإني لا أفكر في مخلوق. فقام فاتك ونفض ثوبه من رتوت الأعاريب الذين يشربون دماء الحجيج حسوا سبعين رجلاً ورصدوا له. فلما توسط المتنبي الطريق خرجوا عليه، الخ)
هذه الرواية تؤيد الأولى في أن أبا الطيب أبى أن يسير في خفارة أحد، وتخالفها في أن فاتكا هو الذي عرض على الشاعر أن يخفره. ومعنى هذا أنه ما كان مبيتاً شراً له وأنه لو قبلت خفارته ما قتله. وفي الرواية مطاعن:
فقول: أبي الحسن السوسي: (كنت أتولى الأهواز من قبل المهلبي الخ. يؤخذ منه أن مرور أبي الطيب بالأهواز كان في عهد المهلبي، والمهلبي توفي سنة 352 كما تقدم
ولو أن فاتكا لقي أبا الطيب في الأهواز فعرض عليه خفارته فأبى فعزم على قتله أو سلبه ما صبر عليه حتى قطع المسافة من الأهواز إلى واسط وهي خمسون فرسخاً، ثم سار من واسط حتى جاوز النعمانية، كما سيأتي، وذلك أكثر من عشرين فرسخاً.
وقول فاتك إن الطريق إلى دير قنة موحش بعيد أن يقال في الأهواز وبينها وبين دير قنة مراحل كثيرة وبلدان عامرة، وإنما يقال مثل هذا في موضع قريب من دير قنة النعمانية أو جبل.
ثم عرض فاتك خفارته على أبي الطيب وفي نفسه منه ما فيها مستبعد كذلك
فرواية أبي نصر أجدر بالقبول بعد حساب المبالغة فيها كقول أبي الطيب عن بني أسد (ابخرء الطير تخوفني الخ.) فالرجل مهما تكبر وتهور كان أعقل من أن يقول مثل هذا القول: وأحسب أبا نصر حينما سئل عن مقتل أبي الطيب أراد أن يبين عن نصيبه في هذه القصة التي يتشوف الناس إلى سماعها فأدخل شيئاً من الصنعة، ومبالغة القصاص، وبالغ في نصحه أبا الطيب وفي إباء هذا قبول النصيحة وهكذا
- 2 -
سار أبو الطيب من الأهواز إلى واسط فنزل بها، قال علي ابن حمزة البصري عن القصيدة الكافية التي ودع بها الشاعر عضد الدولة: (هذه القصيدة آخر شعر قاله أبو الطيب. وكتبتها والتي قبلها عنه بواسط يوم السبت لثلاث عشرة بقيت من شهر رمضان سنة أربع وخمسين وثلاثمائة)
بين واسط وبغداد زهاء أربعين فرسخاً، وعلى الطريق بلاد نذكر منها ما ذكر في روايات مقتل أبي الطيب: وهي النعمانية ودير قُنىّ ودير العاقول والصافية
النعمانية في نصف الطريق بين واسط وبغداد غربي دجلة وهي قائمة اليوم. وكانت تسمى بغيلة فأعيد أسمها القديم. ودير العاقول كان على شاطئ دجلة الشرقي، وكان عنده مدينة مسماة باسمه، وكان على ميل من النهر أيام ياقوت. وبينه بين بغداد 15 فرسخاً، وبينه وبين النعمانية زهاء خمسة فراسخ
وإلى الجنوب الشرقي من دير العاقول على مقربة منه دير مرماري الذي يسمى دير قُنىّ أو (قُنّه) وهو على 16 فرسخاً من بغداد يبعد على الشاطئ قليلا
وأمام دير قُنى على الشاطئ الصافيةُ على فرسخين إلى الجنوب والشرق من دير العاقول. وكانت على ميل من الشاطئ في زمن ياقوت.
وعلى نحو ثمانين كيلاً من بغداد إلى الجنوب والشرق توجد اليوم أرض تسمى أرض الدير. ذهبت إليها يوم الجمعة الثاني والعشرين من ربيع الأول سنة خمسة وخمسين وثلاثمائة. فإذا تلال كثيرة متقاربة قليلة الارتفاع عليها حطام من الآجر والخزف تبعد عن شاطئ دجلة الشرقي نحو كيل واحد
وقد سألت أعراباً نازلين هناك من قبيلة شّمر عن أرض أخرى تسمى أرض الدير في هذه الناحية فنفوا هذا. وسألت عن أسماء العاقول وقنى والصافية، أتعرف اليوم هي أو ما يقرب منها؟ فنفوا جازمين
وإذا نظرنا إلى المسافة بين هذه الأرض وبغداد فهي تقارب خمسة عشر فرسخاً. وهي المسافة المقدرة بين بغداد ودير العاقول في معجم البلدان وغيره
ومهما يكن فأكبر الظن أن هذه التلال بقايا دير قنى أو دير العاقول. وكانا متقاربين، وهذا يدل على أن دجلة لم تغير مجراها كثيراً في هذه الناحية
وأما الصافية فأحسب موضعها الآن في مجرى النهر، فقد كانت أيام ياقوت على ميل من دير قنى، ويؤيد هذا القول صاحب مراصد الإطلاع عن الصافية، (وقيل موضع دجلة)
- 3 -
الروايات في مقتل أبي الطيب متفقة في جملتها، ولكن بعضها أبين وأكثر تحديداً من بعض، وهي في التحديد قسمان:
1 - روايات تجعل مقتله قرب النعمانية أو قرب دير العاقول دون ذكر الموضع الذي قتل به
2 - روايات تذكر الصافية على أنها موضع القتل أو قريبة منه وهي على مقربة من دير العاقول، بينه وبين النعمانية، فليست تناقض الروايات الأولى، بل تزيد عليها تحديداً 3 - رواية ابن خلكان التي تحاول الجمع بين الروايات فتقول: (بالقرب من النعمانية في موضع يقال له الصافية من الجانب الغربي من سواد بغداد عند دير العاقول بينهما مسافة ميلين)
وحق أن الصافية قريبة من دير العاقول ولكنها ليست قريبة من النعمانية إلا قرباً نسبياً
4 - رواية ابن جني ونسخة بغداد ونسخة في الموصل تذكر مكاناً محرّفاً مضطرباً بين فرع ونيزع وشرع. ولم أجد لها ذكراً في الكتب
يستطيع الباحث بعد هذا أن يقول إن أبا الطيب قتل على مقربة من الصافية، ولكن ابن خلكان وابن الأنباري يقولان: (من الجانب الغربي من سواد بغداد) والصافية على الشاطئ الشرقي، فكيف هذا؟
رواية ابن خلكان متناقضة بلا ريب، فهو يقول في موضع يقال له (الصافية من الجانب الغربي) وهذا خطأ، وأحسبه اتبع ابن الأنباري فالعبارتان متقاربتان. فهل عبارة ابن الأنباري مقبولة؟
هو يقول (حيال الصافية من الجانب الغربي) فيمكن أن يقال إن مقتل الشاعر في الجانب الغربي حيال الصافية على الضفة الشرقية - وكلمة حيال هذه صحفت في بعض الروايات إلى جبال وليس عند الصافية جبال
يمكن قبول رواية ابن الأنباري بهذا التفسير لو لم نعرف الطريق بين واسط وبغداد أتساير الضفة الشرقية أم الغربية من دجلة، ولكننا نعرف من كتب المسالك أن الطريق شرقي دجلة. وقد عرفنا أنه مر بجبّل وليس لنا أن نفرض أنه سار شرقي النهر من واسط إلى جبل حيث نزل على ابن نصر ثم عبر إلى النعمانية ليعبر إلى الشرق مرة أخرى
وخلاصة هذه الكلمة أن جمع هذه الروايات ونقدها وتعّرف مواقع البلاد التي ذكرت في الروايات والطريق بين واسط ودار الخلافة. كل أولئك يبين لنا أن مقتل أبي الطيب كان عند الصافية شرقي نهر دجلة على نحو ستة عشر فرسخاً من بغداد
- 4 -
سار أبو الطيب من واسط يؤم بغداد في طريقه إلى الكوفة وكان مسيره يوم السبت سابع عشر رمضان. وفي هذا اليوم كتب عنه علي بن حمزة البصري روايته القصيدتين الأخيرتين من شعره كما تقدم
وبلغ جبّل بعد أن سار زهاء سبعة عشر فرسخاً فنزل عند أبي نصر الجبلي كما تقدم. ثم أخذ طريقه حتى حاذى النعمانية وهي في نصف الطريق بين واسط وبغداد ثم سار فمر بجرجرايا على أربعة فراسخ إلى الجنوب والشرق من دير العاقول ثم تقدم حتى قارب الصافية وبينه وبين بغداد ستة عشر فرسخاً
وهنالك خرج عليه فاتك بن أبي جهل الأسدي خال ضبة ابن يزيد الذي هجاه أبو الطيب. وكان فاتك في نيف وثلاثين فارساً رامحين وناشبين وكان مع أبي الطيب ابنه محسد وغلمانه الذين وصفهم في القصيدة الميمية التي رثى فيها فاتكا وفي قصيدة توديع ابن العميد كما تقدم
ولا ندري كم كان غلمانه ولكنهم كانوا ولا ريب أقل عدداً من عدوهم
قاتل الشاعر الشجاع حتى قتل. وقتل ابنه. وأكثر الروايات تخص من بين غلمانه غلامه مفلحاً. وفي الخزانة أنهم قتلوا كل من كان معه. وما أحسب الغلمان ثبتوا كلهم بعد قتل سيدهم. وفي رواية الخزانة أيضاً (وحمل فاتك على المتنبي وطعنه في يساره ونكسه عن فرسه. وكان ابنه أفلت إلا أنه رجع يطلب دفاتر أبيه فقنع خلفه الفرس أحدهم وحز رأسه)
(قال أبو نصر: ولما صحّ خبر قتله وجهت من دفنه ودفن ابنه وغلمانه وذهبت دماؤهم هدراً)
ردي حياض الردى يا نفس واتركي ... حياض خوف الردى للشاء والنعم
إن لم أذرك على الأرماح سائلة ... فلا دعيت ابن أم المجد والكرم
عبد الوهاب عزام
مجلة الرسالة - العدد 160
بتاريخ: 27 - 07 - 1936