نوال السعداوي - ومات الحب .. قصة قصيرة

كنت أجلس على حافة السرير بجواره، وهو نائم.. عيناه مغمضتان.. عيناه الحبيبتان اللتان كنت أنظر فيهما ، فتشرق الدنيا في عيني.. عيناه السوداوان يكسو بياضهما دائما حمرة خفيفة ، تضفى على نظراته قوة، وصدق عاطفة .. وملامحه كلها نائمة غائبة في ملكوت آخر..
ومددت يدى فى رهبة، وتحسست جبينه.. وسرت في جسمي قشعريرة باردة .. وانتقلت أصابعي في غير وعى تتحسس خديه، وأنفه، وشفتيه وجفنيه. ولم أدر كيف اشتقت لأن أنظر في عينيه.. لأن أرى ولو لمرة واحدة سواد عينيه الحبيب ، الذى كنت أنظر فيه ، فأرى الدنيا بأسرها تشرق وتبتهج. ووجدت أصابعي تفتح الجفنين في تهيب.. وانحسر الجفنان عن عينيه .. ورأيت سوادهما نائماً غائماً.. ليست فيه حياة.. وليست فيه دنيا تشرق.. وليس فيه أى شئ.. سواد ميت غارق في بياض میت.. شئ كروى أسود!.. جماد!..
لا .. لا ! .. وانطلقت مِنى صرخة لم يسمعها أحد ، الا أعماقي الحزينة المفجوعة.. وتركت أصابعى جفنيه ، فأنزلتا على عينيه كالستائر تخفيهما عنى، وكأنما أشفقا علىَ من التحديق فيهما...
وانتفضت .. إن عقلى يأبى أن يقبل هذا الواقع الشاذ الذي يشبه الخيال. لقد كان أبي منذ دقائق يملأ هذا البيت نشاطاً، ومرحاً، وحياة!.. لقد كانت عيناه تتألقان ببريق يعكس الدنيا بكل صورها.. كيف ؟ . كيف تخمد هذه الحياة فجأة ؟ . كيف تنطفئ هاتان العينان، وتصبحان قطعتين كرويتين من جماد ؟ .أهذا هو الذي يسميه الناس موتا ؟..
وأحسست بدموع ساخنة تجرى على وجهي.. ورأيت وجه أبي يشحب عما كان، واتخذت ملامحه شكلاً رصيناً رهيباً.. كأنها ملامح تمثال نُحت من الجرانيت.. وأمسكت وجهه البارد في يدى، وقربت شفتي من بشرته، وقبلته، وهمست في أذنه، " أبي. أين أنت ؟ . هل تسمعني؟.. إنني أحبك " . وشعرت براحة بعض الشئ.. كأن كلماتي من صدقها، وحرارتها، أذابت جليد الموت، وبعثت في أذنيه الحياة فسمعني.. وابتسمت وعانقته.. وأخذت اتحسس جيوبه.، وكان لا يزال بالمنامة الجديدة التي اشتراها بالأمس.. ووضعت يدى في جيب الساعة العلوى فوجدت نظارته، وقلمه، وعلبة سجائره .. وخفق قلبي من الدهشة.. هذه الأشياء ! . أشياؤه ! .. تؤكد لى أنه لم يمت ، لأنها تعيش في جيبه حية تنتظره!.. وتأملت نظارته.. وخيل إلىَ أن فيها حياة.. أن فيها عينيه تنظران.. ونظرت الى قلمه الحبر.. ورأيت أصابعه تلتف حوله تكتب.. وارتعشت أصابعي، وأنا أعيد هذه الأشياء إلى مكانها في جيبه. وأزحت الملاءة عنه قليلاً ، لأبحث عن يديه وأمسكت أصابعه بأصابعي .. آه !.. وأمسكت يده بكلتا يدى، ووضعت وجهى فى راحته الكبيرة، وبكيت..
ولم أدر إلا بيد على كتفى.. فوقفت .. وغطيت أبي بالملاءة حتى وجهه، وأغلقت عليه الحجرة.. لا أريد أن يرى أحد أبي وهو راقد شاحب ضعيف.. إن الضعف عورة.. ولا أريد أن يرى أحد عورة أبي.. أبي الرجل القوى.. العملاق.. الذي علمني كيف أمشى، وكيف أتكلم، وكيف أحب. كنت أجلس الى جواره كل ليلة ، وأستمع الى حديثه العذب، وهو يشرح لى كل شئ.. حتى الحب !. وكان بطبيعته فناناً يعشق الفن.. وفى ليلة سألته: " ماذا تفعل يا أبي لو عرفت أننى أحب " .. وكان يجلس بجوار المدفأة، فنظر إلىَ مدققاً ثم قال: " لاشئ. المهم أن يكون إنساناً يستحق هذا الحب ".
وسألته: " وكيف أعرف أنه يستحق ؟ " .
قال: " مادمت لا تعرفين فهو لا يستحق ؟ " .
وسمعت في البيت ضجة، وصخباً. ورأيت أناساً كثيرين، رأيتهم من قبل، يلبسون السواد ، يروحون ، ويجيئون لا أدرى لِم ؟ .. وبعد وقت لم أعرف مداه رأيت الرجال يحملون أبى فى صندوق خشبي، ونزلوا به إلى الشارع.. وانطلقت العربة .. وكنت أجلس فى العربة نفسها بجوار الصندوق.. ولم أكن أبكى.. لكن شيئاً ثقيلاً كان جاثماً على صدرى ، يقبض على قلبي بيد من حديد.. ونظرت من نافذة العربة الى الطريق ، فوجدت الحياة على أشدها.. الناس يجرون ، والعربات تتسابق، والشوارع كلها مليئة بالصخب والسعى والكفاح.. وتراخت اليد الحديدية عن قلبي بعض الشئ ، وجذبت نفسا عميقا من هواء الشارع. ثم نظرت إلى داخل العربة فوجدت صندوق الموت، يحمل أبي.. فعادت اليد الحديدية تقبض على قلبي من جديد..
وسارت عربة الموت وسط عربات الحياة السريعة.. وأنا أجلس داخلها أجتر آلامى وأحزانى.. وأخيراً وصلنا .. وأنزل الرجال صندوق أبي ووضعوه على الأرض، ثم فتحوه وحملقت داخل الصندوق لأرى أبى، وخفق قلبي خفقة عنيفة كأنه يفزع بها كل دمه.. ورأيت أبي ملفوفاً فى أقمشة بيضاء لا تظهر منه شيئاً.. وحملوه. وأدخلوه في حفرة صغيرة، ثم أهالوا عليه التراب، وتلفت حولى فى ذعر.. كأن الدنيا قـد خـوت وأقفرت.. أو كأن ريحاً عاتية أقبلت واقتلعت أبي، فأصبحت أنا في مهب الريح أنتظر دورى.. ورأيت الرجال ينفضون عن ملابسهم. وأيديهم، التراب فى آلية غريبة. وكأنهم فرغوا من وجبة غذاء عادية. ولم يواروا الثرى إنساناً ، كان هو بصرى وسمعى وحياتى..
وبقيت وحدى كالمذهولة أحملق في الحفرة الصغيرة التي ابتلعت أبي. أهكذا ؟! أهكذا ينتهى الإنسان؟! . أهكذا ينتهى أبي .. الرجل القوى الجبار الذي كنت أنظر إليه كعملاق تطاول هامته السماء؟! . أهكذا ينتهى به المطاف ، إلى أن يرقد في حفرة من التراب؟! .
لا!.. لا..! .. صرخت من أعماقى فى ثورة. واندفعت الى مكان الحفرة، وأخذت أنبش بأصابعي في عصبية تشبه الجنون .. لا!. إنني لا أقبل هذا !. إنها نهاية قاسية ! . لا أقبلها أبداً .. سأتحداها.. سأنبش حتى أفتح هذه الحفرة، وأخرج أبى منها ! . وأحسست بثورة في أعماقي تندلع وتضطرم.. ثورة على الحياة .. وثورة على الموت .. وثورة على ..
وأفقت على يد تسحبني، وصوت يقول لى: " هيا بنا نعد " وعدت مع اليد ، التي سحبتني أنظر إلى الحياة شزراً.. وأنظر إلى الناس شرزاً. وأسخر في أعماقي من جريهم، وحماسهم، وأقول لهم فى نفسى :" كفى .. كفى .. كفاكم جهلا وجريا.. ألا تعلمون ما نهايتكم؟ ... حفرة في التراب .. تراب يهال عليكم.. تراب في تراب ! .."
ولم ألبس السواد.. كان موت أبى .. بل مشكلة الموت نفسها تحتل تفكيرى كله حتى أننى كنت أضع ملابسى على جسمى بلا وعي، ولا أكاد أعرف لون الرداء الذي أرتديه ..
وجاءني صوته فى التليفون حزيناً، معزياً، مخففا .. والحقيقة أن هزة الموت أنستنى هذا الصوت فترة .. لكنى رغم ذلك كنت أنتظره.. كنت اتلمس شيئاً قوياً من الحياة يعيدنى إليها .. شيئا عنيفاً يهزني فتسقط عنى بعض الشئ ،غشاوة الموت القائمة ... وما من شئ يستطيع أن يفعل ذلك ، إلا الحب.
وقلت له وأنا أتشبث ببقايا حماس في قلبي : " أريد أن أراك. " قلتها ببساطة.. وكانت المرة الأولى التى أقول له فيها أريد أن أراك .. كنت أشعر أحياناً برغية في النطق بها، لكن شيئاً ما فى أعماقي يمنعنى، فأقول شيئاً غيرها، أو عكسها، أو لا أقول شيئاً على الإطلاق.. لكنى بعد أن شهدت الموت ، رأيت الحياة أبسط وأتفه من أن أكتم في صدري ، كلمة أريد أن أنطق بها ..
ودعانى الى بيته.. وترددت قليلاً، ثم وافقت.. ولبست ملابسي بإهمال ، زاد بعد موت أبي عماً عهدته فى نفسى.. ولم أضع على وجهي أية مساحيق.. ونظرت إلى عينى طويلا فى المرآة ، وقلت لنفسي : " ليس في الحال شئ يبعث على الذعر ، حتى ذهابي إلى بيته!..".
ووصلت إلى بيته دون مشقة كبيرة.. وفتح لى الباب.. ورأيته لأول مرة بعد موت أبي.. ولا أدرى تماما ماذا كان وقع منظره علىَ وهو في بيته.. هل ضاعت هيبته الجميلة التي كنت أهواها فيه، أم أن موت أبي ، أضاع هيبة الحياة بكل ما فيها حتى هو ؟ !..
وقال بعد أن تكلمنا قليلاً : " لم أعهدك فاترة كاليوم.".
وقلت : " لقد جعل الموت الحياة باهتة في عينىَ ."
فقال: " بالعكس. إن الموت يجعل الحياة في عينيَ زاهية ".
تصورى لو أننا نعيش الى الأبد، كيف تكون هناك حياة ، إذا لم يكن هناك موت ؟. وعلى كل ، فإن الموت مصيره إلى الموت كما قال طاغور."
واقترب مِنى قليلاً وقال: " لم أكن أتصور أن شيئاً ما في العالم ، يستطيع أن يغرس الحزن فى عينيك .. لم يكن التشاؤم أحد صفاتك. ".
قلت : بل إن التشاؤم أحد صفاتي ".
ولا أدرى لماذ يثير الرجل حزن المرأة .. لعله يرى فيه نوعاً من الضعف أو الأنوثة.. ورأيته يقترب مِنى اكثر.. ويأخذ يدى فى يديه، ويقبلها .. وهمس قائلا :" أحبك ". وكأننى لم أسمع كلمته.. ولم أحس قبلته.. فلم تهتز خلية واحدة في جسمى.. وشعرت بالصقيع يحوطني من داخلي، وخارجى.. ولم أجد فى نفسى شيئاً من الحرارة ، حتى لأسحب يدى من وهمس يده.
كان عقلى قد تجمد عند فكرة الموت، ووقف عندها ينظر إلى الحياة شزرا، ويرى كل ما فيها تافهاً حتى الحب.. فلا هو يعارض، ولا هو يحبذ .. يستسلم لما يحدث فى سلبية مطلقة تشبه الموت.
ورأيته يبتعد عِنى ثم يقول : " أنت لا تحبينني ".
وقلت : " إن الموت.." وقاطعني قائلا: " لا .. لا تقولى الموت.. الموت لا يغير شيئاً من الحب.." .
وسكت.. ورحت أفكر وأبحث في زوايا نفسي عن حبى له . لكنى لم أجد شيئاً.. كأنما تبخر حتى اخر قطرة..
وقلت في عجب : " يا إلهي إن الموت أقوى من الحب .. ".
وسمعته يقول : " بل الحب أقوى من الموت.. إذا كان حباً حقيقياً، أما إذا كان وهما فإنه يبهت ويتلاشى ، بجوار لون قوى صارخ كما الموت " وودعنى وهو يقول : " أرجو أن تقابلى حبك الحقيقي يوماً ما لتصدقي کلامی.".
لم أصدقه في ذلك اليوم.. لكننى أحسست بشعور خفي ينبئنى ، بأننى سأصدقه يوماً ما..
أعلى