خيري حسن - فى ذكرى الرحيل إلى التاريخ:《60 》دقيقة فى الغرفة《8》

《60 》دقيقة فى الغرفة 《8》

(القاهرة ـ 1983)
فى صباح يوم السبت 21 مايو/ آيار ـ من ذلك العام ـ خرجت صحف القاهرة تقول:" بيروت تستعد للسلام مع إسرائيل" و" توفيق الحكيم يطلب من النيابة التحقيق فى اتهامات الشيخ الشعراوى له بسبب مقال (حديث مع الله) الذى نُشر بالأهرام " و" بنك القاهرة يُعلن عن بيع قطع أراضى فى المقطم سعر المتر 75 جنيه بالتقسيط" و"سعر الدولار يتراوح ما بين 110 قرشاً و112 قرشاً. و"كازينو الليل بالهرم يقدم سهرة مع شريفة فاضل" و"نيابة أيتاى البارود ـ محافظة البحيرة ـ تحقق فى وفاة مزارع عمره 70 سنة سقط من على سريره أثناء نومه"!
*
( معهد الأورام ـ 1983 )
كانت هذه بعض أخبار القاهرة هذا الصباح قبل أن يتسرب خبر آخر مؤلم وحزين. سكان القاهرة والعواصم العريية، والمدن والبنادر بكل ما فيها ـ ومن فيها ـ بدءوا يسترقون السمع من كافة المصادر. هل حقاً مات الشاعر؟! ومنذ أن مات المتنبى وأبو العلاء. ومنذ أن مات الحلاج وهمنجواى وجيفارا وأنا أتساءل ـ التساؤل للكاتب الراحل يوسف إدريس ـ لماذا يموت االشاعر"؟ نعم.. الآن.. عند الساعة الثامنة من نهار ذلك اليوم الحزين، وفى هذا الدقائق الحزينة.. مات أمل دنقل!
*
(معهد الأورام ـ بعد 10 دقائق )
فى الدور السابع ـ بالغرفة (😎 يتمدد الشاعر أمل دنقل. هو الآن يشاهد التليفزيون الذى يذيع حلقة من برنامج ثقافى شهير اسمه (أمسية ثقافية) يقدمه فاروق شوشة.
أمل دنقل مستغرق فى كتاب يقلب صفحاته. وبين لحظة وأخرى يُعاود النظر للغرفة التى استقر فيها أخيراً فى حالة صراع مرير ما بين الموت والحياة!
على الجدران صور ملونة، ولوحات كاريكاتيرية، وقصائد شعر. على الجدار بطاقة من الزعيم الفلسطينى ياسر عرفات تحمل تمنيات الانتفاضة له بالشفاء.
*
( الغرفة - بعد 20 دقائق )
ـ أهلا .. أهلا! يقولها أمل لطفل صغير اقتحم غرفته عمره 4 سنوات تقريباً مُصاب بسرطان الدم. اسمى كريم وبابا شاعر.
ـ ما هو اسمه؟
ـ محمد سيف ( شاعر عامية مصري)! يجلس الطفل بالقرب منه، ويسأله فى براءة طفولية مدهشة:" أنت اسمك آيه؟
ـ أمل دنقل!
- عندك سرطان زيي برضه؟
- هز رأسه مبتسماً ومجيباً:" أيوه يا سي كريم"!
بعد دقائق غادر الطفل الحجرة لحظة انتهاء حلقة (أمسية ثقافية) ثم ظهر المطرب محمد قنديل على الشاشة ليُغنى. أمل يعاود النظر إلى حوائط الحجرة أمامه." الآن محمد قنديل بدأ الغناء:" يا ناعسة/ يا ناعسة/ يا أم العيون الهامسة/ يا أم الرموش/ تقتل/ ولا ينفع معاها مسايسه" بعد لحظات عاد الطفل مرة جديدة وجلس بالقرب منه.
ـ "أهلا يا رفيق"
دخلت الممرضة ومعها وجبة العشاء. أشار لها فوضعتها على تربيزة قريبة من السرير!
- تأكل يا كريم؟
- لا.. ماليش نفس!
- وأنا كذلك!!
أمل يعاود التركيز مع الأغنية لحظة دخول صديقه الصحفى السعودي خالد الهميل.
بعد دقائق غادر الطفل كريم الغرفة، فيما دخل عبد الرحمن الأبنودى:" أزيك يا أمل"؟ لم يرد لأنه كان منشغلاً عنهما بكلمات الأغنية التى مازال محمد قنديل يغنيها:" يا ناعسة.. يا ناعسة.. لا.. لا.. لا
خلصت منى القواله
والسهم اللى رمانى
جتلنى لا محالة"
أمل يردد مع قنديل بصوت مسموع:" والسهم اللى رمانى
جتلنى لا محالة"!
بعدما انتهت الأغنية طلبها من الأبنودى ـ وهى من تأليفه ـ على شريط كاسيت ليسمعها مرة أخري. هز الأبنودى رأسه:" حاضر "!
*
( الغرفة ـ بعد 30 دقيقة)
حساب أمل فى خزنة المعهد لم يعد فيه سوى مائة جنيه.. من أجل ذلك كتب الدكتور يوسف إدريس مقالاً بالأهرام عنوانه:" بالله يا أمل لا تمت فكلنا فداؤك" بعده صدر قرار من مجلس الوزراء بعلاج(المواطن أمل دنقل) على نفقة الدولة - بالدرجة الثانية - دون مرافق - بنفقات قدرها( 1000 جنيه) - رفعت القيمة إلى( 3 آلاف) بعد ذلك - أمل رفض القرار كما رفض من قبله الالتماس! "وظل مستاء طويلاً من مكاتبة مجلس الوزراء إليه التى جاء فيها صيغة:(المواطن أمل دنقل نزيل معهد الأورام)!
*
(الغرفة ـ 40 دقيقة)
غادر الأبنودى الغرفة للبحث عن شريط كاسيت يحمل أغنية ( يا ناعسة) كما طلب أمل قبل قليل، فيما عاد الطفل كريم ليجلس بجواره بعض الوقت كما يفعل فى الصباح والمساء. بعد دقائق بكى الطفل أمامه من وخزات الحقنة كل يوم. بكاء الطفل أكثر من مرة" كان سبباً فى انفجاره يوماً بالبكاء قائلاً:" ما الذى جناه طفل فى الرابعة ليسكنه هذا العذاب" بعد دقائق غادر الطفل ـ كعادته ـ ودخل الشاعر عصام الغازى.
قال أمل دنقل:" لو سألتنى عن الموت، فأنا لا أخشاه، لكن أكثر ما يعذبنى فى موتى هو بكاء أمى وعذاب عبلة". ثم بعد فترة صمت قال: "لماذا أُصاب بالسرطان فى عام زواجى"؟.الغازى مازال صامتاً. وأمل والحزن يغلف صوته عاد يسأله: "لماذا يهاجمنى الموت فى زمان الفرح والهدوء"؟ قال ذلك ثم صمت قليلاً فيما هرب الغازى مسرعاً من جواره وهو يبكى حيث لم يحتمل البقاء فى هذا الجو الخانق، العاصف، المؤلم، المريع.
بعدها دخل الطفل كريم إليه ـ الآن يرى الغازى يخرج مندفعاً، باكياً ـ سأله بدهشة:" لماذا يبكى صديقك هكذا يا عمو أمل"؟
- نظر له ولم يرد! فيما ظل صوت محمد قنديل فى الغرفة يغنى:" خلصت منى القواله
والسهم اللى رمانى
جتلنى لا محالة"!
(كان أمل يعتقد أن الأبنودى ينعيه)!
*
(الغرفة ـ بعد 50 دقيقة)
الآن جاء الأبنودى بشريط الكاسيت. - " ضعه فى الجهاز يا عبد الرحمان وشغاله"!
بعد دقائق حضر جابر عصفور. استند أمل على ذراع عبلة وهو يرحب به:" أهلاَ يا دكتور.. أريدك أن تصحبنى عندما أموت وأدفن فى قريتى ( قرية القلعة/ محافظة قنا / فى صعيد مصر ـ وتصحب معك الأبنودي وعبلة طبعاً ( ما هذه الصلابة التى يتحدث بها رجل - ليس كأي رجل - وشاعر - ليس كأي شاعر - عن تفاصيل جنازته بهذا الهدوء والثبات واليقين)؟ثم يكمل قائلاً:" أرجو منك أن يكون الموقف عقلانى وهادئ"! لم يتحمل جابر عصفور الحديث، وعاد للخلف قليلاً، فيما خفتت أضواء الغرفة، وهدأت الحركة خارجها!
فى منتصف الليل جاء لزيارته ناصر الخطيب مدير مكتب صحيفة الرياض بالقاهرة. كان أمل قد دخل فى غيبوبة الموت."أيقظه الخطيب هامساً فى أذنه:" أمل.. قاوم!
فتح عينيه.. وبصعوبة فى النطق أجاب: "لا أملك سوى المقاومة"! ثم دخل فى غيبوبة الموت.. الآن مات أمل دنقل!
" من قال" لا".. فلم يمت!
وظل روحا عبقرية الألم!
*
( الغرفة ـ بعد 60 دقيقة)
عاد الطفل كريم للغرفة للجلوس معه مثل كل صباح. لم يجده!
الغرفة ليس بها سوى تصاوير معلقة على الجدران، وسرير بدون أغطية، وتربيزة بلا أدوية.! وهواء يدخل ويخرج من وراء ستائر الأحزان. جلس كريم دقائق بمفرده وحيداً ينتظر صديقه أمل الذى ربما سيعود بعد قليل.
دخلت إليه ممرضة ممتلئة الجسد. سألها:" أين عمو أمل"؟ بكت وهى تشيح بوجهها المحتقن عنه ثم خرجت مسرعة.
نظر الطفل إلى جهاز الكاسيت الذى مازال بجوار السرير. ضغط عليه مرة واثنين وثلاث حتى جاء صوت محمد قنديل:
" خلصت منى القواله
والسهم اللى رمانى
جتلنى لا محالة"!
حمل كريم الكاسيت، وخرج من الغرفة. الآن يمشى ببطء فى ممر طويل متجها إلى حجرته القريبة. كريم يهز رأسه مع موسيقى الأغنية دون أن يفهم المعنى الذى فهمه صديقه أمل قبل أن يرحل ويودع الحياة فى هذا الصباح البائس، الكئيب، فيما عادت الممرضة مرة أخرى، وأغلقت باب الغرفة، الذى تركه كريم مفتوحاً، بعدما كتبت - بقلم رصاص كان فى معطفها - اسم أمل دنقل بجوار رقم الغرفة(😎 ثم بخط أكبر منه خطت: ( لا تصالح) !


--------------------
خيري حسن.

• الأحداث حقيقية.. والسيناريو من خيال.
• إعادة نشر فى ذكري رحيل الشاعر الفذ أمل دنقل.


• الصور:
الشاعر أمل دنقل.
• الطفل كريم / الشاب - محمد سيف ( فى ظهوره للمرة الأولى حيث يعيش فى فرنسا الآن )
المصادر:
• الأعمال الكاملة للشاعر أمل دنقل( طبعة الهيئة العامة للكتاب / 1998)
• كتاب (الجنوبي).. عبلة الروينى طبعة/ الهيئة العامة لقصور الثقافة 2012.
• أمل دنقل - ذكريات ومقالات وصور - جابر عصفور - منشورات بتانة - طبعة 2017.
• كتاب ( أمل دنقل.. أمير شعراء الرفض)..نسيم مجلى.. طبعة مكتبة الأسرة - 2000.



347889805_1172896113601062_3600196535880591012_n.jpg


348601566_201796382678371_493093793653600869_n.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى