بهجت العبيدي - النزعة الفولتيرية في تراجم علي زين العابدين

تعرفت عليه منذ فترة ليست بالبعيدة، لفت انتباهي برقي حديثه، وعظيم وفائه، وفائق تصميمه، ونأيه بنفسه عن مهاترات المساجلات على مواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت أحد أهم الوسائل لعرض الإنتاج الفكري والأدبي يؤكد ذلك حينما يذكر نفسه: لقد وصفتُ بأنني أكتب "كتابة آمنة" بعيدة عن الدخول في أيّ معارك جانبية ... إنه الدكتور على زين العابدين الحسيني الذي جمعني به النشر في صحيفة الأمة العربية الجزائرية ومجلة الديوان الجديد المصرية، وكلاهما من المنابر الإعلامية الثقافية والفكرية الجادة، ومن هنا كان للقدر دور في التعرف على إنتاجه الغزير، ومنهجه الرصين، فأحرص حرصا شديدا على قراءة ما ينشره، ليس في المنبرين فحسب، بل في كافة المنصات الإعلامية التي تتعاون معه.
الرجل عظيم الوفاء لأستاذه وأستاذنا جميعا الأستاذ الدكتور محمد رجب البيومي الذي شاءت الأقدار أن أكون جارا له وأنا أقيم في مدينة المنصورة للدراسة في كلية الآداب، وكم كنت أتابع الرجل: الأديب والمفكر والشاعر والمؤرخ في حركاته وسكناته كلما سنحت الفرصة لذلك، والرجل الراحل كان نموذجا فريدا في كل شيء، ولم أكن أعرف علاقة الدكتور علي زين العابدين الحسيني بالرجل وهي علاقة تلمذة من ناحية وبنوة من ناحية أخرى، وبمجرد التعرف على الدكتور علي إلا وأهاج الذكريات في نفسي فإذا بالمؤرخ الكبير أمام عيني يضع الأكل لقطته التي كانت تتمسح به في "بلكونة" منزله وهو يرتدي "الروب الصوف" في شتاء المنصورة غير قارس البرودة، وإذا بصوت الرجل يرن في أذني وهو يهاتف إحدى الصحف التي تأخرت في نشر مقال أو قصيدة له، وانفعاله الشديد لهذا التأخير وكأني بمن هو على الخط في الناحية الأخرى يقدم الاعتذار بعد الاعتذار ليمنحه الأديب الكبيرة فرصة في حزم شديد للعدد القادم!... أهاج الدكتور علي كل تلك الذكريات في نفسي فأعادني شابا يافعا يراقب الكبار متأملا ومتعلما.
الدكتور علي الحسيني اختار منهجا وعرا للتراجم، لا يقدر عليه إلا هؤلاء الذين يمتلكون التصميم والعزيمة فضلا عن المنهج الصارم والعلم الواسع، فالرجل كان بإمكانه أن يسلك من الطرق أيسرها: فيقدم السيرة الذاتية لهذا العالم أو ذاك، ولهذا الأديب أو ذلك، ولهذا المبدع أو غيره كما يفعل الغالبية العظمى من أصحاب التراجم، ولكن لأن الرجل ابن مدرسة عربية عريقة في هذا الشأن حيث تتلمذ عمن يفخر بهم أيما فخر وفي مقدمتهم الأب والمعلم القدوة رجب البيومي والذي هو امتداد لمدرسة أحد أكبر كتابنا عباس محمود العقاد و أحمد تيمور باشا فلقد اختار أن يكون وفيا لهذه المدرسة التي لا يستهويها البسيط من العمل ولا السهل من الطريق، بل لأنهم أصحاب همم وعزم فيسلكون الطريق الوعرة التي لا يستطيعها إلا من يملك لها العدة والزاد هذا الذي يملكه الدكتور علي زين الدين الحسيني، هذه الطريقة التي، كما يقول هو نفسه: هي قائمة على ذكر المواقف والتحليل النفسي للشخصيات والبعد الاجتماعي لبعض الأفعال، تلك هي التراجم التي حق أن نفتخر بها؛ لأنّها من كتابات الأمم الباقية. في ذات الوقت الذي يطالب القارئ ألا ينتظر منه نقدا صارما ولا معارضة واخذة لمن يترجم عنهم وذلك لأن اختياره لهم كان لما يتمتعون من مزايا فيقول موجها الكلام لقارئه: "ولن ينتظر مني القارئ نقداً صارماً، أو معارضة واخزة؛ لأن الحديث هنا عن أحباء اصطفيتهم لنفسي، وما وقع اختياري عليهم إلّا لمزايا رفيعة يتحلون بها".
إذن فلقد حدد الرجل منهجه بوضوح شديد وإنا نزعم أنه من خلال تدقيقنا لهذا المنهج أن ما يهم الباحث هو تقديم رؤية شاملة عن هؤلاء الذين يختارهم للترجمة عنهم، وإنا نذهب إلى أن ما يشغله هو تقديم الإنتاج العقلي لهم في بانوراما تعكس واقعهم مرة والتأثيرات الحياتية التي كانت عاملا حاسما في هذا الإنتاج العقلي "الراقي"، من وجهة نظر المترجم، مرة أخرى.
إن هذه الطريق التي اختارها لتذكرني برؤية الكاتب الفرنسي الشهير فولتير: فرانسوا ماري آروويه (بالفرنسية: François-Marie Arouet)‏ ويُعرف باسم شهرته فولتير (بالفرنسية: Voltaire)‏. ‏ (21 نوفمبر 1694 – 30 مايو 1778 م) هو كاتب وفيلسوف فرنسي عـاش خلال عصر التنوير. عُرف بنقده الساخر، وذاع صيته بسبب سخريته الفلسفية الطريفة ودفاعه عن الحريات المدنية خاصة حرية العقيدة والمساواة وكرامة الإنسان. فلقد كان يرى أن التاريخ الحقيقي هو للعقول الفذة التي أثرت في الإنسانية، هذا الذي يمكن أن نجد له انعكاسا في منهج علي الحسيني الذي يهتم اهتماما كبيرا بما يقدمه هؤلاء الأعلام الذين يترجم لهم فهو هنا يشترك مع الكاتب الفرنسي الشهير الذي يرى أن الأصل، في كل أحداث التاريخ، هو العقل والتقدم الفكري، فالعقل، عند فولتير، هو الذي يقود المسيرة الإنسانية، ويمكننا أن نستنتج، ببساطة شديدة، أن قادة التاريخ، كما يرى فولتير، هم المفكرون والفلاسفة والحكماء، وليسوا هم هؤلاء القادة العسكريين أو أولئك الحكام، كما كان سائدا من قبل.
هذا الذي يؤكده في إحدى رسائله عن التاريخ فيقول فولتير: ليس هدفي هو التأريخ السياسي والحربي بل تأريخ الحضارة وتأريخ العقل الإنساني، وإني لأوثر إبداعات موليير وراسين وديكارت، على سبيل المثال، على كل المعارك الحربية للويس الرابع عشر (بالفرنسية: Louis XIV)‏‏ (5 سبتمبر 1638 - 1 سبتمبر 1715م). ملك فرنسا منذ 14 مايو 1643م حتى وفاته، فلم يبق من هؤلاء قادة الجيوش والأساطير اليوم إلا أسماؤهم، وقصص مئات المعارك التي خاضوها، التي لا ثمر يجنيه إنسانُ اليوم أو المستقبل منها، أما رجال التاريخ العظماء، فقد انتفع واستفاد ويستفيد منهم البشر منذ زمانهم ولغاية اليوم، فقناة تربط بين بحرين أو لوحة بريشة فنان أو مسرحية رائعة يكتبها شاعر أو حقيقة فكرية أو علمية يكشف عالمٌ عنها اللثام، لأثمن ألف مرة من جميع تاريخ الملوك وكل حكايات وقصص الحرب.
ويظهر رأيه بوضوح شديد في إحدى المناقشات بين بعض المفكرين والتي وكان حاضرا بها، والتي كان موضوعها: أي الرجال التاريخيين هو الأعظم؟!.
فرأى البعض أن "الإسكندر المقدوني" هو أعظم شخصية تاريخية، وهناك من رأى في "تيمور لانك" أنه الأعظم تاريخيا، وغيرهما من الشخصيات التاريخية البارزة كانت اختيار هذه الثلة من المفكرين، أما فولتير - في كتابه رسائل فلسفية - فكان له رأي آخر حيث ذكر أن إسحاق نيوتن هو أعظمهم على الإطلاق، فالعظمة هنا في العبقرية تلك التي يسعى صديقنا علي الحسيني في إبرازها. حيث يؤمن ونحن نؤمن معه: أنّ التاريخ لا يغفل عن جهود الحريصين مهما كانت ضعيفة في نظر البعض، إذ لا يزال الحريص المجد يعمل في العمل الضعيف شيئاً فشيئاً إلى أن يصير قوياً عظيماً


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى