د. أحمد الحطاب - التَّنوُّع البيولوجي في القرآن الكريم (الجزء الثاني)

كما وعدتكم، هذا هو الجزء الثاني من مقالة "التَّنوُّع البيولوجي في القرآن الكريم" التي نشرتُها على صفحتي يوم الخميس 25 مايو 2023. القرَّاء الذين لم يطَّلعوا على الجزء الأول من المقالة ولهم رغبة في الإطلاع على الجزء الثاني، قد يكون من المفيد أن يطَّلعوا على الجزء الأول، وخصوصا أنه يحتوي على بعض الآيات القرآنية التي لها علاقة بالتَّنوُّع البيولوجي. إليكم الجزء الثاني:

إن القرآنَ الكريمَ يعطي أهمِّيةً كبيرةً لتنوُّع الحياة (التَّنوُّع البيولوجي) حيث يُشير (أي يُلمِّح دون الدخول في التَّفاصيل) لاختلاف النباتات والحيوانات. ولو أن أكثرَ الآيات تُشير إلى التَّنوُّع النباتي، فهناك الآية 45 من سورة النور، التي تشير إلى التَّنوُّع الحيواني. وإن اقتصرت هذه الآية على ذكر بعض الحيوانات، فإن اللهَ سبحانه وتعالى يُنهي هذه الآية بقوله : "يَخلق ما يشاء إن اللهَ على كل شيءٍ قدير". وهذا معناه أن عدمَ الإشارة إلى جميع أنواع الحيوانات والنباتات، في القرآن الكريم، يجب أن لا يُفسَّرَ بالقتصار التَّنوُّع البيولوجي على ما جاءت به هذه الآيات الكريمة.

إن اللهَ سبحانه وتعالى يقول : "وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا…" (إبراهيم، 34). كما يقول سبحانه وتعالى : "وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (النحل، 8). فإن دلَّت هذه الآيات على شيء، فإنها تدل على أن اللهَ نوَّعَ الخلقَ لكن الإنسانَ لم يستطع أن يتعرَّفَ عليه كلَّه. وهذا هو ما أثبته العلمُ اليوم حيث أن عددَ أنواع الحشرات مثلا يُقدَّر ب30000000 نوع بينما لا يعرف العلماء والباخثون، إلى حد الآن، إلا ما يُناهز 800000 نوع. أما أنواع الكائنات اللافقارية والمجهرية، فيُقدَّرُ عددُها ب3000000 بينما تم، إلى حد الآن، التَّعرُّف على ما يُماهز 300000 نوع. يقول سبحانه وتعالى : "سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (يس، 36).

إن مفهومَ تنوُّع الحياة أصبح اليوم يحتلُّ الصدارةَ في الأوساط العلمية وغير العلمية التي تهتم بشؤون البيئة. ولا داعيَ للقول أن هذا الاهتمامَ تزامن مع إدراك الإنسان للدور الحاسم الذي يلعبه التَّنوُّع البيولوجي في استمرار دورة الحياة. وهنا، تجدر الإشارةُ إلى أن مفهومَ تنوُّع الحياة لا يمكن فصلُه عن مفهومي شمولية البيئة والتَّوازن. إن التَّنوُّعَ البيولوجي واحد من العوامل الأساسية الشمولية التي تساهم في توازن المحيط البيئي écosphère الذي يتكوَّن من الجو ومن سطح القارات ومن ماء المحيطات والبحار إضافةً إلى ضوء الشمس والمحيط الحيوي biospohère الذي يتكوَّن من جميع أنواع الكائنات الحية. يقول سبحانه وتعالى : "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (البقرة، 164).

إن هذه الآية توحي بشمولية البيئة حيث أشار فيها الحق سبحانه وتعالى إلى العناصر المادية والحية التي تتكوَّن منها هذه البيئة من جو (سماء) وأرض (سطح الأرض) وماء وكائنات حية. وحينما يقول سبحانه وتعالى في نفس الآية : "لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ"، فإنه يدعو عبادَه للتَّأمُّلِ والتَّمعُّن في مكوِّنات هذا الكون وفي العلاقات القائمة بينها. وحينما يقول سبحانه وتعالى في نفس الآية، "وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ"، فهذه إشارة للتَّنوُّع البيولوجي الذي على الإنسان أن يتأمَّلَ فيه كواحد من عناصر وحدة هذا الكون وشموليته.

إن التَّنوُّعَ البيولوجي لا يمكن، على المدى الطويل، أن يتساكنَ مع نمط التنمية الذي يحرِّك عالمَ الإنسان الاقتصادي Homo économicus. وإن استمرت الحالة على ما هي عليه اليوم من دمار وخراب للأوساط الطبيعية، قد يصعب على الإنسان تبنِّي الاستدامة في تنميته ما دام التنوُّع البيولوجي هو أساس هذه التنمية. فلنتذكَّر هنا ما حدث للثور الوحشي le bison الذي كانت أعدادُه تتراوح بين 50 و مائة مليون رأس، حينما نقل الإنسانُ الغربي نمطَ تنميته إلى أمريكا الشمالية. لقد سقطت الثيرانُ بالآلاف من أجل الحصول على جلودها ومن جراء غزو الأراضي من أجل إقامة السكك الحديدية والضيعات الواسعة الأطراف والمنشآت العُمرانية والصناعية.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى