ذات مساء، قال هيكل لجمال عبدالناصر إن السياسيين فى الغرب لهم بيوت ريفية للاستجمام.. لا يعملون مثلك ليل نهار، حتى فى إجازتك الصيفية لا تخلو أيضاً من العمل.. فى البيت الريفى ينسون كل شىء، ولا تتصل بهم مكاتبهم إلا للضرورة القصوى.. وبعد التقاعد يجلسون فيها يكتبون مذكراتهم وذكرياتهم.. ثم توقف لحظة وقال قاصداً ثورة يوليو وما تلاها: «سنجلس معاً يوماً ما نكتب قصة ما جرى كله».. رد «عبدالناصر» مبتسماً: «ستكون حينئذ وحدك.. فلن أكون.. مثلى مثل الشمعة التى أشعلوها من الناحيتين.. ستنتهى بسرعة. عمرها أقصر مما نتخيل»!!
كان الرجل يعرف أن عمره قصير.. يُجمع مَن عرفه وعمل معه على كم الجهد الذى يبذله يومياً، حتى إنه كان ينام أقل من أربع ساعات يومياً ولم تكن له بعد توليه المسئولية من هوايات إلا التصوير السينمائى، خصوصاً فى الإجازات والمناسبات العائلية.. ويروى خالد عبدالناصر أنه قال له ذات مرة أيضاً، يقصد الغرب وأمريكا وكل خصومه: «لن يتركونى.. نهايتى إما مقتولاً أو سجيناً أو فى تُرب الغفير»!
فعلياً أصبح رئيساً للجمهورية وهو فى الثامنة والثلاثين.. وبعدها بعامين أصيب لأول مرة بالمرض الذى كان وقتذاك فى بداياته، وكان الأمر جرس إنذار كبيراً قبل أن يكون مرضاً خطيراً.. لكن بعد «يونيو ٦٧» تغير الحال.. وكانت الأزمة القلبية الخطيرة التى كادت تُنهى حياته فى صمت.. لكن تدخلت وقتها العناية الإلهية مع يقظة الأطباء إلى السيطرة عليها وتحجيمها، لكن أثرها بقى ولم يكن الأثر هيناً.. كانت الأزمة جلطة فى الشريان التاجى.. وكان مرشحاً لها، ليس فقط لإصابته بالسكرى.. بل لعمله بلا توقف.. وانفعاله الدائم بالأحداث، حتى إنه كان يتابع حتى أحداثاً صغيرة، تخص مواطنين بسطاء كحادث أسرة المنصورة التى انفجر فيها موقد كيروسين، فأيقظ وزير الداخلية شعراوى جمعة فجراً، ليتابع الأمر ويبلغه بالنتائج!
مثل هذه الانفعالات الدائمة، مع التدخين الشره، مع الإرهاق الدائم، مع أعباء بناء الجيش من جديد، وأخبار المعارك على الجبهة، والانفعال بأمل حرب الاستنزاف وقرب بشاير إزالة آثار العدوان واستعادة الأرض وبلوغ العمليات ضد العدو حداً غير مسبوق، كانت تصل لعشرات العمليات فى اليوم الواحد كان يتابعها جميعاً بالتفصيل، تماماً كما يتابع عمليات البناء التى تجرى سواء فى السد العالى أو مجمع ألومنيوم نجع حمادى أو كاتدرائية العباسية وغيرها من المشروعات الكبيرة بعد ٦٧، وكذلك الوضع اليومى لحياة المصريين من أسعار السلع إلى الحالة المعنوية لديهم ولدى أبناء القوات المسلحة على السواء، فمثلاً وطبقاً لرواية السيد سامى شرف، مدير مكتبه، فقد اجتمع الطبيبان منصور فايز ومحمود صلاح الدين وطلبا راحة تامة ثلاثة أسابيع على الأقل -لاحظ على الأقل- وبالفعل اعتكف عن العمل بضعة أيام لا تزيد على أصابع اليد الواحدة، وفى هذه الأيام استدعانا الرئيس إلى منزله، حيث أبلغنا بما قرره الأطباء وطلب منا: (أمين هويدى، السادات، شعراوى جمعة، هيكل وأنا) استمرار العمل بالأسلوب نفسه، وأن يذاع خبر بأن الرئيس مصاب بالإنفلونزا وأنه سيلزم الفراش بضعة أيام ولم يمر سوى يومين، حتى أصر على مقابلة السفير الروسى للحصول على معدات وقطع غيار سوفيتية للقوات الجوية والدفاع الجوى المصرى!!
كل ذلك مع وجود مرض السكرى الذى يتسبب فى أزمات قلبية مؤكدة، ومع ذلك لم يكن يغير من نمط حياته شيئاً.. حتى اشتدت آلام الأعصاب وشرايين الساق وبلغت حداً غير مسبوق فشلت معه المسكنات وفشل معه تدليك أطباء العلاج الطبيعى ولم يكن هناك من حل إلا السفر للعلاج!
الطبيب الروسى الشهير يفجينى تشازوف
يروى -مثلاً- قصته مع مرض «عبدالناصر» وكيف استدعته القيادة الروسية، ليفحص الرئيس فى موسكو وأبلغوه بأن الأمر مهم للغاية وأن عليه أن ينجز مهمته على عجل.. وبعد الفحص أبلغهم بأن حالة الرئيس لن تجدى معها عقاقير طبية، بل الأنسب عيون معدنية فى إحدى مدن جورجيا، وكانت مصحة تسخالطوبو الشهيرة التى قضى فيها الرئيس أياماً للعلاج، وفعلاً تحسن وقدم الشكر لأطبائه وللقادة الروس وعاد بصحة جيدة إلى القاهرة!
مع الأعباء السابقة، عادت الآلام وجاء «تشازوف» هذه المرة إلى القاهرة.. ويروى كيف كان الرئيس مهتماً بضيافته ومعيشته طوال إقامته بالقاهرة ويروى كيف كان يتابع الحالة الصحية مع نائبى الرئيس السادات وعلى صبرى، وكيف التقاهما مع الرئيس وأطبائه المصريين وأبلغهم بأن ضعفاً فى عضلة القلب قد جرى بفعل الجلطات السابقة -ولم تكن مذيبات الجلطات قد ظهرت ولا تطورت كما هو الحال الآن- ولا حل إلا بالالتزام بثلاثة تعليمات أساسية.. الأول: الامتناع تماماً عن التدخين، وكان «ناصر» يدخن ثلاث علب سجائر يومياً. الثانى: الامتناع عن الانفعال تماماً. الثالث: الامتناع عن العمل الشاق والإرهاق والالتزام برياضة المشى وكان ذلك سبباً فى إضافة حديقة كانت تتبع للقوات المسلحة لبيت الرئيس كى يمارس المشى فيها.
قال «تشازوف» منزعجاً على صحة الرئيس نصائحه وغادر بعد أن حذر من أى مخالفة لها.. وقرر الفريق الطبى المصرى أن ينصح الرئيس بإجازة طويلة.. قالوا شهراً.. ولأن الحوار كان راقياً بين «ناصر» وأطبائه كما رووا فى مذكراتهم وأحاديثهم وكيف كان يقدرهم ويهتم بأمورهم ويسأل عنهم، فقد تم التفاوض على المدة التى يمكن أن يقضيها الرئيس بعيداً عن أعباء المسئولية.. انخفضت من شهر إلى ثلاثة أسابيع.. ومن ثلاثة أساببع إلى عشرة أيام حداً أقصى من المستحيل أن يغيب بعدها عن العمل!
لم يجد الأطباء مفراً من الموافقة.. فقد كان مريضهم عنيداً.. استطاع، وهو المدخن لستين سيجارة يومياً، أن يتوقف عن التدخين.. لكن لا يستطيع الغياب عن المسئولية.. كانوا يستجيبون له بالمخالفة لأصول المهنة.. يحقنونه بناء على طلبه بالمسكنات أو بالمضادات الحيوية لكى يستطيع أن يعمل.. دون مراعاة خطورة ذلك، خصوصاً إن تحدثنا عن القلب والشرايين التى أرهقتها أحداث كثيرة، كان أبرزها استشهاد البطل عبدالمنعم رياض.. وكانت النتيجة أن وافقوا على الأيام العشرة بشعار أن «عشرة أيام أفضل من مفيش»!
غادر الرئيس القاهرة إلى مرسى مطروح.. ولم يمر يومان إلا ووقعت أحداث الأردن.. صراع مسلح على الأرض بين وجود فلسطينى مسلح متزايد، وبين دولة لها قرارها وكانت النتيجة قتالاً عنيفاً ودماء عربية بأيدٍ عربية، ووصلت الأنباء إلى الزعيم.. وعبثاً حاول الأطباء منعه من قطع إجازته.. القلب مرهق والشرايين تعانى.. وفشلوا.. فقد قال إنه يستحيل أن يترك نزيف الدم العربى مستمراً!
وفى القاهرة، كان ما يعرفه العالم وتعرفونه. قمة عربية عاجلة ورجاء بحضور الملك حسين وياسر عرفات وثلاثة أيام من السهر والاجتماعات والعمل الشاق المتصل لرجل صمموا فى بيته مصعداً لدور واحد منعه الأطباء من صعوده حرصاً على حياته! فكيف له أن يبقى ثلاثة أيام من غرفة إلى غرفة ومن ممر إلى ممر ومن مشاورات ومناقشات علنية إلى غيرها جانبية بلا نوم وبلا راحة؟! وكانت النتيجة التى توقعها هو نفسه بأن توقف القلب الكبير الطيب بعد أن قدم لأمته آخر عطاء منه لها وقد أعطاها الكثير والكثير.. ليرحل زعيم الأمة وقائد العرب ومحرر أفريقيا وحبيب الملايين وغيرها من ألقاب منحتها له الجماهير التى عشقته فى كل مكان.. وهو فى الثانية والخمسين من عمره!!!
----------------
احمد رفعت
a
كان الرجل يعرف أن عمره قصير.. يُجمع مَن عرفه وعمل معه على كم الجهد الذى يبذله يومياً، حتى إنه كان ينام أقل من أربع ساعات يومياً ولم تكن له بعد توليه المسئولية من هوايات إلا التصوير السينمائى، خصوصاً فى الإجازات والمناسبات العائلية.. ويروى خالد عبدالناصر أنه قال له ذات مرة أيضاً، يقصد الغرب وأمريكا وكل خصومه: «لن يتركونى.. نهايتى إما مقتولاً أو سجيناً أو فى تُرب الغفير»!
فعلياً أصبح رئيساً للجمهورية وهو فى الثامنة والثلاثين.. وبعدها بعامين أصيب لأول مرة بالمرض الذى كان وقتذاك فى بداياته، وكان الأمر جرس إنذار كبيراً قبل أن يكون مرضاً خطيراً.. لكن بعد «يونيو ٦٧» تغير الحال.. وكانت الأزمة القلبية الخطيرة التى كادت تُنهى حياته فى صمت.. لكن تدخلت وقتها العناية الإلهية مع يقظة الأطباء إلى السيطرة عليها وتحجيمها، لكن أثرها بقى ولم يكن الأثر هيناً.. كانت الأزمة جلطة فى الشريان التاجى.. وكان مرشحاً لها، ليس فقط لإصابته بالسكرى.. بل لعمله بلا توقف.. وانفعاله الدائم بالأحداث، حتى إنه كان يتابع حتى أحداثاً صغيرة، تخص مواطنين بسطاء كحادث أسرة المنصورة التى انفجر فيها موقد كيروسين، فأيقظ وزير الداخلية شعراوى جمعة فجراً، ليتابع الأمر ويبلغه بالنتائج!
مثل هذه الانفعالات الدائمة، مع التدخين الشره، مع الإرهاق الدائم، مع أعباء بناء الجيش من جديد، وأخبار المعارك على الجبهة، والانفعال بأمل حرب الاستنزاف وقرب بشاير إزالة آثار العدوان واستعادة الأرض وبلوغ العمليات ضد العدو حداً غير مسبوق، كانت تصل لعشرات العمليات فى اليوم الواحد كان يتابعها جميعاً بالتفصيل، تماماً كما يتابع عمليات البناء التى تجرى سواء فى السد العالى أو مجمع ألومنيوم نجع حمادى أو كاتدرائية العباسية وغيرها من المشروعات الكبيرة بعد ٦٧، وكذلك الوضع اليومى لحياة المصريين من أسعار السلع إلى الحالة المعنوية لديهم ولدى أبناء القوات المسلحة على السواء، فمثلاً وطبقاً لرواية السيد سامى شرف، مدير مكتبه، فقد اجتمع الطبيبان منصور فايز ومحمود صلاح الدين وطلبا راحة تامة ثلاثة أسابيع على الأقل -لاحظ على الأقل- وبالفعل اعتكف عن العمل بضعة أيام لا تزيد على أصابع اليد الواحدة، وفى هذه الأيام استدعانا الرئيس إلى منزله، حيث أبلغنا بما قرره الأطباء وطلب منا: (أمين هويدى، السادات، شعراوى جمعة، هيكل وأنا) استمرار العمل بالأسلوب نفسه، وأن يذاع خبر بأن الرئيس مصاب بالإنفلونزا وأنه سيلزم الفراش بضعة أيام ولم يمر سوى يومين، حتى أصر على مقابلة السفير الروسى للحصول على معدات وقطع غيار سوفيتية للقوات الجوية والدفاع الجوى المصرى!!
كل ذلك مع وجود مرض السكرى الذى يتسبب فى أزمات قلبية مؤكدة، ومع ذلك لم يكن يغير من نمط حياته شيئاً.. حتى اشتدت آلام الأعصاب وشرايين الساق وبلغت حداً غير مسبوق فشلت معه المسكنات وفشل معه تدليك أطباء العلاج الطبيعى ولم يكن هناك من حل إلا السفر للعلاج!
الطبيب الروسى الشهير يفجينى تشازوف
يروى -مثلاً- قصته مع مرض «عبدالناصر» وكيف استدعته القيادة الروسية، ليفحص الرئيس فى موسكو وأبلغوه بأن الأمر مهم للغاية وأن عليه أن ينجز مهمته على عجل.. وبعد الفحص أبلغهم بأن حالة الرئيس لن تجدى معها عقاقير طبية، بل الأنسب عيون معدنية فى إحدى مدن جورجيا، وكانت مصحة تسخالطوبو الشهيرة التى قضى فيها الرئيس أياماً للعلاج، وفعلاً تحسن وقدم الشكر لأطبائه وللقادة الروس وعاد بصحة جيدة إلى القاهرة!
مع الأعباء السابقة، عادت الآلام وجاء «تشازوف» هذه المرة إلى القاهرة.. ويروى كيف كان الرئيس مهتماً بضيافته ومعيشته طوال إقامته بالقاهرة ويروى كيف كان يتابع الحالة الصحية مع نائبى الرئيس السادات وعلى صبرى، وكيف التقاهما مع الرئيس وأطبائه المصريين وأبلغهم بأن ضعفاً فى عضلة القلب قد جرى بفعل الجلطات السابقة -ولم تكن مذيبات الجلطات قد ظهرت ولا تطورت كما هو الحال الآن- ولا حل إلا بالالتزام بثلاثة تعليمات أساسية.. الأول: الامتناع تماماً عن التدخين، وكان «ناصر» يدخن ثلاث علب سجائر يومياً. الثانى: الامتناع عن الانفعال تماماً. الثالث: الامتناع عن العمل الشاق والإرهاق والالتزام برياضة المشى وكان ذلك سبباً فى إضافة حديقة كانت تتبع للقوات المسلحة لبيت الرئيس كى يمارس المشى فيها.
قال «تشازوف» منزعجاً على صحة الرئيس نصائحه وغادر بعد أن حذر من أى مخالفة لها.. وقرر الفريق الطبى المصرى أن ينصح الرئيس بإجازة طويلة.. قالوا شهراً.. ولأن الحوار كان راقياً بين «ناصر» وأطبائه كما رووا فى مذكراتهم وأحاديثهم وكيف كان يقدرهم ويهتم بأمورهم ويسأل عنهم، فقد تم التفاوض على المدة التى يمكن أن يقضيها الرئيس بعيداً عن أعباء المسئولية.. انخفضت من شهر إلى ثلاثة أسابيع.. ومن ثلاثة أساببع إلى عشرة أيام حداً أقصى من المستحيل أن يغيب بعدها عن العمل!
لم يجد الأطباء مفراً من الموافقة.. فقد كان مريضهم عنيداً.. استطاع، وهو المدخن لستين سيجارة يومياً، أن يتوقف عن التدخين.. لكن لا يستطيع الغياب عن المسئولية.. كانوا يستجيبون له بالمخالفة لأصول المهنة.. يحقنونه بناء على طلبه بالمسكنات أو بالمضادات الحيوية لكى يستطيع أن يعمل.. دون مراعاة خطورة ذلك، خصوصاً إن تحدثنا عن القلب والشرايين التى أرهقتها أحداث كثيرة، كان أبرزها استشهاد البطل عبدالمنعم رياض.. وكانت النتيجة أن وافقوا على الأيام العشرة بشعار أن «عشرة أيام أفضل من مفيش»!
غادر الرئيس القاهرة إلى مرسى مطروح.. ولم يمر يومان إلا ووقعت أحداث الأردن.. صراع مسلح على الأرض بين وجود فلسطينى مسلح متزايد، وبين دولة لها قرارها وكانت النتيجة قتالاً عنيفاً ودماء عربية بأيدٍ عربية، ووصلت الأنباء إلى الزعيم.. وعبثاً حاول الأطباء منعه من قطع إجازته.. القلب مرهق والشرايين تعانى.. وفشلوا.. فقد قال إنه يستحيل أن يترك نزيف الدم العربى مستمراً!
وفى القاهرة، كان ما يعرفه العالم وتعرفونه. قمة عربية عاجلة ورجاء بحضور الملك حسين وياسر عرفات وثلاثة أيام من السهر والاجتماعات والعمل الشاق المتصل لرجل صمموا فى بيته مصعداً لدور واحد منعه الأطباء من صعوده حرصاً على حياته! فكيف له أن يبقى ثلاثة أيام من غرفة إلى غرفة ومن ممر إلى ممر ومن مشاورات ومناقشات علنية إلى غيرها جانبية بلا نوم وبلا راحة؟! وكانت النتيجة التى توقعها هو نفسه بأن توقف القلب الكبير الطيب بعد أن قدم لأمته آخر عطاء منه لها وقد أعطاها الكثير والكثير.. ليرحل زعيم الأمة وقائد العرب ومحرر أفريقيا وحبيب الملايين وغيرها من ألقاب منحتها له الجماهير التى عشقته فى كل مكان.. وهو فى الثانية والخمسين من عمره!!!
----------------
احمد رفعت
a