بهروز دهقاني مناضل يساري من تبريز (1939 – 1971م) قضى نحبه تحت التعذيب في سجون الشاه الإيراني، ابن عائلة يسارية التوجه عُرف منها عدة أسماء في فعاليات سياسة مختلفة. اختار بهروز لقب تبريزي لنشر أعماله الأدبية في الترجمة والكتابة والبحث الأدبي، ويرى بعض النقاد أن بهروز قد أغرق في توظيف الأدب خدمةً للعقائد أحياناً، الأمر الذي يُرجعه آخرون إلى الخلفية السياسية التي طبعت نشاط بهروز قبل أن يصبح أديباً.
بهروز تبريزي كتب باللغة الفارسية في وقت لم يتمكن فيه الكثير من أبناء اللغة الآذرية في إيران من الإبداع بلغة أخرى، وهذا ما ساهم في الشهرة التي حازها بهروز في مختلف المدن الإيرانية آنذاك. قصة “الجراد” تعتبر إحدى أبرز أعمال بهروز تبريزي، حيث ينتقد من خلالها البيروقراطية وينقل بأسلوب رمزي بسيط معاناة الفلاحيين الذين يقطنون القرى في ظل الفقر وطغيان الجهل وإهمال الحكومة لهم.
ت وت: ديانا محمود
****
الجراد
كان محصولنا في تلك السنة جيد، في بداية الأمر لم يكن كذلك، فقلة الامطار كادت أن تجعل المحصول يابس، إلى أن هطل المطر بنعمته الوافرة وأنهى الجفاف. لم يمضِ وقت كثير حتى جاء السيل يا حسرة، وأخذ معه الكثير من الرزق. لا علينا – لأن السيل قضاء وقدر ويحدث دائماً- وبالفعل لم يحدث أمر آخر يخيفنا. على جدران القرية اتكأ الجميع في انتظار نضوج القمح، متى ما اصفر لونه سنهجم عليه. كان جدي، مصاب بنزلة برد حادة تسببت له بالشلل، يجلس إلى جانب فرن التنور مع جدتي التي تُحيك لنا جوارباً للشتاء، قلنا له:
-السنة في كل سنبلة خمسة عشرة حبة
لكنه لم يصدق، كان يقول: لم أرَ في منطقتنا سنبلة بأكثر من عشرة حبات.
كنا نرغب في حمله إلى الحقل كي يرى بعينيه ويكف عن قوله:
-نحن كلنا ملعونين، لقد غضب علينا السيد، لكنه سيأتي يوماً ما من الجبل ويعبر هنا بالقرب من السفح حيث قريتنا، سيرى شفاه الأطفال والعجائز عطشى للماء، سيدق أبواب الجميع لكي يحضر لهم الماء لكن لا أحد سيلبيه عندها سيرفع سيفه ويضرب الجبل فيغدق الماء العذب منه ويروي الجميع ثم يقطع الماء مرة ثانية فتجف عين النبع في نفس اللحظة، يمكنكم الذهاب ورؤية عين النبع كأنها كأس مزروعة في الجبل.
أخي الصغير قال له: جدي العزيز اتذكر ذلك الرجل السمين الذي جاء السنة الماضية إلى قريتنا، لقد قال إن هذه الكأس هي فوهة بركان خامد أو أنها… عندها كان يضع جدي ما في يديه جانباً ويمسك عصاه ويضرب بها إي شخص أمامه، وهنا لا يسعنا إلا الهروب منه.
لم يكن أمامنا الكثير من الوقت ثلاثة أسابيع متعبة تنتظرنا، فالقمح سينضج خلال أيام لتتموج الحقول كبحر من الذهب ينحني لكل نسمة هواء.
جمع أبي كل المناجل والمكزون والقنانة وأخذها إلى المدينة ليصقلها استعداداً للموسم، عندما عاد كان حمارنا الأسود يلتقط انفاسه، يحمل الكثير من الأغراض وكأن المائة وخمسين تومان التي اقترضها أبي من المؤسسة التعاونية فعلت له الكثير، فقد اشترى للجميع ملابس وأحذية، لأختي وأمّي اشترى تنانير حمراء وستر، سررنا جميعنا تلك الليلة لدرجة لم يغمض لنا جفن، كانت سهرة عامرة بالضحك والأحاديث والأغراض الجديدة. أختي كانت سعيدة جداً بتنورتها الحمراء الجديدة لا تتركها أبداً، تحملها معها أينما ذهبت.
في النهاية وقعت التنورة في التنور، الحمد الله لم يكن التنور ساخن جداً، انقذتها أمي بسرعة وصفعت اختي، قائلةً: مالك يا حمقاء هل أصبحت عمياء؟
انفجرت أختي باكية.
تكدر حال الجميع وذهبنا للنوم.
صباح اليوم التالي حملنا مناجلنا وذهبنا إلى الحقل، فجأة صرخ أخي الصغير ما هذه الحشرة الجميلة!
أمسك في يده جرادة خضراء اللون عيناها كبيرتان تحدق بوجوهنا.
أبي قال: هذه جرادة.
نظرنا إلى ما حولنا رأينا المكان قد امتلأ بالجراد الذي يتقافز بين سنابل القمح.
إنه الجراد!
قال أبي: يا إلهي ماذا علينا أن نفعل؟
قلتُ: لا أعرف، ما رأيك؟
قال: فلنذهب إلى مختار القرية
تعجب مختار القرية بدوره: ماذا يفعل الجراد هنا!
قال أبي: لا أعرف! تعال أسألهم بنفسك.
قال المختار: ربما أنك لست على ما يرام.
قال أبي: لديك عينان، تعال لترى بنفسك.
أمسك أبي جرادة كبيرة ورفعها نحو المختار، عدّ اقدامها، أمسك قطعة من التراب وضعها في فمها والتقط أنفاسه.
المختار: نعم هي نفسها
قال أبي: إذاً ماذا سنفعل؟
قال المختار: عليك الذهاب فوراً إلى المدينة.
قال أبي: لا أعرف أين عليّ أن أذهب، أنت تعرف أكثر مني في المدينة، أنت تعلم أين تذهب.
قال المختار: لدي الكثير من الاعمال، لا يمكنني الذهاب، عليك أنت الذهاب، كما تعلم لقد جاء وفد من الجيش لسوق العسكر، ولازالوا في منزلي، وبقرة المعلم ستلد اليوم وعليّ أن انتبه لها.
قال أبي: لكني لا أعرف أين اذهب.
قال المختار: الأمر بسيط، أسأل فقط عن دائرة الزراعة، وسيدلونك، قل لهم أن يأتوا بسرعة لإنقاذنا.
سكت أبي وعدنا إلى المنزل، كان حمارنا الأسود يجتر طعامه عندما سحب أبي لجامه وأخرجه من الاسطبل، وضعت لنا أمي زوادة في الخرج، ومضينا نحو المدينة. ومع الظهيرة وصلنا لمنتصف الطريق، لكن الجوع والعطش الذي أصابنا أوقفنا قليلاً لنأكل، حيث فتح أبي الزوادة وأكلنا الخبز والجبن الذي أعدته لنا أمي، وأكملنا طريقنا مرة ثانية نحو المدينة، وبمجرد أن وصلناها مع مغيب الشمس مضينا نحو منزل الحاج “غول ممد”.
عند الصباح الباكر شققنا طريقنا في المدينة بحثاً عن دائرة الزراعة، سأل أبي رجلاً بديناً يحمل حقيبة في يده: أين تقع دائرة الزراعة؟
وقف الرجل ووضع يده على بطنه وقال بأنفاس متقطعة: اذهب من هنا نحو شارع فردوسي ثم انعطف في شارع حافظ وامضي بشكل مستقيم لتصل إلى شارع “الآمال الزائفة”.
نظر أبي يميناً وشمالاً، ثم قال للرجل رحم الله والديك.
أمسك بيدي ومضينا، نبحث عن شارع فردوسي ثم شارع حافظ وفي النهاية وصلنا إلى دائرة الزراعة، كانت عبارة عن مبنى ضخم جداً أكبر من عمارة البيك في قريتنا، كانت جدرانها مرايا سوداء تلمع.
ذهبنا نحو اليمين ونحو اليسار بحثاً عن مدخل للمبنى لكننا لم نجده، مضينا نحو مكان كبير مليء بالسلاحف الضخمة التي جفت من شدة الحر، لكن العسكري – قبعته كانت زرقاء- صرخ بنا، وقال: يا حمار ماذا تفعل بين السيارات؟ أخرج من هنا؟ هل أتيت لتسرق العجلات؟
قال أبي: أريد الذهاب إلى دائرة الزراعة.
قال الرجل: اهرب بسرعة قبل أن تصل سيارة جمع الشحادين.
قال أبي: أنا من قرية جنت آباد، لقد هجم الجراد على قريتنا وجئنا لنخبر دائرة الزراعة.
قال الرجل: اصعد من هذا الباب
قال أبي: هيا بنا نتحرك
عبرنا من ممر ضيق معوج ووصلنا نحو صالة كبيرة فيها أكثر من عشر أو اثنى عشر باب.
طرقنا الباب الأول لم يكن هناك أحد، فتحنا الباب الثاني خرج لنا شخص وطردنا وأغلق الباب بإحكام.
في غرفة أخرى كان هناك رجل جالس يحتسي الشاي.
قال له أبي: سيدي الرئيس لقد هجم الجراد على قريتنا
وضع الرجل كأسه على الطاولة ورفع رأسه وقال: وما علاقتي بالأمر؟
-يقولون لنا..
-اذهب إلى دائرة مكافحة الآفات
خرجنا من الغرفة، في الصالة كان هناك عشرات الرجال يروحون ويغدون، بعضهم يحمل أوراق، والبعض لديه كرش ضخمة مثل كرش البيك في قريتنا. قال لي أبي: إلى أين قال لنا أن نذهب؟
قلت له: ربما قال مكافئة الفئات أو ما شابه
نظر أبي حوله ثم رأى رجل يشبهه بالشكل، سأله: أين هي مكافئة الفئات؟
قال الرجل في الطابق الخامس اصعد تلك الأدراج.
مضى أبي نحو السلالم، وانا لحقت به، كانت السلالم عالية لا تنتهي، صعدنا وصعدنا وكأننا وصلنا إلى السماء، شعرت بألم في قدمي، في النهاية وصلنا إلى مكان انتهت فيه السلالم، هنا أيضاً كان هناك أناس كثر يتحركون يميناً ويساراً. توقف أبي أمام رجل يمضي بسرعة، وسأله: أين هي مكافئة الفئات؟
توقف الرجل لحظة وحك رأسه ثم أشار بإصبعه نحو غرفة.
قال لي أبي: اجلس هنا ولا تتحرك وإلا ستضيع
جلست بالقرب من الحائط وقدماي تؤلماني، وهو دخل تلك الغرفة، لم اسمع ما حدث في الداخل، لكن أبي عاد ليخرج فجأة وقبعته في يده
قال: تعال يا جعفر، هل تذكر ذلك الجراد، ما كان لونه؟
أنا قلت: لونه أخضر، وبعضه الآخر ترابي.
عاد أبي للغرفة مرة ثانية، من شق الباب سمعت أبي يقول: ولدي يقول أنها خضراء وترابية.
قال الرجل في الغرفة: هذا لا يكفي يجب أن نعرف نوع الجراد!، هذا النوع من الاعمال يحتاج إلى دقة!، مكافحة الجراد ليست لعبة. يجب علينا أن نعرف في البداية نوعه ولونه، أنت لا تعرف هذه الأمور، نحن هنا فقط نكافح الجراد ذو اللون الأحمر.
قال أبي: ألا يمكننا أن نلون الجراد بالأحمر حتى تكافحوه لنا؟
ارتفع صوت الرجل وقال: من الناحية العلمية هذا الأمر خاطئ، عليك الذهاب إلى دائرة مكافحة الجراد الأخضر والترابي.
في دائرة مكافحة الجراد الأخضر والترابي قالوا لنا: هل أنتم متأكدون من أنها جميعه خضراء.
قال أبي: ليس أخضراً بالمطلق
نظر إليّ وقال: جعفر أنت رأيتهم ع قرب
قلت: بعضهم كان أصفر وبعضهم أخضر، كانوا عدة ألوان.
ارتفع صوت الرجل الأصلع هنا أيضاً: ألمّ أقل لكم؟، عليكم الذهاب إلى دائرة مكافحة الجراد الملون.
مضت عشرة أيام ونحن في المدينة، كانت لحظات ممتعة بالنسبة ليّ، تجولنا في الكثير من الاماكن، المدينة أكبر بكثير من قريتنا، فيها غرف عالية وملونة، وسيارات وشوارع، وكلها جميلة. في لحظة واحدة يمكن أن تعد مئة منها أمام عينيك
وكلها تجري بسرعة، لكن أبي كان حزيناً. كان يستلقي على الحصير في نزل “غول ممد” عندما نعود ويطلق الشتائم هنا وهناك، وكان يتحدث مع نفسه أحياناً. والد “غول ممد” رجل طيب كان يأتي إلينا كل ليلة، وعندما رأى أبي على هذه الحال قال له: ما بك يا خال؟ ماذا أصابك؟
قال أبي: إن المختار قال لنا أن نأتي إلى المدينة ونخبر المسؤولين أن الجراد هجم على القرية وعليهم أن يساعدونا على الفور، لعنه الله لقد رمى بنا إلى هنا ولا أعرف ماذا عليّ أن أفعل الآن؟، هل أعود إلى القرية أم اذهب مرة ثانية إلى دائرة الزراعة.
قال “غول ممد” الأمر بسيط، لماذا لم تقل ليّ منذ البداية سآتي معك غداً.
صباح اليوم التالي انطلقنا مع “غول ممد”، جال بنا بين الغرف وتحدث مع عدد من الاشخاص، وفي النهاية اصطحبنا إلى غرفة ودخل إليها مع أبي ووقفت أنا في الخارج.
جلست أمام الباب أنظر للناس، البعض كان يمضي نحو السلالم والبعض الآخر نحو الغرف، انشغلت بعدهم حتى وصلت إلى ألف وثلاثمائة واثنين وثلاثين، سمعت حينها صوت أبي وهو يخرج من الغرفة ويقول:
-ماذا يقصدون بالعينات يا “غول ممد”؟ ماذا علينا أن نفعل الآن؟
-عليك أن تذهب إلى القرية وتحضر بعضها معك مرة ثانية ليدرسوها ثم يذهبون معك إلى القرية.
سألته: هل يريدون أن يقتلوا الجراد هنا
قال أبي: هل تتوهم
قال غول ممد: لم ترَ شيئاً بعد
قبل أن تشرق الشمس امتطينا حمارنا ورحلنا عن المدينة نحو القرية.
قال أبي: الحمد الله انقذنا هذا الرجل، وإلا كان علينا أن نبقى حائرين في المدينة، عندما نصل إلى الحقول نحضر بعضها ونضعه في الكيس ونعود إلى هنا على الفور، لا حاجة لنا للذهاب إلى القرية، فعلينا أن نعود فوراً.
قلت له: نعم سنأتي لنرى مدينة الألعاب
مضينا في طريقنا حتى وصلنا إلى حقول قريتنا، لم يكن الطريق طويل جداً لكنه مليء بالحجارة.
-كأنهم حصدوا القمح
-لا فالسنابل فارغة لكن الزرع ما زال منتصباً
نظرنا حولنا لا أثر للقمح هنا
قال أبي: جعفر كأن الجراد رحل من هنا، الحمد الله لا داعي لنذهب مرة ثانية للمدينة، اقتربنا من القرية أكثر، لا شيء يذكر، وصلنا أعلى الهضبة واقتربنا من شجرة الاجاص البرية، رأينا هناك عدد من الرجال طأطئوا رؤوسهم ومضوا بهدوء بعيداً فجأة بدأوا بالقفز عالياً، وكأنهم جراد.
صرخ أبي: زامان ماذا تفعلون؟
وقف زامان للحظة ونظر إلى الهضبة رآنا، ثم صرخ: هووووو
وعاد لقفزه الغريب
من أعلى التلة كنا نرى الرجال يتقافزون منحنيي الأظهر وكأنهم جراد
صرخ أبي: هوووو
ثم انحنى ظهره وبدأ بالقفز
بهروز تبريزي كتب باللغة الفارسية في وقت لم يتمكن فيه الكثير من أبناء اللغة الآذرية في إيران من الإبداع بلغة أخرى، وهذا ما ساهم في الشهرة التي حازها بهروز في مختلف المدن الإيرانية آنذاك. قصة “الجراد” تعتبر إحدى أبرز أعمال بهروز تبريزي، حيث ينتقد من خلالها البيروقراطية وينقل بأسلوب رمزي بسيط معاناة الفلاحيين الذين يقطنون القرى في ظل الفقر وطغيان الجهل وإهمال الحكومة لهم.
ت وت: ديانا محمود
****
الجراد
كان محصولنا في تلك السنة جيد، في بداية الأمر لم يكن كذلك، فقلة الامطار كادت أن تجعل المحصول يابس، إلى أن هطل المطر بنعمته الوافرة وأنهى الجفاف. لم يمضِ وقت كثير حتى جاء السيل يا حسرة، وأخذ معه الكثير من الرزق. لا علينا – لأن السيل قضاء وقدر ويحدث دائماً- وبالفعل لم يحدث أمر آخر يخيفنا. على جدران القرية اتكأ الجميع في انتظار نضوج القمح، متى ما اصفر لونه سنهجم عليه. كان جدي، مصاب بنزلة برد حادة تسببت له بالشلل، يجلس إلى جانب فرن التنور مع جدتي التي تُحيك لنا جوارباً للشتاء، قلنا له:
-السنة في كل سنبلة خمسة عشرة حبة
لكنه لم يصدق، كان يقول: لم أرَ في منطقتنا سنبلة بأكثر من عشرة حبات.
كنا نرغب في حمله إلى الحقل كي يرى بعينيه ويكف عن قوله:
-نحن كلنا ملعونين، لقد غضب علينا السيد، لكنه سيأتي يوماً ما من الجبل ويعبر هنا بالقرب من السفح حيث قريتنا، سيرى شفاه الأطفال والعجائز عطشى للماء، سيدق أبواب الجميع لكي يحضر لهم الماء لكن لا أحد سيلبيه عندها سيرفع سيفه ويضرب الجبل فيغدق الماء العذب منه ويروي الجميع ثم يقطع الماء مرة ثانية فتجف عين النبع في نفس اللحظة، يمكنكم الذهاب ورؤية عين النبع كأنها كأس مزروعة في الجبل.
أخي الصغير قال له: جدي العزيز اتذكر ذلك الرجل السمين الذي جاء السنة الماضية إلى قريتنا، لقد قال إن هذه الكأس هي فوهة بركان خامد أو أنها… عندها كان يضع جدي ما في يديه جانباً ويمسك عصاه ويضرب بها إي شخص أمامه، وهنا لا يسعنا إلا الهروب منه.
لم يكن أمامنا الكثير من الوقت ثلاثة أسابيع متعبة تنتظرنا، فالقمح سينضج خلال أيام لتتموج الحقول كبحر من الذهب ينحني لكل نسمة هواء.
جمع أبي كل المناجل والمكزون والقنانة وأخذها إلى المدينة ليصقلها استعداداً للموسم، عندما عاد كان حمارنا الأسود يلتقط انفاسه، يحمل الكثير من الأغراض وكأن المائة وخمسين تومان التي اقترضها أبي من المؤسسة التعاونية فعلت له الكثير، فقد اشترى للجميع ملابس وأحذية، لأختي وأمّي اشترى تنانير حمراء وستر، سررنا جميعنا تلك الليلة لدرجة لم يغمض لنا جفن، كانت سهرة عامرة بالضحك والأحاديث والأغراض الجديدة. أختي كانت سعيدة جداً بتنورتها الحمراء الجديدة لا تتركها أبداً، تحملها معها أينما ذهبت.
في النهاية وقعت التنورة في التنور، الحمد الله لم يكن التنور ساخن جداً، انقذتها أمي بسرعة وصفعت اختي، قائلةً: مالك يا حمقاء هل أصبحت عمياء؟
انفجرت أختي باكية.
تكدر حال الجميع وذهبنا للنوم.
صباح اليوم التالي حملنا مناجلنا وذهبنا إلى الحقل، فجأة صرخ أخي الصغير ما هذه الحشرة الجميلة!
أمسك في يده جرادة خضراء اللون عيناها كبيرتان تحدق بوجوهنا.
أبي قال: هذه جرادة.
نظرنا إلى ما حولنا رأينا المكان قد امتلأ بالجراد الذي يتقافز بين سنابل القمح.
إنه الجراد!
قال أبي: يا إلهي ماذا علينا أن نفعل؟
قلتُ: لا أعرف، ما رأيك؟
قال: فلنذهب إلى مختار القرية
تعجب مختار القرية بدوره: ماذا يفعل الجراد هنا!
قال أبي: لا أعرف! تعال أسألهم بنفسك.
قال المختار: ربما أنك لست على ما يرام.
قال أبي: لديك عينان، تعال لترى بنفسك.
أمسك أبي جرادة كبيرة ورفعها نحو المختار، عدّ اقدامها، أمسك قطعة من التراب وضعها في فمها والتقط أنفاسه.
المختار: نعم هي نفسها
قال أبي: إذاً ماذا سنفعل؟
قال المختار: عليك الذهاب فوراً إلى المدينة.
قال أبي: لا أعرف أين عليّ أن أذهب، أنت تعرف أكثر مني في المدينة، أنت تعلم أين تذهب.
قال المختار: لدي الكثير من الاعمال، لا يمكنني الذهاب، عليك أنت الذهاب، كما تعلم لقد جاء وفد من الجيش لسوق العسكر، ولازالوا في منزلي، وبقرة المعلم ستلد اليوم وعليّ أن انتبه لها.
قال أبي: لكني لا أعرف أين اذهب.
قال المختار: الأمر بسيط، أسأل فقط عن دائرة الزراعة، وسيدلونك، قل لهم أن يأتوا بسرعة لإنقاذنا.
سكت أبي وعدنا إلى المنزل، كان حمارنا الأسود يجتر طعامه عندما سحب أبي لجامه وأخرجه من الاسطبل، وضعت لنا أمي زوادة في الخرج، ومضينا نحو المدينة. ومع الظهيرة وصلنا لمنتصف الطريق، لكن الجوع والعطش الذي أصابنا أوقفنا قليلاً لنأكل، حيث فتح أبي الزوادة وأكلنا الخبز والجبن الذي أعدته لنا أمي، وأكملنا طريقنا مرة ثانية نحو المدينة، وبمجرد أن وصلناها مع مغيب الشمس مضينا نحو منزل الحاج “غول ممد”.
عند الصباح الباكر شققنا طريقنا في المدينة بحثاً عن دائرة الزراعة، سأل أبي رجلاً بديناً يحمل حقيبة في يده: أين تقع دائرة الزراعة؟
وقف الرجل ووضع يده على بطنه وقال بأنفاس متقطعة: اذهب من هنا نحو شارع فردوسي ثم انعطف في شارع حافظ وامضي بشكل مستقيم لتصل إلى شارع “الآمال الزائفة”.
نظر أبي يميناً وشمالاً، ثم قال للرجل رحم الله والديك.
أمسك بيدي ومضينا، نبحث عن شارع فردوسي ثم شارع حافظ وفي النهاية وصلنا إلى دائرة الزراعة، كانت عبارة عن مبنى ضخم جداً أكبر من عمارة البيك في قريتنا، كانت جدرانها مرايا سوداء تلمع.
ذهبنا نحو اليمين ونحو اليسار بحثاً عن مدخل للمبنى لكننا لم نجده، مضينا نحو مكان كبير مليء بالسلاحف الضخمة التي جفت من شدة الحر، لكن العسكري – قبعته كانت زرقاء- صرخ بنا، وقال: يا حمار ماذا تفعل بين السيارات؟ أخرج من هنا؟ هل أتيت لتسرق العجلات؟
قال أبي: أريد الذهاب إلى دائرة الزراعة.
قال الرجل: اهرب بسرعة قبل أن تصل سيارة جمع الشحادين.
قال أبي: أنا من قرية جنت آباد، لقد هجم الجراد على قريتنا وجئنا لنخبر دائرة الزراعة.
قال الرجل: اصعد من هذا الباب
قال أبي: هيا بنا نتحرك
عبرنا من ممر ضيق معوج ووصلنا نحو صالة كبيرة فيها أكثر من عشر أو اثنى عشر باب.
طرقنا الباب الأول لم يكن هناك أحد، فتحنا الباب الثاني خرج لنا شخص وطردنا وأغلق الباب بإحكام.
في غرفة أخرى كان هناك رجل جالس يحتسي الشاي.
قال له أبي: سيدي الرئيس لقد هجم الجراد على قريتنا
وضع الرجل كأسه على الطاولة ورفع رأسه وقال: وما علاقتي بالأمر؟
-يقولون لنا..
-اذهب إلى دائرة مكافحة الآفات
خرجنا من الغرفة، في الصالة كان هناك عشرات الرجال يروحون ويغدون، بعضهم يحمل أوراق، والبعض لديه كرش ضخمة مثل كرش البيك في قريتنا. قال لي أبي: إلى أين قال لنا أن نذهب؟
قلت له: ربما قال مكافئة الفئات أو ما شابه
نظر أبي حوله ثم رأى رجل يشبهه بالشكل، سأله: أين هي مكافئة الفئات؟
قال الرجل في الطابق الخامس اصعد تلك الأدراج.
مضى أبي نحو السلالم، وانا لحقت به، كانت السلالم عالية لا تنتهي، صعدنا وصعدنا وكأننا وصلنا إلى السماء، شعرت بألم في قدمي، في النهاية وصلنا إلى مكان انتهت فيه السلالم، هنا أيضاً كان هناك أناس كثر يتحركون يميناً ويساراً. توقف أبي أمام رجل يمضي بسرعة، وسأله: أين هي مكافئة الفئات؟
توقف الرجل لحظة وحك رأسه ثم أشار بإصبعه نحو غرفة.
قال لي أبي: اجلس هنا ولا تتحرك وإلا ستضيع
جلست بالقرب من الحائط وقدماي تؤلماني، وهو دخل تلك الغرفة، لم اسمع ما حدث في الداخل، لكن أبي عاد ليخرج فجأة وقبعته في يده
قال: تعال يا جعفر، هل تذكر ذلك الجراد، ما كان لونه؟
أنا قلت: لونه أخضر، وبعضه الآخر ترابي.
عاد أبي للغرفة مرة ثانية، من شق الباب سمعت أبي يقول: ولدي يقول أنها خضراء وترابية.
قال الرجل في الغرفة: هذا لا يكفي يجب أن نعرف نوع الجراد!، هذا النوع من الاعمال يحتاج إلى دقة!، مكافحة الجراد ليست لعبة. يجب علينا أن نعرف في البداية نوعه ولونه، أنت لا تعرف هذه الأمور، نحن هنا فقط نكافح الجراد ذو اللون الأحمر.
قال أبي: ألا يمكننا أن نلون الجراد بالأحمر حتى تكافحوه لنا؟
ارتفع صوت الرجل وقال: من الناحية العلمية هذا الأمر خاطئ، عليك الذهاب إلى دائرة مكافحة الجراد الأخضر والترابي.
في دائرة مكافحة الجراد الأخضر والترابي قالوا لنا: هل أنتم متأكدون من أنها جميعه خضراء.
قال أبي: ليس أخضراً بالمطلق
نظر إليّ وقال: جعفر أنت رأيتهم ع قرب
قلت: بعضهم كان أصفر وبعضهم أخضر، كانوا عدة ألوان.
ارتفع صوت الرجل الأصلع هنا أيضاً: ألمّ أقل لكم؟، عليكم الذهاب إلى دائرة مكافحة الجراد الملون.
مضت عشرة أيام ونحن في المدينة، كانت لحظات ممتعة بالنسبة ليّ، تجولنا في الكثير من الاماكن، المدينة أكبر بكثير من قريتنا، فيها غرف عالية وملونة، وسيارات وشوارع، وكلها جميلة. في لحظة واحدة يمكن أن تعد مئة منها أمام عينيك
وكلها تجري بسرعة، لكن أبي كان حزيناً. كان يستلقي على الحصير في نزل “غول ممد” عندما نعود ويطلق الشتائم هنا وهناك، وكان يتحدث مع نفسه أحياناً. والد “غول ممد” رجل طيب كان يأتي إلينا كل ليلة، وعندما رأى أبي على هذه الحال قال له: ما بك يا خال؟ ماذا أصابك؟
قال أبي: إن المختار قال لنا أن نأتي إلى المدينة ونخبر المسؤولين أن الجراد هجم على القرية وعليهم أن يساعدونا على الفور، لعنه الله لقد رمى بنا إلى هنا ولا أعرف ماذا عليّ أن أفعل الآن؟، هل أعود إلى القرية أم اذهب مرة ثانية إلى دائرة الزراعة.
قال “غول ممد” الأمر بسيط، لماذا لم تقل ليّ منذ البداية سآتي معك غداً.
صباح اليوم التالي انطلقنا مع “غول ممد”، جال بنا بين الغرف وتحدث مع عدد من الاشخاص، وفي النهاية اصطحبنا إلى غرفة ودخل إليها مع أبي ووقفت أنا في الخارج.
جلست أمام الباب أنظر للناس، البعض كان يمضي نحو السلالم والبعض الآخر نحو الغرف، انشغلت بعدهم حتى وصلت إلى ألف وثلاثمائة واثنين وثلاثين، سمعت حينها صوت أبي وهو يخرج من الغرفة ويقول:
-ماذا يقصدون بالعينات يا “غول ممد”؟ ماذا علينا أن نفعل الآن؟
-عليك أن تذهب إلى القرية وتحضر بعضها معك مرة ثانية ليدرسوها ثم يذهبون معك إلى القرية.
سألته: هل يريدون أن يقتلوا الجراد هنا
قال أبي: هل تتوهم
قال غول ممد: لم ترَ شيئاً بعد
قبل أن تشرق الشمس امتطينا حمارنا ورحلنا عن المدينة نحو القرية.
قال أبي: الحمد الله انقذنا هذا الرجل، وإلا كان علينا أن نبقى حائرين في المدينة، عندما نصل إلى الحقول نحضر بعضها ونضعه في الكيس ونعود إلى هنا على الفور، لا حاجة لنا للذهاب إلى القرية، فعلينا أن نعود فوراً.
قلت له: نعم سنأتي لنرى مدينة الألعاب
مضينا في طريقنا حتى وصلنا إلى حقول قريتنا، لم يكن الطريق طويل جداً لكنه مليء بالحجارة.
-كأنهم حصدوا القمح
-لا فالسنابل فارغة لكن الزرع ما زال منتصباً
نظرنا حولنا لا أثر للقمح هنا
قال أبي: جعفر كأن الجراد رحل من هنا، الحمد الله لا داعي لنذهب مرة ثانية للمدينة، اقتربنا من القرية أكثر، لا شيء يذكر، وصلنا أعلى الهضبة واقتربنا من شجرة الاجاص البرية، رأينا هناك عدد من الرجال طأطئوا رؤوسهم ومضوا بهدوء بعيداً فجأة بدأوا بالقفز عالياً، وكأنهم جراد.
صرخ أبي: زامان ماذا تفعلون؟
وقف زامان للحظة ونظر إلى الهضبة رآنا، ثم صرخ: هووووو
وعاد لقفزه الغريب
من أعلى التلة كنا نرى الرجال يتقافزون منحنيي الأظهر وكأنهم جراد
صرخ أبي: هوووو
ثم انحنى ظهره وبدأ بالقفز
الجراد.. قصة رمزية لمناضل يساري إيراني | جاده ايران
برز الخط الفكري لليسارية العالمية بشكل واضح في الأدب الفارسي المعاصر خلال القرن العشرين. بعض الأسماء الأدبية اللامعة حملت في قلمها شذرات من الفكر اليساري،
jadehiran.com