مصادر الأخبار:
وإن المصادر الرئيسية الهامة التي تدور حول سبأ وحمير لهي (أولا) تلك المسماة بالنقوش الحميرية، و (ثانيا) الأحاديث المنقولة في الغالب عن الأساطير والتي أبقاها لنا الأدب الإسلامي. وبالرغم من أن اللغة العربية الجنوبية قد ثبتت أقدامها في بعض الأماكن الجنوبية القاصية حتى عهد النبي أو بعده بقليل، إلا أنها أخذت تضمحل من أمد بعيد بتقوى لغة الشمال الجزلة الرائعة ثم أخذت منذ ذلك الحين تبسط سلطانها دون أن تجد لها منافسا في رحاب شبه الجزيرة، ولكن يجب أن نذكر أن اللغة السابقة لم تتلاش نهائيا. وقد حدث في القرن السادس الميلادي أن أناخ راكب بدوي بعيره وأخذ يتفرس في دهشة في بعض نقوش غريبة على حائط صخري، وقارن بين هذه النقوش العجيبة التي كاد الدهر أن يطمس معالمها وبين البقايا غير الواضحة تماما للأراضي المجاورة، التي كانت تفيض بالذكريات الجميلة. ويسمى المؤلفون المسلمون هذه الخطوط بالمسند، وإن قليلا من المسلمين كانوا يستطيعون قراءة حروف هجاء العربية الجنوبية، بل كانوا ذوي دراية بمبادئ وقواعد علم الإملاء أيضاً، وهذا يظهر لنا بجلاء من عبارة وردت في الكتاب الثامن من الإكليل للهمداني، ومع أنهم قد استطاعوا تفسير أسماء الأعلام والتعرف إلى مدلول الكلمات، إلا أنه لم تكن لديهم معلومات ثابتة عن اللغة نفسها، وسأشرح فيما بعد كيف كشفت هذه النقوش مرة ثانية بفضل بعض الرحالة الأوربيين، وكيف فسرت وأولت حتى غدوا على بينة منها قادرين على اتخاذها أساسا للبحث التاريخي، وما هي النتائج التي جنوها من دراستهم لهذه الناحية؛ ولكن قبل أن نأخذ في شرح ذلك أرى من الضروري أن أقول لماذا استعملت لفظ (العربية الجنوبية) أو (السبئية) القليل التداول بدلا من (الخطوط الحميرية) و (اللغة الحميرية): ذلك أن كلمة (حمير) ليست دقيقة إذا أردنا بها لغة هذه النقوش أم النقوش ذاتها؛ أما من ناحية اللغة فلم تكن خاصة بأهل حمير، بل كان يتكلمها كل قبائل اليمن المختلفة وأهل سبأ ومعين أيضاً، وإن اختلفت اللهجات في كل جهة عن الأخرى. وقد أطلق المسلمون على لغة اليمن القديمة اسم (الحميرية) لسبب بسيط، ذلك أن الحميرين كانوا أقوى جنس سكن هذه البلاد خلال القرون الأخيرة السابقة لظهور الإسلام. ولو كانت جميع الآثار المكتشفة ترجع إلى عصر السيادة الحميرية لسمعنا عنها في شيء من اليقين فيمن خلفهم، ولكن الحقيقة هي أنها ترجع إلى عهد سحيق أيام العصور الأولى التي يرجع بعضها إلى القرن الثامن قبل الميلاد، وربما كان بل تأسيس الإمبراطورية الحميرية بألف عام، كما أن لفظ (سبئ) لا يوضح المقصود تماما لأنه يغلب استعماله لاسم شعب أكثر من أن يكون لقبا سياسيا، وعلى كل فأني أفضل لفظ (عرب الجنوب) على كل ما عداه.
ومن أول رواد البحث والتنقيب في بلاد اليمن العالم كارستن نيبوهر الذي قام بدافع نفسه وللذته الخاصة بإماطة اللثام عن النقوش. وقد طبع عام 1772م كتابه المسمى وقد رن صدى اكتشافاته في مجامع أوروبا العلمية ورجح الظن بأن حمير وجدت في بقايا مدينة شهيرة باسم ظفار وفي ذات مرة لقيه أحد الهولنديين الذين اعتنقوا الدين الإسلامي وأطلعه على نسخة من النقوش جمعت كل الحروف الهجائية التي لم تكن معروفة من قبل، ولكن - كما يقول - (أصابتني حمى عنيفة في تلك الآونة، وكنت أستعد بين كل لحظة وأخرى للموت أكثر مما أعد نفسي لجمع النقوش القديمة) وبهذا ضاعت فرصة عظيمة، ولكن الدهشة عادت ثانية إذا اكتشف البحاثة عام 1810 عدة خطوط في جوار ظفار ونسخها بيده، ولكن ما يؤسف له أن السرعة التي لازمت المكتشف جعلت المنسوخ غير متقن الضبط تماما. وقد اشترى أيضاً رسما أخذه معه وانكب عليه في أوقات فراغه ناسخا أياه، غير أن جهله للروح الأصلية أوقعه في عدة أخطاء في الحروف، وبذلك لم تكن النتائج التي توصل إليها ذات قيمة تذكر. وإن أول منسوخات قيمة للنقوش العربية الجنوبية وصلت إلى أوربا على أيدي الضباط الإنكليزي المشتغلين بحراسة الشواطئ الجنوبية والغربية لبلاد العربي وفي سنة 1838 طبع الليفتنانت ج. ر. وللستد نقوش حصن الغراب ونقب الحجر في كتابه المسمى وإذا ذاك خطأ أميل روديجر أستاذ اللغات الشرقية بجامعة هل (اعتمادا على مخطوطين في مكتبة برلين الملكية جمعت فيهما كل حروف الهجاء الحميرية) خطأ أول خطوة في سبيل الكشف الصحيح، فدحض الفكرة القائلة بأن خط العربية الجنوبية يجري من اليسار إلى اليمين، تلك الفكرة التي أقرها (دي ساسي) وصادفت قبولا عاما، كما أظهر روديجر أكثر من ذلك ان آخر كل كلمة كان ينتهي بخط عمودي، وإن نقوش ولِلَّسِتدْ قد ألقت بصيصا من النور على صنعاء، وفسر رموزها وروديجر كل منها مستقلا عن الآخر عام 1841م.
وتقاسمت إنجلترا وألمانيا فخر الكشف عن هذه النقوش، ولكن لم تكد تمضي بضع سنين حتى كانت فرنسا ثالثتهما، وسرعان ما مضت قدما في هذا السبيل وتكللت بحوثها بالفوز العظيم ونالت قصب السبق. وفي عام 1843 بدأ توماس أرنود التنقيب والبحث بادئا من صنعاء، ونجح في الكشف عن بقايا مأرب مدينة سبأ القديمة الشهيرة، ولم يعبأ بتقهقر صحته، بل نسخ ما يقرب من خمسين أو ستين مخطوطا نشرت بعد ذلك في الجريدة الأسيوية وقد عثر في أسيندر على مترجم ماهر، وفي سنة 1870 تنكر العالم اليهودي واخترق (الجوف) شرق صنعاء التي لم يخترقها أوربي قبله منذ سنة 24 ق. م حينما قاد ? جيشا رومانيا من نفس الطريق، وقد توصل هذا المكتشف إلى نتائج أكثر أهمية بعد أن لاقى كثيرا من المتاعب والأهوال الخطرة، ثم تمكن هاليفي أن يعود بعد أن نسخ قرابة سبعمائة مخطوط، وفي أثناء ربع القرن الأخير جمع أشياء أكثر أهمية بينما انكباب براتوريوس وهاليفي وميللر وموردتمان وغيرهم على البحث أزاد معلوماتنا عن لغة وتاريخ وديانة عرب الجنوب في العصر السابق للإسلام.
ولا يمكن القول بأن هناك دقة ما سواء في أسماء الحكام الحميريين - كما يظهر ذلك مما كتبه المؤرخون المسلمون - أم في الترتيب الذي جرت عليه في وضعها، ولو كان هؤلاء أشخاصا تاريخيين لكان لهم ذكر فيما بعد، والأرجح أنهم كانوا أمراء غير ذوي أهمية أرجعتهم القصص إلى العصر القديم وخلعت عليهم نعوت العظمة، وعلى من يعتوره الشك في هذا أن يقارن الصحف الحديثة بتلك التي استنبطت من النقوش وقد جمع د. هـ. موللير أسماء ثلاثة وثلاثين ملكا من ملوك سبأ، كما تكرر كثيرا ورود بعض الأسماء - وهذا دليل على قيام الأسر الحاكمة - وكانت تخلع عليهم الألقاب للأبهة، وقد نجد كثيرا من هذا في ذَمَرْ عَلِى ذِرِّيحْ (الفخم) ويَثَعَمَرْ بَيِّن (السامي) وكَرِيَبِعيلْ وَتَاريُهَنْعِمْ (أي العظيم المنّاح) وسمهعلي ينوف. أضف إلى هذا أن الملوك كانوا يحملون ألقابا عدة في المراسلات تنبئ عن عصور ثلاثة في تاريخ البلاد العربية كمكرب سبأ أو ملك سبأ وملك سبأ وريدان، وبهذه الطريقة يمكننا أن نحدد على وجه التقريب عصر المباني والنقوش المختلفة، وأن نظهر أنها لا تنتمي إلى العصر المسيحي، ولكنها تسبقه أحيانا بثمانية قرون على الأقل.
وإن البون الشاسع الذي يفصل بين قوم سبأ وحمير المحبين للتجارة والسلام وبين العرب الهمج الذين بعث فيهم محمد (صلعم) ليظهر على أشده في خضوع الأولين لآلهتهم التي تعد أساس الآثار الجنوبية العربية كما ذكر ذلك جولد زيهر.
فكان الأمير يشيد معبدا للآلهة شكرا لنصرها إياه على أعدائه ويبارك الكاهن أبناءه وممتلكاته؛ أما المحارب الذي فاز بقتل أعدائه أو بالأسلاب أو بنجاته من المنية فيقدم فروض الشكر ويتوسل في ضراعة أن يكون على الدوام متقلبا في أعطاف رعايتها. وكانوا يعتقدون أن الموتى يعيشون سعداء تحت رحمة إلهية كما كانوا يوقرونهم بل ويعيدونهم أحيانا، وإن العبارة التالية التي ترجمها الكولونيل لهي أوضح مثال على هذا وهي: (لقد تقدم سعد الله وبنوه بنو مرثد بهذه اللوحة إلى مقه هران (سيد الأوَّام ذو عِران أَلِى) الذي تفضل بسماع الرجاء المرفوع إليه حينما أهدى إليه بنو مرثد أول ثمار أرض أرهقم وان مقه هران قد تعهد بحماية سهول ومراعي هذه القبيلة في مساكنهم لقاء ما يقدمونه إليه من الهدايا الكثيرة طول العام، والحق أن أبناء سعد الله سينزلون أرض أرهقهم وسيقربون الضحايا في حرمي عشتر وشمس وسيكون هناك قربان آخر في هران (وكلا العملين بغية أن يتكفل حروت بحماية حقول بني مرثد، والتفضل بسماع شكواهم) وكذلك تقرب القرابين في معبد مقه حروت، وبمقتضى ذلك يتهيأ له المحافظة عليهم بناء على السنة التي ابتع نهجها سعد الله والتي شاهدها في معبد مقه النعمان، أما مقه هران فقد وقى أرض أرهقم الخصبة من الصقيع والطوارئ أو بعبارة أخرى من البرد القارس والحر اللافح)
وقبل أن أختم هذا البحث القائم على البيان الناص عن نقوش العربية الجنوبية لابد لي من أناشد فطنة قرائي الذين يعلمون كم يكون من الصعب أن يكتب المرء بوضوح ودقة عن موضوع ليست مصادره الأولى في متناول يده، خاصة إذا كانت نتائج البحث السابق تنقض على الدوام بيد العاملين الحديثين في نفس الميدان.
ومن حسن الطالع أن يكون تحت يدنا مرجع دقيق واف لتلك البقايا القليلة الناقصة؛ فمعلوماتنا عن جغرافية بلاد العرب الجنوبية وعن الآثار والتاريخ القصصي مستقى جلها من كتابات شخصين من أهل اليمن تفيض كتاباتهما بالحماسة للمجد القديم والفخر به، وتعتبر أقوالهما - المتضاربة بين الحق والخرافة - من وجهة النظر الحاضرة - عملا له قيمته، وهذا الكاتبان هما حسن بن أحمد الهمداني ونشوان بن سعيد الحمير، وفضلا عن كتاب جغرافية العرب القيم المسمى (صفة جزيرة العرب) الذي طبعه د. هـ. موللير، فقد ترك لنا الهمداني كتابا عظيما آخر في تاريخ اليمن وآثارها، ذلك هو (الإكليل) وينقسم إلى عشرة كتب هذا بيانها.
الكتاب الأول: موجز تاريخ أصل الإنسان ونشأته
الكتاب الثاني: تاريخ نسب الهميسع بن حمير
الكتاب الثالث: بخصوص صفات قحطان الممتازة
الكتاب الرابع: بخصوص العصر الأول من التاريخ إلى حكم تبع أبي بكر
الكتاب الخامس: بخصوص العصر المتوسط من عهد أسعد تبع إلى عهد ذي نواس
الكتاب السادس: بخصوص العهد الأخير حتى ظهور الإسلام
الكتاب السابع: نقد البدع الفاسدة والروايات الكاذبة
الكتاب الثامن: القلاع والمدن والقبور التي شيدها الحميريون وشعر علقمة والمراثي والنقوش وغيرها
الكتاب التاسع: ويتضمن حكم الحميرين وأمثالهم في اللغة الحميرية وأحرف هجاء النقوش
الكتاب العاشر: بخصوص نسب قبيلتي حاشد وبقيل (كبيرتي قبائل همدان)
(يتبع)
ترجمة حسن حبشي
مجلة الرسالة - العدد 176
بتاريخ: 16 - 11 - 1936
وإن المصادر الرئيسية الهامة التي تدور حول سبأ وحمير لهي (أولا) تلك المسماة بالنقوش الحميرية، و (ثانيا) الأحاديث المنقولة في الغالب عن الأساطير والتي أبقاها لنا الأدب الإسلامي. وبالرغم من أن اللغة العربية الجنوبية قد ثبتت أقدامها في بعض الأماكن الجنوبية القاصية حتى عهد النبي أو بعده بقليل، إلا أنها أخذت تضمحل من أمد بعيد بتقوى لغة الشمال الجزلة الرائعة ثم أخذت منذ ذلك الحين تبسط سلطانها دون أن تجد لها منافسا في رحاب شبه الجزيرة، ولكن يجب أن نذكر أن اللغة السابقة لم تتلاش نهائيا. وقد حدث في القرن السادس الميلادي أن أناخ راكب بدوي بعيره وأخذ يتفرس في دهشة في بعض نقوش غريبة على حائط صخري، وقارن بين هذه النقوش العجيبة التي كاد الدهر أن يطمس معالمها وبين البقايا غير الواضحة تماما للأراضي المجاورة، التي كانت تفيض بالذكريات الجميلة. ويسمى المؤلفون المسلمون هذه الخطوط بالمسند، وإن قليلا من المسلمين كانوا يستطيعون قراءة حروف هجاء العربية الجنوبية، بل كانوا ذوي دراية بمبادئ وقواعد علم الإملاء أيضاً، وهذا يظهر لنا بجلاء من عبارة وردت في الكتاب الثامن من الإكليل للهمداني، ومع أنهم قد استطاعوا تفسير أسماء الأعلام والتعرف إلى مدلول الكلمات، إلا أنه لم تكن لديهم معلومات ثابتة عن اللغة نفسها، وسأشرح فيما بعد كيف كشفت هذه النقوش مرة ثانية بفضل بعض الرحالة الأوربيين، وكيف فسرت وأولت حتى غدوا على بينة منها قادرين على اتخاذها أساسا للبحث التاريخي، وما هي النتائج التي جنوها من دراستهم لهذه الناحية؛ ولكن قبل أن نأخذ في شرح ذلك أرى من الضروري أن أقول لماذا استعملت لفظ (العربية الجنوبية) أو (السبئية) القليل التداول بدلا من (الخطوط الحميرية) و (اللغة الحميرية): ذلك أن كلمة (حمير) ليست دقيقة إذا أردنا بها لغة هذه النقوش أم النقوش ذاتها؛ أما من ناحية اللغة فلم تكن خاصة بأهل حمير، بل كان يتكلمها كل قبائل اليمن المختلفة وأهل سبأ ومعين أيضاً، وإن اختلفت اللهجات في كل جهة عن الأخرى. وقد أطلق المسلمون على لغة اليمن القديمة اسم (الحميرية) لسبب بسيط، ذلك أن الحميرين كانوا أقوى جنس سكن هذه البلاد خلال القرون الأخيرة السابقة لظهور الإسلام. ولو كانت جميع الآثار المكتشفة ترجع إلى عصر السيادة الحميرية لسمعنا عنها في شيء من اليقين فيمن خلفهم، ولكن الحقيقة هي أنها ترجع إلى عهد سحيق أيام العصور الأولى التي يرجع بعضها إلى القرن الثامن قبل الميلاد، وربما كان بل تأسيس الإمبراطورية الحميرية بألف عام، كما أن لفظ (سبئ) لا يوضح المقصود تماما لأنه يغلب استعماله لاسم شعب أكثر من أن يكون لقبا سياسيا، وعلى كل فأني أفضل لفظ (عرب الجنوب) على كل ما عداه.
ومن أول رواد البحث والتنقيب في بلاد اليمن العالم كارستن نيبوهر الذي قام بدافع نفسه وللذته الخاصة بإماطة اللثام عن النقوش. وقد طبع عام 1772م كتابه المسمى وقد رن صدى اكتشافاته في مجامع أوروبا العلمية ورجح الظن بأن حمير وجدت في بقايا مدينة شهيرة باسم ظفار وفي ذات مرة لقيه أحد الهولنديين الذين اعتنقوا الدين الإسلامي وأطلعه على نسخة من النقوش جمعت كل الحروف الهجائية التي لم تكن معروفة من قبل، ولكن - كما يقول - (أصابتني حمى عنيفة في تلك الآونة، وكنت أستعد بين كل لحظة وأخرى للموت أكثر مما أعد نفسي لجمع النقوش القديمة) وبهذا ضاعت فرصة عظيمة، ولكن الدهشة عادت ثانية إذا اكتشف البحاثة عام 1810 عدة خطوط في جوار ظفار ونسخها بيده، ولكن ما يؤسف له أن السرعة التي لازمت المكتشف جعلت المنسوخ غير متقن الضبط تماما. وقد اشترى أيضاً رسما أخذه معه وانكب عليه في أوقات فراغه ناسخا أياه، غير أن جهله للروح الأصلية أوقعه في عدة أخطاء في الحروف، وبذلك لم تكن النتائج التي توصل إليها ذات قيمة تذكر. وإن أول منسوخات قيمة للنقوش العربية الجنوبية وصلت إلى أوربا على أيدي الضباط الإنكليزي المشتغلين بحراسة الشواطئ الجنوبية والغربية لبلاد العربي وفي سنة 1838 طبع الليفتنانت ج. ر. وللستد نقوش حصن الغراب ونقب الحجر في كتابه المسمى وإذا ذاك خطأ أميل روديجر أستاذ اللغات الشرقية بجامعة هل (اعتمادا على مخطوطين في مكتبة برلين الملكية جمعت فيهما كل حروف الهجاء الحميرية) خطأ أول خطوة في سبيل الكشف الصحيح، فدحض الفكرة القائلة بأن خط العربية الجنوبية يجري من اليسار إلى اليمين، تلك الفكرة التي أقرها (دي ساسي) وصادفت قبولا عاما، كما أظهر روديجر أكثر من ذلك ان آخر كل كلمة كان ينتهي بخط عمودي، وإن نقوش ولِلَّسِتدْ قد ألقت بصيصا من النور على صنعاء، وفسر رموزها وروديجر كل منها مستقلا عن الآخر عام 1841م.
وتقاسمت إنجلترا وألمانيا فخر الكشف عن هذه النقوش، ولكن لم تكد تمضي بضع سنين حتى كانت فرنسا ثالثتهما، وسرعان ما مضت قدما في هذا السبيل وتكللت بحوثها بالفوز العظيم ونالت قصب السبق. وفي عام 1843 بدأ توماس أرنود التنقيب والبحث بادئا من صنعاء، ونجح في الكشف عن بقايا مأرب مدينة سبأ القديمة الشهيرة، ولم يعبأ بتقهقر صحته، بل نسخ ما يقرب من خمسين أو ستين مخطوطا نشرت بعد ذلك في الجريدة الأسيوية وقد عثر في أسيندر على مترجم ماهر، وفي سنة 1870 تنكر العالم اليهودي واخترق (الجوف) شرق صنعاء التي لم يخترقها أوربي قبله منذ سنة 24 ق. م حينما قاد ? جيشا رومانيا من نفس الطريق، وقد توصل هذا المكتشف إلى نتائج أكثر أهمية بعد أن لاقى كثيرا من المتاعب والأهوال الخطرة، ثم تمكن هاليفي أن يعود بعد أن نسخ قرابة سبعمائة مخطوط، وفي أثناء ربع القرن الأخير جمع أشياء أكثر أهمية بينما انكباب براتوريوس وهاليفي وميللر وموردتمان وغيرهم على البحث أزاد معلوماتنا عن لغة وتاريخ وديانة عرب الجنوب في العصر السابق للإسلام.
ولا يمكن القول بأن هناك دقة ما سواء في أسماء الحكام الحميريين - كما يظهر ذلك مما كتبه المؤرخون المسلمون - أم في الترتيب الذي جرت عليه في وضعها، ولو كان هؤلاء أشخاصا تاريخيين لكان لهم ذكر فيما بعد، والأرجح أنهم كانوا أمراء غير ذوي أهمية أرجعتهم القصص إلى العصر القديم وخلعت عليهم نعوت العظمة، وعلى من يعتوره الشك في هذا أن يقارن الصحف الحديثة بتلك التي استنبطت من النقوش وقد جمع د. هـ. موللير أسماء ثلاثة وثلاثين ملكا من ملوك سبأ، كما تكرر كثيرا ورود بعض الأسماء - وهذا دليل على قيام الأسر الحاكمة - وكانت تخلع عليهم الألقاب للأبهة، وقد نجد كثيرا من هذا في ذَمَرْ عَلِى ذِرِّيحْ (الفخم) ويَثَعَمَرْ بَيِّن (السامي) وكَرِيَبِعيلْ وَتَاريُهَنْعِمْ (أي العظيم المنّاح) وسمهعلي ينوف. أضف إلى هذا أن الملوك كانوا يحملون ألقابا عدة في المراسلات تنبئ عن عصور ثلاثة في تاريخ البلاد العربية كمكرب سبأ أو ملك سبأ وملك سبأ وريدان، وبهذه الطريقة يمكننا أن نحدد على وجه التقريب عصر المباني والنقوش المختلفة، وأن نظهر أنها لا تنتمي إلى العصر المسيحي، ولكنها تسبقه أحيانا بثمانية قرون على الأقل.
وإن البون الشاسع الذي يفصل بين قوم سبأ وحمير المحبين للتجارة والسلام وبين العرب الهمج الذين بعث فيهم محمد (صلعم) ليظهر على أشده في خضوع الأولين لآلهتهم التي تعد أساس الآثار الجنوبية العربية كما ذكر ذلك جولد زيهر.
فكان الأمير يشيد معبدا للآلهة شكرا لنصرها إياه على أعدائه ويبارك الكاهن أبناءه وممتلكاته؛ أما المحارب الذي فاز بقتل أعدائه أو بالأسلاب أو بنجاته من المنية فيقدم فروض الشكر ويتوسل في ضراعة أن يكون على الدوام متقلبا في أعطاف رعايتها. وكانوا يعتقدون أن الموتى يعيشون سعداء تحت رحمة إلهية كما كانوا يوقرونهم بل ويعيدونهم أحيانا، وإن العبارة التالية التي ترجمها الكولونيل لهي أوضح مثال على هذا وهي: (لقد تقدم سعد الله وبنوه بنو مرثد بهذه اللوحة إلى مقه هران (سيد الأوَّام ذو عِران أَلِى) الذي تفضل بسماع الرجاء المرفوع إليه حينما أهدى إليه بنو مرثد أول ثمار أرض أرهقم وان مقه هران قد تعهد بحماية سهول ومراعي هذه القبيلة في مساكنهم لقاء ما يقدمونه إليه من الهدايا الكثيرة طول العام، والحق أن أبناء سعد الله سينزلون أرض أرهقهم وسيقربون الضحايا في حرمي عشتر وشمس وسيكون هناك قربان آخر في هران (وكلا العملين بغية أن يتكفل حروت بحماية حقول بني مرثد، والتفضل بسماع شكواهم) وكذلك تقرب القرابين في معبد مقه حروت، وبمقتضى ذلك يتهيأ له المحافظة عليهم بناء على السنة التي ابتع نهجها سعد الله والتي شاهدها في معبد مقه النعمان، أما مقه هران فقد وقى أرض أرهقم الخصبة من الصقيع والطوارئ أو بعبارة أخرى من البرد القارس والحر اللافح)
وقبل أن أختم هذا البحث القائم على البيان الناص عن نقوش العربية الجنوبية لابد لي من أناشد فطنة قرائي الذين يعلمون كم يكون من الصعب أن يكتب المرء بوضوح ودقة عن موضوع ليست مصادره الأولى في متناول يده، خاصة إذا كانت نتائج البحث السابق تنقض على الدوام بيد العاملين الحديثين في نفس الميدان.
ومن حسن الطالع أن يكون تحت يدنا مرجع دقيق واف لتلك البقايا القليلة الناقصة؛ فمعلوماتنا عن جغرافية بلاد العرب الجنوبية وعن الآثار والتاريخ القصصي مستقى جلها من كتابات شخصين من أهل اليمن تفيض كتاباتهما بالحماسة للمجد القديم والفخر به، وتعتبر أقوالهما - المتضاربة بين الحق والخرافة - من وجهة النظر الحاضرة - عملا له قيمته، وهذا الكاتبان هما حسن بن أحمد الهمداني ونشوان بن سعيد الحمير، وفضلا عن كتاب جغرافية العرب القيم المسمى (صفة جزيرة العرب) الذي طبعه د. هـ. موللير، فقد ترك لنا الهمداني كتابا عظيما آخر في تاريخ اليمن وآثارها، ذلك هو (الإكليل) وينقسم إلى عشرة كتب هذا بيانها.
الكتاب الأول: موجز تاريخ أصل الإنسان ونشأته
الكتاب الثاني: تاريخ نسب الهميسع بن حمير
الكتاب الثالث: بخصوص صفات قحطان الممتازة
الكتاب الرابع: بخصوص العصر الأول من التاريخ إلى حكم تبع أبي بكر
الكتاب الخامس: بخصوص العصر المتوسط من عهد أسعد تبع إلى عهد ذي نواس
الكتاب السادس: بخصوص العهد الأخير حتى ظهور الإسلام
الكتاب السابع: نقد البدع الفاسدة والروايات الكاذبة
الكتاب الثامن: القلاع والمدن والقبور التي شيدها الحميريون وشعر علقمة والمراثي والنقوش وغيرها
الكتاب التاسع: ويتضمن حكم الحميرين وأمثالهم في اللغة الحميرية وأحرف هجاء النقوش
الكتاب العاشر: بخصوص نسب قبيلتي حاشد وبقيل (كبيرتي قبائل همدان)
(يتبع)
ترجمة حسن حبشي
مجلة الرسالة - العدد 176
بتاريخ: 16 - 11 - 1936