د. علي أسعد وطفة - أصوليات متمردة

تشكل الظاهرة الأصولية ظاهرة عصر متفجر بالأحداث الدموية إذ تشكل الأصولية المنطلق الفكري الاستراتيجي لمختلف الاتجاهات التعصبية التي تنحو دمويا في مجال الحياة الإنسانية المعاصرة . وليس خافيا أن العمق الأصولي يوجد في أصل كل أشكال الإرهاب والقتل والتدمير الذي يشكل ملمحا أساسيا في الزمن الذي نعيش فيه . ومن أجل فهم مختلف اشكال العنف والتطرف القائم في مجتمعاتنا يتوجب علينا أن نعمل على تفكيك الظاهرة الأصولية وفهم أبعادها الفكرية التي تشكل المنظور الدموي الباعث على توظيف العنف والقتل والإبادة ضد الإنسان والمجموعات الإنسانية العرقية أو الطائفية .

ومن أجل فهم منهجي للأصولية يتوجب علينا بداية التأمل الثاقب في مفهوم الأصولية ودلالاته المعرفية بأبعاده المختلفة وتجلياته المتنوعة. فالأصولية في جوهرها تعبير فكري أيديولوجي يقوم على تبرير مختلف أشكال التطرف الديني والعرقي والعلماني . ويمكننا في هذا السياق أن نميز بين ثلاثة مفاهيم أو مصطلحات رائجة الاستخدام في الخطاب الثقافي والسياسي للتعبير عن الأصولية وهي: الأصولية Fondamentalisme ، والسلفية Intégrisme ، والتطرف Extrémisme ؟ وقد تأخذ هذه الصيغ الثلاثية أبعادا دينية أو وضعية علمانية . ومما لا شك فيه أن هذه المفاهيم قد نشأت وترعرعت في المحاضن الثقافية الدينية ، فهي مفاهيم خرجت من رحم التعصب الديني بالدرجة الأولى وامتدت لتأخذ طابعا علمانيا وقوميا سياسيا . ومما لا شك فيه أن هذه المفاهيم الثلاثية تتداخل وتتكامل جزئيا، وتتغاير دلالة كل منها وفقا لتوظيفاتها في مختلف الأنساق الدينية والسياسية، كما تختلف باختلاف استخداماتها من قبل الباحثين والدارسين.
وبصورة عامة يمكن القول بأن السلفية الدينية Intégrisme تعني تأصيل القيم الدينية التقليدية للدين، أي التركيز على نموذج ماضوي للدين، وإحياء هذا النموذج عبر مختلف الطقوس والعبادات الدينية. والسلفيون هم أكثر من يواجه تحديات الحداثة التي تفرض نفسها على المعتقدات الدينية. ولذلك فإن أنصار هذا التيار اختاروا مرحله زاهية من مراحل تطور العقيدة الدنية التي شكلت المنصة التي بنيت عليها بناء صورة المثال الديني والعقدي الذي يتمحورون حوله. وهذا يعني أن السلفيين يفضلون العقيدة في صورتها الماضوية الزاهية الأكثر اكتمالا ونضجا على غيرها من المراحل، ويرون فيها إمكانية معالجة الأوضاع القائمة والمعاصرة للدين والعقيدة. لقد كانت هذه السلفية فكرة اليمين الكاثوليكي في الغرب ولكن هذا التوجه بدأ يزحف ويتحول إلى ممارسة دينية وفكرية لدى بعض الأديان الأخرى.

وعلى خلاف ذلك فإن الأصولية Fondamentalisme كانت شأنا بروتستانتيا ركزت على أهمية العودة إلى الكتاب المقدس في صورته المدونة ( الإنجيل) وهي عودة تفترض تجديدا في التفسير اعتراضا على الشروحات والتفسيرات الخاطئة في ممارسات الكنيسة الكاثوليكية، وهذا الأمر يمكن ملاحظته لدى المسلمين فيما يتعلق بالقرآن الكريم. أما التطرف الديني فهو يعني استخدام العنف والإرهاب في سبيل فرض الأفكار والأوضاع الدينية للأصولية أو للسلفية، وهذا يعني أن التطرف هو منهج يرتكز إلى العنف في فرض الرأي والمعتقد وقد يكون هذا العنف في أكثر أشكاله دموية كما شهدنا خلال العقود الماضية Extrémisme. ومع إمكانية التمييز بين هذه المفاهيم فإن كل منها يستخدم عمليا مكان الأخر وفي كل منها دلالة على الشدة والعنف والتسلط في المعتقد ضد الآخر .

ومن الضرورة بمكان الإشارة بأن الأصولية الدينية ظاهرة عامة لا تخص دينا بعينه. لأن هذه الحركات الأصولية تعبر في جوهرها عن توجهات إيديولوجية ودينية سياسية بالدرجة الأولى وهي تتجلى في مختلف الأديان والعقائد الدينية الكبرى في العالم سواء في الديانات الإبراهيمية (المسيحية واليهودية والإسلام) أو في الديانات الشرقية )الهندوسية Hindouisme والسيخ Sikhisme والشنتوية Shintoïsme )،
لقد استخدمت كلمة الأصولية Fondamentalisme بداية في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد اقتبست من النصوص الإنجيلية المقدسة في طبعة صدرت ونشرت بين عامي 1910-1915. وتعني الأصولية الدينية في جوهرها عملية تماهي الجماعات والأفراد مع نسق من المعايير والقيم والتصورات التي تنبثق من القانون الإلهي. وبالتالي فإن هذه المعايير والقيم ترسم بعناية وتفسر من قبل سلطة خاصة وسيطة بين الله والإنسانية.
وهنا يمكن القول بأن الأصولية الدينية بصورة تنطلق من فكرة قوامها إعادة بناء الأمة أو المجتمع على النحو الذي كان عليه هذا المجتمع في عصر الهيمنة الدينية النموذجية أو في عصر ازدهاره العقدية الدينية ونهضتها.

أصوليات دينية:
==========
لم يكن حضور العولمة وانتشارها من غير مقاومة تجلت في ردود فعل ثقافية ودينية وعرقية بعيدة المدى متعددة الاتجاهات. فالمقاومة كانت حاضرة دائما في مواجهة العولمة حيث اتخذت أشكالا متنوعة أكثرها أهمية ظهور النزعات العرقية والدينية والقومية والسياسية التي تؤكد هويتها المهددة بالضياع. حيث تشهد العولمة مثل هذه المقاومة في مختلف البلدان وفي مختلف الثقافات والجماعات العرقية، ولسان حال المقاومين يقول: إننا هنا حاضرون نمتلك قوتنا ونريد أن نحظى بهويتنا ووجودنا المتفرد، فإما أن نكون فاعلين في هذا الزمن وإما سنكون مقاومين لعولمته معلنين مركزية وجودنا في هذا العالم الذي يحتضننا. فالقيم التي تحتضنها العولمة، وهذا مؤكد، ليست هي ذاتها التي توجه حياة هذه الكيانات ذات الهوية، فالعولمة تتناقض بقيمها وتوجهاتها مع القيم الثقافية للجماعات الإنسانية بمختلف تنوعاتها العرقية والدينية والثقافية. وبالتالي فإن هذا التناقض بين منظومات القيم يجعل هذه الجماعات تشعر بالتهديد فتعمل كردة فعل طبيعية على استنفار هوياتها الثقافية والدينية والعرقية حفاظا على الكينونة والوجود إزاء عولمة زاحفة تسحق كل من يقف أمام تقدمها .

وتحتل اليوم مسألة الأصوليات الدينية اليوم كما هو الحال في الأمس مكانا مركزيا في الخطاب السياسي والفكري المعاصر، ويشكل التطرف الديني لهذه الأصوليات المقاومة هاجسا إنسانيا يقض مضاجع الأمم والشعوب في مختلف أنحاء المعمورة. وقد شكلت مسألة الأصوليات الدينية الخط الساخن والمتوهج في نسق الأبحاث والدراسات الفكرية الاجتماعية والسياسية. وقد بلغت هذه الدراسات أوجها فيما يتعلق بدرجة التراكم وعنف التحليل. وفي كل الاتجاهات التي تناولت مسألة الأصوليات نجد نوعا من عنف الخطاب الموجه إلى هذه الأصوليات حيث يقوم بعض المفكرين بصب اللعنة الأبدية على كل المظاهر الأصولية المتطرفة بينما نجد هناك بالمقابل من يبررها ويمجدها انطلاقا من القول بدورها في الانتفاضة ضد الظلم والقهر والعدوان. وما بين اللعنة والتمجيد يفقد نجد أنفسنا في دوامة وحيرة تفرض علينا البحث عن أبعاد هذه الظاهرة بصورة موضوعية تخرجنا من دائرة الخوض الذاتي وتضعنا في سياق معادلة الرصانة والموضوعية، في تناول ظاهرة التطرف الديني والأصوليات الدينية.

صعود الأصوليات:
============
وعلى الرغم من تنامي اتجاهات الحداثة والعولمة فإن هذه الأصوليات لم تشهد تراجعا في مسار تقدمها. فعلى الرغم من الحركات الكبرى الدنيوية النشطة في مختلف أنحاء العالم في العقود الأخيرة فإنه لا يمكننا القول بأن الدين قد تراجع تحت تأثير الحداثة وما بعد الحداثة. فنحن اليوم نشهد عودة قوية للدين والهويات الدينية الأصولية في مختلف أنحاء العالم وهذا ما يطلق عليه جيل كيبل Gilles Kepel تسمية انتقام الله Revanche de Dieu، ففي العالم المعاصر تأخذ العلاقة بين الإنسان والمقدس مكان القلب والصدارة. فالتجربة الدينية تستجيب لمسألة انعدام الأمن وتلبي الحاجات النفسية عند الإنسان كما تسهم في تعميق مفهوم الهوية والدلالة والمعنى في حياة الإنسان. فالدين في نسق أوضاعنا المعاصرة يمثل صرخة احتجاج ضد الظلم والقهر وزهو في هذا المسار يجسد أمل الناس في العدالة والحرية والقيم السامية. ولذا فهو باق دائما وسيتجلى في أشكال وصيغ مختلفة تختلف باختلاف الأزمان والأماكن.
ومهما يكن الأمر فإن الجماعات الأصولية تنزع في أغلبها إلى ممارسة العنف. والعنف هو السمة الغالبة والعلامة الفارقة لهذه الحركات الأصولية، وهنا بعض الاستثناءات المحدودة جدا، إذ يمكن الإشارة إلى الحركات البوذية التيبية السلمية التي غالبا ما ترفع شعار اللاعنف وذلك بتأثير العقيدة البوذية نفسها التي تشدد على رفض العنف.

وهنا يجب أن نذكر أن الأديان في جوهرها ترفض العنف وتدفع إلى التسامح والسلام، ولكن التاريخ يعلمنا أن الممارسات الدينية غالبا ما كانت تتجه إلى العنف؛ لنأخذ المسيحية والتي تتمركز عقائديا إلى جانب السلام والمحبة والتسامح، فمع أهمية هذا التمركز العقائدي التسامي فإن التاريخ يعلمنا بأن البلدان المسيحية كانت مسرحا للحروب المقدسة والحروب الصليبية في العصور الوسطى وأن العصور الوسطى المسيحية كانت أشبه بالجحيم حيث بلغ العنف المسيحي مداه في هذه المرحلة. ويمكن لنا في هذا السياق أن نقول بأن بعض النظريات التحررية تبرر الثورة المسلحة والعنف. وكذلك الحال بالنسبة للعقائد الدينية فإنها كثيرا ما تعبر عن الأفضل والأسمى ولكنها في المقابل تدعو أحيانا إلى ممارسة العنف أو الجهاد والنضال وذلك من أجل الحرية ومن أجل السلام. ومن هذه الزاوية، تطور التيارات الأصولية نظريات متكاملة تبرر العنف بأقصى أشكاله دموية.

ويمكن تفسير عملية لجوء هذه الحركات إلى العنف بعوامل متعددة، فالجماعات الدينية التي تتعرض للاضطهاد يمكنها أن تلجأ إلى ممارسة العنف ضد العنف الذي تواجهه، وهذا ينطبق على الجماعات التي تتعرض للعنف والاستغلال والاضطهاد، وتلك التي يفرض عليها قيم ومعايير منافية لهويتها ووجودها. وقد ينفجر العنف عندما يتم الخلط بين الدين والسياسة. وفي كثير من الأحيان فإن الحروب الدينية غالبا ما تنطوي على غايات سياسية واقتصادية. والأصوليون غالبا ما يحملون مطرقة الدين من أجل الوصول إلى غاياتهم السياسية.

ضد الدولة :
=======
وهنا فيما يتعلق بالهوية فإن الهوية الأصولية الدينية تقوم على مبدئين تدميرين أساسيين: يتمثل الأمر الأول في تدمير الكيان الذاتي للفرد بوصفه مواطنا أو رجلا أو امرأة، بوصفه عضوا في جماعة عرقية أو أثنية، وذلك لكي يكون أحد رعايا الأمة معلنا خضوعه المطلق لله أو النبي أو أولي الأمر. ويتمثل الأمر الثاني في نفي مشروعية الدولة القومية أو أي نوع آخر من الأنظمة السياسية الحديثة ورفضها وبناء دولة دينية دولة الله في الأرض وهي نظام يهتدي بالعقيدة الدينية. وعلى هذا الأساس من التصورات الدينية والسياسية بزغت الحركات الأصولية في العالم في القرن التاسع عشر في كل أمريكا والبلدان العربية والشرق آسيوية. ولم تنشأ هذه الحركات الأصولية على صورة ثورة أو تمرد تقليدي أو على صورة رجعية، بل نشأت كردة فعل ضد الدولة الاستعمارية في البداية ثم ضد حكومات الظل الاستعمارية ثم لاحقا ضد الدولة القومية أو العلمانية. فظهور الحركات الأصولية لم يكن في جوهره دينيا بقدر ما كان ثورة سياسية ضد الأوضاع السياسية للبلدان التي ظهرت فيها. وبعبارة أخرى جسدت هذه الحركات الأصولية انتفاضة سياسية باسم الدين والمقدس من أجل مجتمع عادل يقوم على قيم الدين وعدله ضد الدولة العلمانية وقيمها المتناقضة مع القيم الدينية. ومن جديد نقول بأن هذه الحركات لم تكن مجرد نزعة تدعو للعودة إلى الأصول أو إلى حركة رجعية تدعو إلى الماضي الديني المستنير، بل كانت حركات سياسية حقيقية هدفت إلى إحداث التغيير في المؤسسات السياسية والاجتماعية وتغيير شكل الدولة على أساس الهوية المستقلة وهي هوية الانتماء إلى الدين والعقدية الدينية.
فالأصولية وفقا لهذا التصور ولدت تحت تأثير الأزمات السياسية والاجتماعية في مختلف البلدان، حيث أخفقت هذه الدول في تحقيق نهضتها الرأسمالية أو في تحويلها الاشتراكي مما أخفقت في تحقيق أحلامها الوردية القومية. وهنا يمكن وصف الحركات الأصولية بالحركات الاجتماعية الثقافية التي تهدف إلى توكيد الهوية الدينية وتأصيل حضورها سياسيا وثقافيا. وقد وجدت هذه الحركات الأصولية في جماهير المعوّزين والفقراء والمسحوقين اجتماعيا طلائع قوتها وانتشارها.
لقد نشأت هذه الأصوليات كاستجابة ضد الممارسات الاستبدادية غير الديمقراطية للحكومات التي وجدت مساندة قوية من قبل الحكومات الغربية التي رفضت الاعتراف بهذه الحركات الأصولية ردحا من الزمن.

أصوليات إسلامية :
=========
ويشهد الشرق الإسلامي اليوم تناميا مستمرا للأصوليات الإسلامية والحركات الإسلامية الأصولية متعددة في بناها واستراتيجياتها ومواقفها من الدولة والعولمة والسياسة، فهناك الحركة الوهابية، والإخوان المسلمون، والسلفيون، والتيار الأصولي المقاوم الممثل في المقاومة الإسلامية في الجنوب اللبناني وفي غزة التي تتبنى أهدافا نضالية تحررية لا يشوبها برأينا غبار في المستوى الإنساني مع التحفظ على أيديولوجياتها الاجتماعية والفكرية غير النضالية. ولكن حركة القاعدة تشكل اليوم نموذجا فريدا للهويات الأصولية المتطرفة في العالم الإسلامي حيث يمكن التركيز عليها في التحليل كنموذج سوسيولوجية للهويات الأصولية المقاومة للعولمة والدولة .
لقد ولدت القاعدة بوصفها حركة أصولية راديكالية واتسعت هيمنتها وسطوتها في مختلف أنحاء العالم الإسلامي إن لم يكن في مختلف أنحاء العالم. وهنا يجب القول بأن الحركات الاجتماعية لا يمكن أن تولد إلا في سياقها التاريخي الداخلي، وهنا يمكن القول بأن القاعدة قد نشأت نتاجا للتصادم الجيوبوليتيكي بين كتلتين أساسيتين بين المعسكر الاشتراكي وعلى رأسه الاتحاد السوفييتي سابقا وبين المعسكر الغربي وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية. وللعلم فإن القاعدة ولدت في أفغانستان التي كانت ساحة الصراع أيام الحرب الباردة بين الشرق السوفييتي والغرب الأمريكي وقد يجهل كثير من الباحثين بأن القاعدة وجدت دعما ماديا ولوجستيا من قبل السعودية وباكستان والولايات المتحدة الأمريكية نفسها أيام الحر الباردة. وكانت المخابرات الأمريكية السرية CIA تقدم لهذه الحركة كل الدعم الممكن، ولكن في النهاية استطاعت القاعدة أن تتجاوز حدود الأهداف التي رسمت لها في البداية من قبل عرابيها وأن تتحول إلى قوة أصولية مستقلة ارتدت إلى صانعيها وأعلنت حربها المقدسة على وجودهم .
وما تتميز به القاعدة كحركة أصولية اعتمادها الكبير على العنف السياسي والاجتماعي في سبيل توكيد الهوية الدينية وحضورها المظفر. ويجب ألا ننسى أن ابن لادن زعيم هذه الحركة ومؤسسها قد قام بعملية إصلاحات واسعة في منشآت الأماكن المقدسة في المدينة وفي مكة وقد تلقى دعم الملك السعودي ومباركته آنذاك.

وما هو مهم هنا أن القاعدة لم تشغل حتى الآن بإعداد تصورات أو برامج للإصلاح الاجتماعي في المجتمعات الإسلامية. وإذا كان الجهاد قد وظف أيديولوجيا تحت عنوان النضال باسم الإسلام فإن شعار القاعدة أيديولوجيا هو توظيف الإسلام باسم النضال والكفاح، وهناك تباين جوهري كبير بين الشعارين الأيديولوجيين. ووفقا لهذا التصور امتدت نشاطات القاعدة في مختلف أنحاء العالم وشكلت لها قواعد وخلايا فكرية وعسكرية بدءا من أفغانستان إلى مختلف أنحاء العالم وصولا إلى أوروبا وأمريكا. ومن الملاحظ في هذا الخصوص أن النخب التي انضمت إلى القاعدة تنتسب إلى عائلات معروفة وقد تلقت تعليما جيدا إن لم يكن متميزا، فهناك عدد كبير من المهندسين والأطباء والفنيين والمتخصصين في مجال العلوم الطبيعية. فالقاعدة لا تعبر وفقا لهذه الوضعية عن انتفاضة الفقراء والمنبوذين والمضطهدين بل هي تعبير عن انتفاضة ثقافية ضد الهامشية الثقافية والسياسية.

وهنا يجب علينا تشديد الانتباه إلى أن القاعدة اعتمدت مفهوم الشبكة واللامركزية في فعلها ونشاطها فهو تنظيم يستمد نسغ دينامياته على النحو الذي تنتشر به العولمة. وهي شبكة تأسست من الأدنى إلى الأعلى وهذا يعني أن الجماعات الإسلامية في العالم ارتبطت بالقاعدة وتحولت إلى تنظيم القاعدة بصورة قد تكون أحيانا عفوية دون أن تقوم القاعدة نفسها أي القيادة بتنظيم هؤلاء الذين ينتسبون إليها. وهنا تكمن خطورة هذا التنظيم وقدرته على الاستمرار، وهذا يعني أن القاعدة لا تبحث عن جمهورها بل هو الجمهور الذي يأتيها ساعيا أي إنها بالتعبير السياسي تشكيل عضوي ينطلق إلى الأعلى من الأدنى، فأنصار القاعدة ينتسبون إليها بطريقة الشبكة ثم يتمركزون لاحقا حول قيادتها. وهذا في النهاية يعني أن القاعدة شبكة واسعة على صورة حركة سياسية دينية تنظم حول فكرة وتمتلك أيديولوجيا مقنعة مستمدة بصورة ما من الفكر الديني الإسلامي وهي فكرة مقنعة بالنسبة لغالبية المسلمين وذلك عندما يتعلق الأمر بتحرير أرض الإسلام من دنس أمريكا وإسرائيل. وفي النهاية يمكن القول بأن تنظيم القاعدة شمولي كوني وهي تعتمد تكتيكيا عبقريا في صراعها مع الغرب ويتميز هذا التكتيك بثنائيته: فهم بداية يستخدمون الإرهاب في كل مكان وفي كل زمن ممكن من أجل تذكير الغرب بضرورة الخروج من أرض الإسلام، وهم في الوقت نفسه لا يفاوضون، وهدفهم التاكتيكي إثارة حالة من الرعب في موطن البلدان الغربية التي يمكن أن تغير الرأي العام في هذه البلدان لتطالب دولها بالخروج من أرض الإسلام بسلام طلبا لأمن هذه الشعوب واستقرارها. وفي الجانب الثاني فإنهم يريدون التأثير في الشعوب والجماهير الإسلامية عبر العالم وتوليد روح نضالية هائلة لديهم ضد الغرب، فأحداث الحادي عشر من سبتمبر تريد أن تقول للمسلمين أن عدوكم هذا الذي يعتقد أنه لا يقهر يمكن قهره وتدميره في عقر داره ويمكنكم الثورة والنضال من أجل دحره نهائيا.
وفي مجال السياسة الإعلامية يمكن القول بأن الأنترنيت هو أسطورة القاعدة، فهي توظف الإنترنيت بطريقة عبقرية مع أن الإنترنيت يشكل أحد مراكز المراقبة الأساسية لوكالات المخابرات العالمية، وكذلك هو حال القاعدة مع النقل الجوي فهم يمتلكون اليوم خبرات فائقة في ميادين التكنولوجية والمعلوماتية ويوظفونها بطريقة مدهشة ومثيرة في نسق فعالياتهم الأمنية والعسكرية. وهم عبر ذلك كله يريدون بناء مجتمع على أنقاض الحضارة القائمة.

أصوليات مسيحية:
===========
وفي مواجهة الأصوليات الإسلامية تتعاظم الأصوليات المسيحية في الولايات المتحدة الأمريكية وتنامي نزعتها المعادية للمسلمين في العالم، وتكفي الإشارة في هذا الصدد إلى الأصولي الدموي بورن أكان Born Again الذي جعل من الحرب الدموية ضد المسلمين حربا مقدسة.
لقد وجد عدد كبير من السياسيين في العالم في الدين قوة هائلة لتحقيق المصالح السياسية، ومن المفارقة بمكان أن أغلبهم لم يكونوا في البداية متدينين أو شخصيات دينية وهم ليسوا كذلك في جوهرهم، ولكنهم مع ذلك وظفوا الدين وقامت باستغلاله بشكل مثالي من أجل مصالح شخصية وسياسية. ومن هذه الشخصيات التي استخدمت الدين ووظفته لمصالح شخصية وسياسية يشار إلى صدام حسين وبن لادن وجورج بوش الابن. وقد نتج عن هذه الممارسة معركة كبرى بين الأصولية المسيحية اليمينية والأصولية الإسلامية المتطرفة. وقد قام كل من بوش وبن لادن بتغذية هذه الحرب الجنونية وإلهاب نارها. ويمكن القول في هذا السياق بأنهما كانا حليفين في الجوهر فيما يتعلق بأهدافهما السياسية والشخصية، حيث كان كل منهما ضروريا للآخر ولا يمكنه الاستغناء عنه في هذه المواجهة الدموية المجنونة. ويمكن تشبيه هذه العلاقة بين الشخصين بالعلاقة بين ستالين وهتلر كما العلاقة بين بيونيشيه Pinochet في تشيلي وبول بو Pol Pot في كمبوديا.

لقد شهدت الأصوليات الدينية المسيحية المتطرفة اليوم صعودا كبيرا ومهما في الولايات المتحدة الأمريكية، فمنذ عهد بعيد، أي منذ عشرينات القرن الماضي، تمّ الإعداد لتحالف بين اليمن الديني المسيحي وبين الجمهوريين. ومنذ ذلك الوقت بدأت الجماعات الإنجيلية المحافظة تنتظم وتتطور في نسق هذا التوجه. وتأسيسا على ذلك تمّ بناء المؤسسات الدينية اليمنية كما شيدت إستراتيجية سياسية جديدة لممارسة الضغط على الحزب الجمهوري من أجل دفعه بقوة نحو اليمين في أكثر صوره محافظة وراديكالية. وقبل أن يحدث هذا الأمر في الولايات المتحدة الأمريكية، كان هناك فصل واضح بين الدين والدولة. أما اليوم فإن اليمين الديني يعمل باستمرار على توحيد أواصر العلاقة بين الطرفين واستبعاد عملية الفصل بين الديني والسياسي بكل الوسائل الممكنة. وهذا يمثل حنينا إلى الماضي وإلى حياة سياسية تستند بالضرورة إلى تفسير إنجيلي وتصورات دينية، ووفقا لذلك فإن هذه الحركات تعمل على بناء تيوقراطية أصولية تستند إلى القيم الأخلاقية الأصولية الإنجيلية المتطرفة.

ومن الواضح أن الجمهوريين قد مارسوا السلطة في بلادهم في أوقات مهمة، واستطاعوا السيطرة على البرلمان ومجلس الشيوخ. ومن الملاحظ أنه في الماضي كان التوازن السياسي أكثر اعتدالا. ووفقا لهذا فإن الانتخابات القادمة ستكون حاسمة. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو هل يستطيع الديمقراطيون توحيد جهودهم ؟ من سيخلف بوش ؟ وهذا يعني أن مستقبل الولايات المتحدة يعتمد على هذا الأمر. فقد يحدث أن حركة ما قد تصل إلى ذروتها ثم تميل أوضاعها إلى الاعتدال والتوازن. وفي الأحول فإن صعود اليمين السياسي والديني ف أمريكا أمر يدعو إلى الخوف والحذر.

وباختصار يمكن القول بأن الأصولية الأمريكية قد تحولت إلى حركة قومية محافظة امتزجت فيها العناصر الأخلاقية والدينية والسياسية، وتحول الدين في أمريكا اليوم، وتحول الدين في أمريكا اليوم إلى بعد من أبعاد الحياة السياسية، ومع الأسف ارتبطت الجماعات الدينية الغربية المتطرفة بالحركة الصهيونية وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية. لقد وصلت التيارات المسيحية الأصولية المتطرفة وصلت إلى الحكم في عدد من البلدان الغربية وخاصة في أمريكا، وتتأتى خطورة هذه التيارات من تقسيم العالم إلى قطبين متعارضين أبديا وهما قطب الشر وقطب الخير الذي ترى بأنها تمثله في حين تمثل الحركات الإسلامية قطب الشر.

إن هذه الحركات المتطرفة تعتمد النظرية الفكرية التي تتأسس على الثنائيات المتضادة على نحو لا ينتهي، وترفض التاريخ كحركة متعددة الأبعاد، وتحصر العقلانية الحضارية في المركز الغربي في حين تحشر الفضاءات اللاّغربية في خانات اللاعقل.

خلاصة:
======
علينا الاعتراف اليوم بأن الدولة ما زالت قائمة وما زالت قوية أيضا في مواجهة هذه الحركات الأصولية المناهضة للدولة والعولمة في آن واحد بحثا عن الهوية أو طلبا للديمقراطية. والدولة تعود بقوة اليوم إلى ساح الصراع ضد هذه الحركات في مختلف أنحاء العالم. وعلى الرغم من التعدد والتكامل والحضور المظفر للعولمة ما زالت هناك الدول السيادية القوية. وهذه الدولة السيادية تفرض نفسها اليوم بقوة في الصين والولايات المتحدة الأمريكية وفي روسيا وفي أوروبا بصورة عامة. وفي مواجهة هذا الدول القومية بدأت الحركات المضادة تطالب بتأكيد هوياته عبر الرفض والميل إلى العنف والتدمير، وهو عنف يواجه في الوقت نفسه بعنف الدولة وسلطانها. والدولة في هذا السياق تستفيد من هجوم هذه الحركات وتعمل على توظيفه في عملية إعادة بناء نفسها وتطوير أدواتها وأنساق فعالياتها بما يتناسب مع الأوضاع الجديدة، ويمكن في هذا السياق الإشارة إلى التطورات السياسية التي تبنتها الولايات المتحدة في عهد بوش وهي سياسة الخوف والحرب الافتراضية كردة فعل على هجوم القاعدة في الحادي عشر من سبتمبر على مباني التجارة العالمية. وقد عملت الحكومة الإسبانية على تبني مثل هذه السياسة في مواجهة الحركات السياسية المتطرفة.

إن جزءا كبيرا من الحلول الممكنة تكمن اليوم في عملية الفصل بين السياسي والديني من أجل تجنب هذا العنف والإرهاب. إن تنظيم الديني بالسياسي يجب أن يكون فقط في الحالة التي يكون فيها الدين نزّاعا إلى العنف. وفي غير هذه الصورة فإن الفصل بين الديني والسياسي يجب أن يكون محكما ونهائيا. ومع ذلك فإن التقاطع بين الجانبين يتم بصورة لا يمكن تفاديها. ففي العصور القديمة مارس الدين وظائف سياسية اجتماعية حيث نجد ارتباطا عميقا بين الديني والاجتماعي والسياسي. وكما نعرف فإن التطور السياسي والاجتماعي في المجتمعات الحديثة فرض نوعا من الفصل بين السياسي والديني، حيث تمّ هذا الأمر بداية في المجتمعات الغربية في عصر النهضة والتنوير. ومع ذلك كله فإن التقاطع بين السياسة والدين يطل علينا بوجهه دائما، حيث نجد ترابطا كبيرا اليوم بين العقائد الدينية والجماعات القومية أو العرقية إذ غالبا ما يكون الزعيم الذي يوجه هذه الجماعات رجل دين في جوهره. وهذا هو حال ملكة بريطانيا التي تمثل حتى اليوم رأس الكنيسة الإنجيلية في بريطانيا. ويمكن القول بأن الاتحاد بين الدين والسياسة هو ظاهرة يمينية بالدرجة الأولى، وفي هذا الصدد يمكن الإشارة إلى الجماعات الدينية اليسارية التي اتخذت مواقف سياسية لصالح السياسات العلمية والسلمية حيث دعمت بعض هذه الجماعات بروتوكول كيوتو Protocole de Kyoto كما هو معلوم.

فالدين له شأنه ودوره ومكانه في دائرة المجتمع المتدين. ولكن المشكلة ليست هنا بل تكون عندما تنادي جماعة دينية بأفكار وتوظف القوة في فرضها على الآخر. وإزاء هذا الأمر يجب على الدولة أن تتجنب دعم الجمعيات والمؤسسات الدينية أو الجماعات الدينية التي تنتصر لأحزاب سياسية محددة. فالسياسة والدين يتقاطعان ولكن كل منهما يجب أن يحافظ على استقلاله. ومع الأسف الشديد هذا الفصل لا يتم كما يجب وكثير من رجال الجدين أو رجال السياسة لا يميزون بين الديني والسياسي. وذلك هو حال الأصوليين البروتستانت في الولايات المتحدة الأمريكية من جهة والأصوليين الإسلاميين الراديكاليين من جهة أخرى.
ومما لا شك فيه أن الأصوليات الدينية تفرض على المجتمع الإنساني تحديات كبيرة راهنة ومستقبلية. وهذا يعني أن يجب علينا ألا نتسامح بداية مع الحركات التي توظف العنف باسم الدين. ومن أجل هذا لا بد من تنظيم العلاقة بين الديني والسياسي. ومن المهم جدا في هذا السياق تكريس مبدأ علمانية الدولة والفصل بين الكنيسة والسياسة , وهذا بدوره لا يتعارض مع الحرية الدينية بأي شكل من الأشكال. وهنا يجب احترام الأعياد الدينية ويجب أيضا أن نترك هامشا كبيرا للحريات الدينية الإسلامية. فالحظر على الممارسات الدينية يؤدي إلى نتائج سلبية جدا. وفي النهاية يجب تجنب الخلط ما بين الهويات العرقية واللغوية والسياسية من جهة والهويات الدينية من جهة أخرى. ومن الأفضل للجميع السمو بالنضال ضد القتل والعنف والتوحد كبشر وأخوة في الإنسانية خارج دوائر الدين والعقائد أيا كانت هويتها. ومن أجل ذلك كله من الضرورة بمكان إعلاء قيم التسامح واحترام الاختلاف بين البشر واحترام الآخر والأديان جميعا وضمان أفضل حوار ممكن بين الأديان ذاتها مهما كانت درجة الاختلاف والتباين في المبدأ والمعتقد.

وفي مواجهة هذا المد المخيف لهذه الأصوليات يجب علينا في هذا المجال أن نعلي من شأن التربية على التسامح والقيم الإنسانية الخلاقة جميعها، وضمن هذا التوجه يتوجب علينا أن نؤكد تعليما نقديا لتاريخ الأديان، كما يجب تطوير التعليم الأنتروبولوجي وهذا الذي يتعلق بتطور المعرفة الإنسانية، علينا في حقيقة الأمر أن نؤصل تعليما يعتمد على علم الاجتماع والثقافة النقدية التي ترتبط به. وفي مضمار هذا التعليم والتثقيف يجب أن نجعل كل فرد في المجتمع يدرك طبيعة الأديان الحالية وتاريخ تطورها وطبيعة الدور الحضاري التسامحي الذي يجب أن تمارسه في طور الحياة الإنسانية في مجال السياسة والاقتصاد والثقافة والحياة الاجتماعية. ومثل هذه المعرفة ضرورية اليوم وأساسية في كل وقت ومرحلة لفهم الرهانات الكبرى للعالم المعاصر، واكتساب القدرة على الحياة المشتركة المسالمة في جماع توازن إنساني يتحقق بالمحبة والتسامح والسلام ونبذ العنف والكراهية بين البشر.

ملخص المقالة:
=========

تباشر هذه الدراسة الأسس الأيديولوجية للنزعات الأصولية في مواجهة الحداثة والعولمة والدولة الوطنية القومية، كما تتناول جدلية الصراع بين الأصوليات المسيحية والإسلامية في سياقات تاريخية . وهي نهدف عبر نسق من المعطيات والأفكار والرؤى إلى بناء تصور موضوعي عن طبيعة هذه الأصوليات واكتشاف أنساق التفاعل والصراع بين العولمة والهويات الأصولية والدولة، حيث ينطلق التساؤل عن الديناميات المشكلة للحركات الاجتماعية والتيارات السياسية التي تهدف إلى التغيير الاجتماعي وفق استراتيجيات مرسومة وغايات معلومة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى