د. أحمد الحطاب - التَّصحُّر الفكري

عادة، مصطلحُ "تصحُّر" يُطلق على الظاهرة الطبيعية المُتمثِّلة في تحوُّل وسطٍ طبيعي تترعرع فيه الحياةُ، نباتا وحيوانا، إلى أرضٍ قاحلة أو إلى صحراء جراء تعرُّض هذا الوسط إلى تداخل عوامل مناخية وبشرية. وحين يصبح وسطٌ طبيعي مُتصحَّرا، فهذا معناه أنه لم تعد مُتوفِّرةً فيه شروط الحياة النباتية والحيوانية، وبالتالي، فإن هذا الوسطَ يصبح منعدِمَ الإنتاجية productivité

فحين نتحدَّث عن "التَّصحُّر الفكري"، فالمقصود هو أن الفكرَ لم يعد منتِجا للأفكار وللمغارف وللثقافة وللوعي…، أو بعبارة أخرى، توقُّف الفكر عن الإنتاج الجاد، المفيد وذي الجودة العالية… أو، إن صحَّ القولُ، توقُّف الفكر عن الإنتاج الذي ينفع البلادَ والعبادَ، أي الإبتعاد عن المألوف والاجترار لتفادي السقوط في التفاهة.

وهذا يعني أن التَّصحُّر الفكري يقف سدا منيعا ضد الاهتمام بكل ما يسايِر العصرَ من تحوُّلات وتقلبات وخصوصا تلك التي يُصادفها الناسُ في حياتِهم اليومية. وحين أتحدَّث عن الإنتاج الفكري، فالأمرُ لا يتعلَّق فقط بالإنتاج الأدبي من شعر ونثر وقصص وروايات وسرد ومسرح… ما أقصده بالإنتاج الفكري هو الأنتاج المهتم بكل مجالات المعرفة من علوم إنسانية وعلوم دقيقة وطبيعية وعلوم تطبيقية.

وما يزيد في الطين بلَّةً هو تدنِّي الاهتمام بالإنتاج الفكري سواءً على مستوى الأفراد والمجموعات وحتى على مستوى الجهات الرسمية. على مستوى الأفراد، يبدو أن الناسَ، بحكم صراعهم مع مشاكل وهموم الحياة اليومية، لم يعد الإنتاج الفكري يشكِّل أولويةً بالنسبة لهم، سواءً كانوا مُنتِجين أو مستهلكين لهذا الإنتاج. على مستوى المجموعات، لم تعد الجامعات، كما كانت في الماضي القريب، تضم بين أحضانها قامات فكرية من العيار الثقيل لها إنتاج فكري غزير يُقام له ويُقعد على الصعيدين الوطني والخارجي. كما لم تعد الأحزاب السياسية، كما كانت في الماضي القريب، تعجُّ بالمفكرين والمنظرين الذين داع صِيتُهم خارجَ حدود البلاد. أما على مستوى الجهات الرسمية، فأقل ما يثير الانتباهَ، هو أن هذه الجهات تفتقر إلى إرادة سياسية معلنة و واضحة للنهوض بالإنتاج الفكري.

فما هي الأسبابُ التي أدت إلى التَّصحُّر الفكري؟

1.كيف يمكن للإنتاج الفكري أن يزدهِرَ في بلاد أكثر من ثُلُثِ سكانها أميون، أي أن هؤلاء الاميين يوجدون خارج المشهد الثقافي، وبالتالي، فإن مسألةَ الإنتاج الفكري لا تهمُّهم لا من قريب ولا من بعيد. وما يعقِّد الأمرَ، هو أن شريحةً عريضةً من الأميين هم، في نفس الوقت، ضحايا للفقر والتهميش والنسيان. فهذه الشريحة، إن استطاعت أن تحصلَ على قوتها اليومي، فهذا يُعدُّ، بالنسبة لها، إنجازٌ عظيم.

2.وحتى الشريحة المتعلِّمة، كثيرٌ من أعضائها لم يتعوَّدوا على الاهتمام بالإنتاج الفكري لعدة أسباب. إما ليس لهم القدرة المادية على الارتداد على البنيات المنتِجة للفكر أو ليس لهم القدرة على اقتناء ما يُنتِجه هذا الفكر من كُتب وجرائد ومجلات… وإما لهم القدرة المادية لكن مستواهم التَّعليمي غير كافي ليحُثَّهم على الاهتمام بالإنتاج الفكري. وهنا، لا بد من الإشارة أن الاهتمامَ بالإنتاج الفكري موهبةٌ تُنمَّى عند الأشخاص منذ نعونة الأظافر. الأسرة والمدرسة هما العنصران الأساسيان لغرسِ هذا الاهتمام في وِجدان الأطفال.

3.وبما أن الاهتمامَ بالإنتاج الفكري ليس خاصية من خصائص المجتمع المغربي، فإن المواطنَ المغربي يُنفِق سنويا درهما واحدا أو أكثر من درهم بقليل لشراء الكتب. وهذا عائق كبيرٌ له أسبابُه لكنه، في نفس الوقت، يُصنِّف البلادَ في خانة الشعوب التي لا تقرأ.

4.وحتى القلة القليلة التي لا تزال تنشط في مجال الإنتاج الفكري، فإنها تجد صعوبةً كبيرةً في إيصال إنتاجها إلى الفئة، القليلة هي الأخرى، التي لا تزال تهتم بهذا الإنتاج. والصعوبة تأتي من طرف الناشرين الذين، خوفا من عدم الإقبال على منشوراتِهم، يُصرون، في أحسن الحالات، على أن لا يتجاوزَ عددُ نُسَخِ الكُتب المعروضة عليهم، الفَي نسخة. عدد هزيل بالمقارنة مع العدد المفترض للقراء في البلاد.

5.وما يزيد في الطين بلَّةً هو أن عددا هائلا من الناس، المهتمين وغير المهتمين بالإنتاج الفكري، وجدوا ضالَّتَهم فيما تنشره شبكات التواصل الاجتماعي. وما تنشره هذه الشبكات، إلا بعض الاستثناءات، يصبُّ في خانة التفاهة والرداءة. ورغم ذلك، فإن الإقبالَ على هذين التفاهة الرداءة كثيفٌ. هذا راجع لكون التفاهة والرداءة لا تحتاجان إلى بدل جُهد فكري ولا تحتاجان كذلك إلى امتلاك خلفية ثقافية مُجرَّبة وإلى فكر نقدي يقرأ ما بين السطور قبل السطور نفسها. إن التفاهةَ والرداءة أصبحتا مكوِّنين مسيطرين على مجرى الحياة اليومية للناس. وأخطر من هذا وذاك، هو أن شبكات التواصل الاجتماعية تعطي نفسَ حقِّ التَّعبير لرواد الإنتاج الفكري ولأتفه التافهين. وإذا كان المجتمعُ يستفيد من رواد الإنتاج الفكري، فإن التافهين يُوسِّعون رقعةَ التَّصحُّر الفكري.

6.والطامة الكبرى هي أن مَن هم المحرِّك الأساسي للإنتاج الفكري، على قلَّتهم، لا أحدَ يهتم بهم ولا أحد يُنصت لهم، سواءَ كانوا باحثين أو كُتًّابا أو ادباء أو فلاسفة أو مفكِّرين أو مُنظِّرين… في حين نجد كثيرا من الناس مُدمنين على التفاهة ويبحثون عنها بشغف كبير.

7.أما السياسيون الموجودون في البرلمان، أغلبية ومعارضة، وأولئك الموجودون في الحكومة، فهم أكثر الخلق مساهمةً في ترسيخ التَّصحُّر الفكري! لأنهم لا يدافعون عن الإنتاج الفكري وليس لهم أية رؤية للقيام بهذا العمل. بل لا أحد منهم انزعج من هزالة الميزانية المخصَّصة لوزارة الثقافة التي، من المفروض، هي الراعي والمشجِّع للإنتاج الفكري.

8.وحتى المنظومة التَّربوية فشلت في أداء مهامها وعلى رأس هذه المهام، تزويد المتعلمين بثقافة عامة تمكِّنهم من قراءة وفَهم العالم والوسط الذي يترعرعون فيه. بل إن شريحةً عريضةً من هؤلاء المتعلمين هم مَن يغذِّي التفاهةَ في شبكات التواصل الاجتماعية.

في خِضمِّ هذه المأساة التي أصابت الإنتاجَ الفكري بالشلل، مَن سيستشرف مستقبلَ هذه البلاد ومَن سيقف على التَّحدِّيأت التي تواجهها وستواجهها، إن لم يكن المثقفون والمفكِّرون والباحثون والفلاسفة وعلماء الاجتماع وعلماء الدين المتفتِّحون والمؤرِّخون…؟ دون إهمال الدور الحاسم الذي على الشباب أن يلعبه، وهو قادرٌ على لعبِه، في هذا الاستشراف وفي هذا الوقوف على التَّحدِّيأت. وهنا، أفتح قوسا لأقول إنني لا أزال أتذكَّرَ، لما كنتُ طالبا بكلية العلوم بالرباط خلال ااستينيات ومُنخرطا في الاتحاد الوطتي لطلبة المغرب، المستوى العالي من الوعي الفكري والثقافي والنضالي الذي كان يتَّسِم به طلابُ الجامعة المغربية. اليوم، هذا النوع من الشباب، الواعي فكريا، ثقافيا ونضاليا، يهاجرون إلى بلدان أخرى باحثين عن أماكن يُفجِّرون فيها قدراتهم الفكرية والثقافية.

وحتى الإرادات القوية التي تريد أن تحاربَ التَّصحُّر الفكري، فإنها تُصابُ باليأس وبخَيبة الأمل لأنها، أينما حلت وارتحلت، تجد نفسها أمام المقولة الشعبية المشهورة : "ما كاينش معامن".

لقد راح رواد الإنتاج الفكري وتركوا وراءهم فراغا مهولا اسمه "التَّصحُّر الفكري". وحتى الأحزاب السياسية المسماة، في الماضي القريب، بالأحزاب الوطنية والتي كانت تعجُّ برواد الإنتاج الفكري، لم تفكِّر، ولو هنيئة واحدة، في إحياء ذلك الماضى المشرق الذي لا يمكن أن ينساه العاقلون المحبون لهذا الوطن. الإنتاج الفكري لا يشكِّل أولوية بالنسبة للأحزاب السياسية الحالية. والدليل على ذلك أنه غائب أو يكاد من الحملات الانتخابية. ما يشغل بالَ هذه الأحزاب هو الوصول إلى السلطة ومن أجل السلطة.

إن فترةَ كبار المهتمين بالإنتاج الفكري والذين وضعوا أسسَ التَّطوُّر الفكري، الاقتصادي والثقافي لهذه البلاد، قد ولَّت ولم تعد إلا ذكرى لمن أراد أن يتَّعظ.. على الأقل، هؤلاء الكبار كانت لهم رؤيةٌ واضحةٌ عن المجتمع المغربي وعن تطلُّعاته.

وحتى إن توفَّرت الإرادة للقضاء على التَّصحُّر الفكري، فإن هذا القضاءَ يلزمه وقتٌ طويلٌ لأن القامات الفكرية لا تنشأ تحت مفعول عصا سحرية. بل إنها تتكون تدريجيا وتتطلَّب المرورَ من التجارب وتجاوز التَّحدِّيأت…

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى