د. أحمد الحطاب - من السياسة العامة إلى السياسات العمومية

السياسة، اصطلاحيا، هي الوسيلة أو الطريقة أو المنهجية التي، بواسطتها، تُدارُ أو تُسيَّرُ أو تُدبَّر شؤون البلاد.

بالنسبة لبلادنا، السياسة العامة politique générale هي عبارة عن الخطوط العريضة grandes lignes أو التَّوجُّهات orientations التي ستسير عليها القضايا المتعلِّقة بالتنمية الاجتماعية، الاقتصادية والثقافية. عادةً، هذه الخطوط العريضة تصدر عن أعلى سلطة في البلاد أو عن جهات استشارية أو عن ما تبنَّته السلطة التَّنفيذية le pouvoir exécutif من برامج انتخابية. وما تجدر الإشارةُ إليه، هو أن الخُطبَ الملكيةَ كلها عبارة عن خطوط عريضة لما يجب على السلطة التنفيذية أن تُحوِّلَه إلى سياسات عمومية politiques publiques. ومن بين الخطوط العريضة التي جاءت في الخُطب الملكية، أذكر على سبيل المثال، قضايا الماء والمرأة والتَّعليم والتَّغطية الاجتماعية…

أما السياسات العمومية، فهي تجسيدٌ للسياسة العامة. والسياسات العمومية مُهمَّة/اختصتص من مهام/اختصاصات السلطة التَّنفيذية. والسياسات العمومية تكون حتما قِطاعية sectorielle، بمعنى أن كلَّ قِطاعٍ حكومي/وزاري département gouvernemental/ministériel يُحوِّل ما يذخل في اختصاصه من سياسة عامة إلى سياسات عمومية قطاعية.

ولا داعيَ للقول أن الهدفَ من السياسات العمومية القِطاعية مُجتمِعة هو إحداث تغييرٍ أو تطوُّر في وضع من الأوضاع التي تهمُّ البلادَ والعبادَ. وبصفة عامة، تسعى السياسات العمومية القِطاعية إلى خلقُ قيمات مضافة تصبُّ في تحريك عجلة التَّنمية الاجتماعية، الاقتصادية والثقافية. بل تسعى إلى خلقِ الثروة ومناصب الشغل، أي إلى الرفع من نسبة النمو الاقتصادي taux de croissance économique، وبالتالي، إلى الرفع من حجم الناتج الداخلي الخام Produit Interieur Brut PIB. وفي نهاية المطاف، إن عاجلا أو آجلا، ،تسعى السياسات العمومية إلى ضمان كرامة عيش المواطنين.

أما المجالات التي يمكن أن تكونَ معنيةً بالسياسات العمومية القِطاعية هي، على سبيل المثال، البنيات التَّحتية، التَّعليم، السكن، الصحة، الشغل، الأسرة، التِّجارة، الصناعة، الفلاحة…

غير أن نجاحَ السياسات العمومية القِطاعية قد لا يتحقَّق، مهما كانت جودةُ صياغتها ومهما كانت دقة أهدافها ومهما تلاءمت هذه الأهداف مع تمويلها… وبعبارة أخرى، قد تفشل السياسات العمومية القِطاعية في تحقيق الأهداف التي رسمتها لها السلطة التَّنفيذية. فما هي أسبابُ هذا الفشل؟ الأسباب كثيرة ومتنوِّعة، أذكرُ منها على سبيل المثال :

1.عادةً، يُعهد بتحضير السياسات العمومية القطاعية إلى أشخاص من ذوي الخبرة والاختصاص، أي أشخاص لهم دراية بالسياسة وبالاقتصاد والاستشراف ولهم كذلك معرفة بالقضايا التي تشدُّ اهتمامَ المواطنين. كما يجب أن يكونوا قد تابعوا الحملات الانتخابية وما ينشره المواطنون والصحف حول هذه الحملات. هؤلاء الأشخاص يجب أن يكونوا موجودين في دواوين الوزراء cabinets des ministres. غير أن تعيين أعضاء دواوين الوزراء، في هذا البلد السعيد، لا يخضع لشروط الكفاءة والخبرة والاستحقاق. بل يخضع لحساباتٍ حزبية ضيقة وللمحسوبية copinage. ولهذا، فإن دواوين الوزراء، عوضَ أن تكونَ مكاتب استشارة وخبرة ومُوجِّهة لسياسة الوزير، فهي عبارة عن أماكن لا يدخلها، باستثناءات قليلة جدا، إلا المقرَّبون من القيادات الحزبية بغض النظر عن كفاءاتهم.

2.عندما نتحدَّث عن انسجام الحكومة، فهذا يعني أن وزراء هذه الحكومة، رغم إختلاف توجُّهاتهم السياسية، يتكلَّمون بصوت واحد، من خلال ما يوجد من تنسيقٍ coordination وتوحيدٍ للرُّؤى convergence des visions بين القطاعات التي يُشرِف عليها هؤلاء الوزراء. لكن الواقع يُخبرنا بأن كل قِطاعٍ وزاري يعمل بمعزل عن القطاعات الأخرى. وهو الشيء الذي ينعكس سلبا على تنفيذ السياسات العمومية والمشاريع المنبثقة عنها. ما يحدث في الواقع الحكومي، هو أن الأحزاب المكوِّنة للأغلبة، ظاهريا تبيِّن بأنها منسجِمة cohérents، لكن، باطنيا، كل حزبٍ "يُغني على ليلاه"، أي أن كل قطاع وزاري لا يهتم، في نطاق السياسات العمومية القِطاعية، بما تقوم به القطاعات الأخرى. ولا داعيَ للقول أن انعدامَ التنسيق بين القطاعات الوزارية يؤدي إلى تداخل chevauchement السياسات العمومية، الذي، بدوره، قد يؤدي إلى التِّكرار وحدوث الثغرات والتَّناقضات، وكذلك، إلى هدر الطاقات البشرية والمادية، وأحيانا، إلى عدم تحقيق الأهداف المنشودة من وراء هذه السياسات. ولتفادي هذا الهدرَ، من الضروري أن تكونَ السياسات العمومية القِطاعية مبنيةً على التكامل complémentarité وعلى الاندماج intégration، أي أن يكمِّل بعضُها البعضَ الآخرَ. وخصوصا أن كل السياسات العمومية القِطاعية مجتمعة تسعى، في نهاية المطاف، إلى خدمة البلاد والعباد. فلا استغرابَ أن يكونَ الفشلً هو مآل بعض السياسات العمومية القِطاعية. ولا داعيَ للقول أنه، من انعكاسات انعدامَ التنسيق، يصبح لكل قطاع أولوياتُه بينما الأولويات هي أولويات حكومية وليس قطاعية.

3.إضافةً إلى غياب التنسيق بين القطاعات الوزارية، هناك صعوبة في المساهمة في العمل الجماعي، أو أقولُها بكل صراحة، عدم الرغبة في المساهمة في العمل الجماعي الذي تتطلَّبه صياغة وتنفيذ السياسات العمومية القِطاعية. لماذا؟ لأن كل جهة تريد أن تبيِّنَ "حْنَّتْ إدِّيهَا" مدَّعيةً أنها من "سادات العارفين". إضافةً إلى أن بعض المشرفين على السياسات العمومية القِطاعية لا يريدون اقتسامَ ما يتوفَّرون عليه من معلومات مع القطاعات الأخرى، بحُكم أنهم لا يزالوا يؤمنون بالبيروقراطية وأن الاحتفاظَ بهذه المعلومات (الأسرار) هو مصدر قوة.

4.إن أهمَّ مرحلة في السياسات العمومية هي مرحلة التَّنفيذ، أي تنزيل هذه السياسات على أرض الواقع. وهنا بيت القصيد! لماذا أقول بيت القصيد؟ لأن تنزيلَ أية سياسة عمومية على أرض الواقع، من الضروري، أن تُصاحبَه أدواتٌ للتَّتبُّعِ outils de suivi وعلى رأسها التَّقييم المرحلي évaluation à mi-parcours والتقييم النهائي évaluation finale. التقييم يساعد المشرفين على التنزيل على الوقوف على التَّقدُّم الحاصل في التنفيذ. وللإشارة، فإن نجاح التَّنزيل ليس مضمونا مائة في المائة. فأثناء هذا التنزيل، من المحتمل أن تظهرَ بعض الثغرات أو بعض مناطق الظل لم تكن في الحسبان. فالتقييم يمكِّن المتتبِّعين من القيام بالتَّعديلات اللازمة إن اقتضى الحال. وقد يكون من المفيد، قبل صياغة السياسات العمومية، أن يتمَّ القيامُ بتقييم تشخيصي أو تقييم قبلي évaluation diagnostique. الغرض من التقييم التشخيصي هو التَّعرُّف على الواقع الميداني لوضعٍ من الأوضاع الاجتماعية، الاقتصادية أو الثقافية وتحديد الحاجيات للنهوض به. وضمانا للشفافية والحياد، قد يكون من الأفضل إسناد التقييم النهائي لجهات محايٍدة كمكاتب الدراسات أو أية جهة محايدة مختصة.

هذه هي الأسباب المهمة التي قد تقود إلى فشل السياسات العمومية. في غياب خبراء أو مختصين في صياغة السياسات العمومية وفي غياب التنسيق والعمل الجماعي والتكامل والتقييم، فلا غرابةَ أن تُحرَم البلاد ويُحرَم العباد من الاستفادة من مخرجات التَّنمية الاجتماعية، الاقتصادية والثقافية في شتى مناحي الحياة. ولا غرابةَ أن لا يُقضى، إلى يومنا هذا، مثلا على الفقر والأمية والاقتصاد غير المُهيكل وتهميش العالم القُروي…

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى