د. لحجاب أبو جمال - قراءة لقصيدة (أخاديد الظَّلام) للشاعر والأديب السوري مصطفى الحاج حسين .

( أخاديد الظلام ) هو عبارة عن مضاف ومضاف إليه بصيغة مجازية : فالأخاديد تكون محفورة على ماهو مادي صلب وملموس مثل الجبال والهضاب .. بفعل مجرى الماء .. لكن أخاديد الشاعر هنا هي أخاديد ظلام وسواد .
يمكن تقسيم هذا النص إلى أربع حقول دلالية وتركيبية :
@ الحقل الأول حسب تقسيم النص إلى فقرات :
الفقرة الأولى :
( يهاجمني ظلي
ينقض على خطاي
يشعل القش في صوتي
ويأمرني :
لا تكمل الدرب . )
وهنا الشاعر يعيش صراعاً مريراً مع ظله الذي يهجم ويعيق مسيره .. ويخنقه ويمنعه بصيغة الأمر من مواصلة السير على الدرب. وهو صراع مرتبط بحاضر الشاعر .. وذلك لكون الشاعر وظف أفعال المضارع : يهاجمني ..ينقضُ .. يشعلُ .. مع فعل أمر " لا تكمل " .
ولعلّ الصّراع هنا صراع مع الذات .. ويبقى " الظّل " رمزاً لما يعانيه الشاعر من هواجس وقناعات فكرية تتضارب أحيانا لسبب أو لآخر وتمنعه عن مواصلة دربه .
والعلاقة بين الذات والظّل هي علاقة فيزيائية .. وهي علاقة جزء (الظّل) من كل ( الذّات ) .. وأوضح من خلال الفقرة الأولى هو أن الجزء أقوى من الكل ؟!
وذلك بالنظر إلى السلطة التي يمارسها الظل على ذات الشاعر ؟! .
@ الحقل الثاني من خلال الفقرة الثانية :
( كانت انفاسي حفرت
أخاديد الظلام
وأصابعي أمسكت نافذة الفجر
تجمّعت في دمي طيور الحنين
وتحرّكت بداخلي مراكب الانعتاق
وكنتُ قد هممتُ باشعال أمواجي
حين داهمني خراب الأجنحة
من كسّر شواطئي هو منّي !
من حطّم عليائي
هو توأم انتصاري !
أيا درب البرق التّائه
هطل دمع الهزيمة
وناحت فوق أغصاني
فواجع السراب ) .
هنا الشاعر رحل بنا إلى ماضيه المجيد والجميل والغني بالمواقف الفكرية والقوة والعزم والإصرار من أجل التحرر من المعوقات والإنعتاق والإنتصار لغد مشرق وبديل .
ولعل الحنين إلى الماضي جعله يلجأ إلى أسلوب الحكي .. والذي برع فيه بتركيز .. و بشاعرية .. وعبر أفعال الماضي ... وعبر توظيف صور بلاغية وتعابير مجازية رائعة .. مثلا :
كانت أنفاسي.. حفرت أخاديد الظلام . ( هنا الشاعر جعل للظلام أخاديد ) ؟!
و : وأصابعي أمسكت نافدة الفجر(هنا الشاعر جعل للفجر نافذة ) ؟!
و : تجمعت في دمي طيور الحنين .
و : وتحركت بداخلي مراكب الإنعتاق .
و : وكنت قد هممت بإشعال أمواجي .
وكلها صور بلاغية بليغة وتعابير مجازية استطاع الشاعر من خلالها أن يعبر بعمق عما يخالج نفسه من أحاسيس وعزم واستعداد وتحدي لواقع يعيشه ولا يرضاه .
يتابع الشاعر حكيه الشعري والشاعري .. ويعلن لنا عن حقيقة مرة هي سبب معاناته وانكسار عزائمه المتوهجة .. وهي أن سبب الإنكسار والهزيمة هو جزء من الشاعر ؟! .. وهذا الجزء الذي خذله في نظري قد يكون متعددا .. فهو الظل .. لكن بتجلياته المتنوعة : فكرية .. اجتماعية .. سياسية ألخ .
لكن ما يبهر هو نوعية التعبير البلاغي ومهارة توظيف المجاز :
مثلا : من كسّر شواطئي هو مني !
و : من حطم عليائي
هو توأم انتصاري !
ولعل خيبة وتدمير الشاعر بسبب جزء منه جعلته ينادي بحسرة ومرارة .. درب برقه ( الضوء .. النور .. الحلم .. الأمل .. الغد المشرق .. ) بجودة عالية في التعبير :
( أيا درب البرق التائه
هطل دمع الهزيمة
وناحت فوق أغصاني
فواجع السراب ) .
إنها صورة دلالية وشاعرية بليغة جدا.
@ الحقل الدلالي الثالث : من خلال الفقرة الثالثة :
( مهما ابتعدتُ عن النار
أراها تفيضُ من مساماتي
ومهما ارتحلتْ عنّي صحرائي
أجدُ رملَ الندى يهمي فوق أنفاسي ) .
هنا الشاعر انشطر في التعبيرعن ذاته وتجربته بين الماضي والحاضر .. فلا شيء يسعفه مهما حاول تجنب العراقيل والمعوقات ؟!
ودائما يتفوق شاعرنا في التعبير..البلاغة وشاعرية فائقة .
@ بين الحقل الدلالي والأخير ... من خلال الفقرة الأخيرة في النص :
( إني أحارب مجاديف الحصار
أعارك جموح رؤايَ
أحطّم أسوار يباسي
وأصعد أعالي شهقاتي
لأعلن عن ميلاد المدى
القادم بلا ريب
من تحت الرماد ) .
هنا الشاعر يعود بنا للحديث عن ذاته الآن في الحاضر بتوظيف أفعال المضارع كلها دلالة على عودة عزيمة الشاعر .. وانتعاش روح التحدي لديه لاستئناف مقاومته من أجل التحرر والإنعتاق... ومن أجل تحديده لكل العقبات التي تعيق مساره ومصيره نحو درب البرق .. ونافذة الفجر .. حيث استجمع كل قواه الفكرية والمعنوية ليعلن عن ميلاد المدى القادم بلا ريب من تحت الرماد .
في إشارة إلى " طائر الفينق " الذي ينبعث من الرماد .. ربّما .
وبذلك يكون الشاعر قد جدد عزائمه .. و تجاوز صورة الحزن والمعاناة التي طبعت النص في مراحله الأولى . . وعبر عن ذلك بلغة كلها أمل وتحدي .. وشاعرية .. وبلاغة ..جمالية . وهذا يجعل من هذا يمتلك مقومات شعرية وإبداعية ورؤى فكرية ذات جودة عالية .
هنيئاً لشاعرنا مصطفى الحاج حسين بهذا النص الرائع .
وأتمنى أن أكون قد وفقت في قراءتي له .

الدكتور : لحجاب أبو جمال



_______________________________
** أخاديد الظّلام ...
أحاسيس : مصطفى الحاج حسين .
يهاجمُني ظلّي
ينقضُّ على خطايَ
يشعلُ القَشَّ في صوتي
ويأمرُني :
- لا تكملِ الدّربَ
كانت أنفاسي حفرت
أخاديدَ الظّلامِ
وأصابعي أمسكتْ نافذةَ الفجرِ
تجمَّعتْ في دمي طيورُ الحنينِ
وتحرَّكتْ بداخلي مراكبُ الانعتاقِ
وكنتُ قَدْ هممتُ بإشعالِ أمواجي
حينَ داهمني خرابُ الأجنحةِ
مَنْ كسَّرَ شواطئي هُوَ منّي !
مَنْ حطَّمَ عليائي
هُوَ توأمُ انتصاري !
أيا دربَ البرقِ التَّائهِ
هطلَ دمعُ الهزبمةِ
وناحتْ فوقَ أغصاني
فواجعُ السّرابِ
مهما ابتعدتُ عنِ النّارِ
أراها تفيضُ من مساماتي
ومهما ارتحلتْ عنّي صحرائي
أجدُ رملَ الندى يهمي فوقَ أنفاسي
إنِّي أحاربُ مجاذيفَ الحصارِ
أعاركُ جموحَ رؤايَ
أحطّمُ أسوارَ يباسي
وأصعدُ أعالي شهقاتي
لأعلنَ عن ميلادِ المدى
القادمِ بلا ريبٍ
من تحتِ الرَّمادِ .

مصطفى الحاج حسين




011.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى