أبووردة السعدني - الصراع العثماني المملوكي بين ابن إياس وابن الحمصي

....يحمل كثير من المؤرخين على المؤرخ المصري محمد بن إياس الحنفي - ت 930 /1523 - لسخطه الشديد على العثمانيين لقضائهم على دولة سلاطين المماليك نهائيا سنة 923 /1517 ، ويتناسون أن ابن إياس مملوكي الأصل ، ولست هنا في مقام الدفاع عنه ، لكن محاولة تجريده من مشاعره ظلم بين له ، كما أن تلاحق وقوع الأحداث وتسجيله لها لحظة بلحظة ، أوقعه - لا ريب - في أخطاء كثيرة !!...

.... وإذا كان ابن إياس قد افتقر إلى التجرد والحيادية في تأريخه لتلك المرحلة المهمة في تاريخ العالم الإسلامي ، فإن مؤرخا شاميا قد شاطره السخط على العثمانيين ، ورأى أن السلطان العثماني سليم الأول - ت926 /1520 - كان " له غرض في مملكة العرب وأخذها من أيدي الجراكسة " !! ، على النقيض من موقف عدد من علماء الشام الذين كاتبوا السلطان سليم الأول ، يرجونه تخليص بلادهم من جور المماليك ، وأحسنوا استقباله ولقبوه ب " بحامي الحرمين الشريفين " إثر انتصاره في معركة مرج دابق سنة922/1516 !! ....

... المؤرخ الذي نعنيه : ابن الحمصي الدمشقي الشافعي - ت934 / 1527 - من كبار علماء دمشق ، تولى مناصب قضائية في دمشق وفي القاهرة ، كان خطيبا للجامع الأموي في دمشق ، وخطب للسلطان قانصوة الغوري في جامع قلعة الجبل بالقاهرة ، وكان الغوري يختار تقديمه لفصاحته ونداوة صوته....

...عاصر ابن الحمصي الصراع العثماني المملوكي ، وسجل أحداث ذلك الصراع في كتاب عنوانه " حوادث الزمان ووفيات الشيوخ والأقران " ، وله كتاب آخر مفقود عنوانه " التاريخ الكبير " ....

..... وقف ابن الحمصي موقف الرفض للعثمانيين ، وأكد أن لهم " غرضا في مملكة العرب وأخذها من أيدي الجراكسة " - كما سبق أن ذكرنا - ، وأن السلطان المملوكي قانصوه الغوري حاول دفع غائلة العثمانيين عن سلطنته بوسائل عدة ، منها :

.... أرسل أميرا مملوكيا كبيرا بهدايا فاخرة ، لتهنئة السلطان سليم الأول بجلوسه على عرش الدولة العثمانية سنة 918 /1512 ، في محاولة منه لمد جسور السلم بينه وبين السلطان العثماني ...

.... ومنها : أن السلطان الغوري جهز فرقة عسكرية مملوكية ، قوامها أربعة آلاف جندي لمساعدة السلطان سليم الأول في معركة جالديران ضد الشاه إسماعيل الصفوي سنة 920 /1514 ، وتلك رواية انفرد بذكرها ابن الحمصي لم نقرأها في مصدر تاريخي آخر ، عقب على الرواية المذكورة قائلاً : إن الغوري أراد " أن يظهر له - أي لسليم الأول -- المساعدة ليدفعه عن مملكته ، وأن يصير له جميلة على ملك الروم ويحفظ أطراف بلاده "....

.... وقعت الواقعة ، وفقد الغوري ، ولم يعثر له على أثر بعد أن وضعت الحرب أوزارها في مرج دابق ، فحزن ابن الحمصي على الغوري حزنا شديدا ، مادحا فروسيته وشجاعته ، التي لا تقل عن فروسية وشجاعة الصحابي المخضرم قيس بن عاصم التميمي - ت47 /667 - الذي أكرمه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله : هذا سيد أهل الوبر ، والذي قيل في رثائه :
وما كان قيس هلكه هلك واحد
ولكنه بنيان قوم تهدما

.... هكذا رأى ابن الحمصي هلاك الغوري " بنيان قوم تهدما " ، فترحم عليه قائلاً : " رحمه الله وعفا عنه ، وجعله من الخلفاء الراشدين ، والأئمة العادلين ، وعوضه عن ملك الدنيا ملكا ومكانا عليا في الآخرة. ..."

.... وحين توفي خاير بك المملوكي ، أول حاكم لمصر في العصر العثماني سنة 928 /1522 ، لم يترحم عليه ابن الحمصي ، وإنما دعا عليه بسبب خيانته لسيده السلطان الغوري ، قائلاً : لا رحمه الله ، ولا عفا عنه ، فإنه كان من الخائنين !!.....

.... وأخيرا : ألا تعضد رواية ابن الحمصي ما أورده عدد من المؤرخين : أن العثمانيين كانوا قد عقدوا العزم على القضاء على دولة سلاطين المماليك منذ عهد السلطان محمد الفاتح ، الذي كان قد أزمع على قيادة جيش لتحقيق تلك الرغبة ، بسبب رفض المماليك طلبه بتعمير طريق الحج ، لكن المنية عاجلته سنة 886 /1481 ؟! .....

..................

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى