د. أحمد الحطاب - اقتصاد وطني أم اقتصاد خواص؟

ما هو متعارف عليه كونيا هو أن الاقتصاد له محرِّكان أساسيان هما الدولة والخواص. وهذان المحرِّكان ينشطان، عبر الاستثمار، في عدة مجالات منها مثلا، الصناعة، التجارة، الفلاحة، الخدمات…وسواءً كان النشاط الاقتصادي عموميا أو خاصا، فمن المفروض أن يرجعَ نفعُه على البلاد والعباد. لماذا؟

1.إذا كان الاستثمارُ عموميا، فتمويلُه يأتي من المال العام، أي الضرائب التي يدفعها المواطنون للدولة. وللتذكير، فإن الجزءَ المهم من هذه الضرائب يأتي من الاقتطاعات من المصدر والتي تفرضها الدولة على رواتب الموظفين والمأجورين. وتأتي كذلك من الضريبة على القيمة المضافة taxe sur la valeur ajoutée TVA المفروضة على الاستهلاك والتي يُؤدِّيها المواطنون، بطريقة غير مباشرة impôt indirect لخزينة الدولة منذ استيقاظهم من النوم إلى أن يعودوا إليه. وحتى وهم نائمون، فإنهم قد أدًّوا هذه الضريبة على القيمة المضافة من خلال ما يرتدون من ملابس خاصة بالنوم.

2.إذا كان الإستثمارُ آتٍ من الخواص، فإنه يستفيد من التَّحفيزات incitations التي تخصِّصها الدولة للخواص لتشجيعهم على المساهمة في تحريك عجلة الاقتصاد الوطني. وهذه التُّحفيزات تتمثل في توفير العقار بأثمان مناسبة وتشمل كذلك تحفيزات ضريبية incitations fiscales تتمثَّل عادة في تخفيض الضرائب أو الإعفاء منها لمدة معيَّنة. غير أن هذه التَّحفيزات تشكِّل نقصاً في مداخيل الدولة من الضرائب، وهو ما يسمى، في لغة الاقتصاديين، ب"النفقات الضريبية" les .dépenses fiscales وكيفما كان الحال، فالنفقات الضريبية هي تمويل عمومي للاقتصاد، موجَّه للخواص (مغاربة وأجانب).

وهنا، لا بدَّ من إثراة الإنتباه إلى أن كلَّ ما تقوم به الحكومة من أعمال وخدمات، فإنها تقوم بها نيابةً عن المواطنين لأنهم هم الذين أوصلوا رئيسَها و وزراءَها إلى سدة الحكم، من خلال الانتخابات.

إذن وفي نهاية المطاف، سواءً كان الاقتصاد ممولا من طرف الدولة من المال العام أو ممولا جزئيا أو كليا من طرف الخواص، فإنه يجب أن يكونَ اقتصادا وطنيا يعود بالنفع على البلاد والعباد. على البلاد من حيث آنشاء البنيات التَّحتية وتقدم هذه البلاد وتطورها اجتماعيا، اقتصاديا وثقافيا. على العباد من حيث العيش الكريم والتَّمتُّع بالحقوق وأداء الواجبات.

وهذا يعني أن ما يُنتجه الاقتصادُ الوطني من ثروةٌ richesse مِلكٌ لجميع المواطنين. وما دامت هذه الثروة ملكا لجميع المواطنين، فمن واجب الحكومة التي تنوب عن الشعب في تدبير الشأن العام، أن تسهرَ على التَّوزيع العادل والمُنصِف لهذه الثروة. السؤال الذي يفرض نفسَه هنا هو: "هل فعلا، الحكومات المتعاقبة على تدبير الشأن العام، منذ الاستقلال إلى يومنا هذا، سهرت على هذا التوزيع العادل والمنصف؟"

قبل الجواب على هذا السؤال، أريد أن أوضِّح أن التَّوزيعَ العادلَ والمنصفَ لا يعني التَّساوي في نيل الحقوق، المادية على الخصوص. التَّوزيع العادل هو أن ينالَ الشخصُ ما يستحق من حق، أي أن ينالَ حقَّه كاملا حسب الاستحقاق.

لو كانت الثروة التي يُنتِجها الاقتصاد الوطني موزعة بإنصاف :

1.فلماذا لا يزال الفقرُ منتشرا في البلاد؟
2.فلماذا يزداد الأغنياء غِنًى والفقراء فقرا؟
3.فلماذا لا تزال الهشاشةُ تنخر شريحةً عريضةً من المواطنين؟
4.فلماذا لا يزال العالمُ القروي مهمشا رغم ما أعطت الحكومة من أهمية للمخطط الأخضر؟
5.فلماذا الطبقة الوُسطى آخذة في التَّقهقر يوما بعد يوم؟
6.فلماذا تدهورت وستتدهور القدرة الشرائية للمواطنين؟…

الحقيقة، كل الحقيقة هو أن التوزيعَ العادل والمنصف للثروة مستحيل وسيبقى مستحيلا ما دام :

1.الفساد ينخر، كالطاعون، المشهد السياسي.
2.الاقتصاد غير المهيكل يشكِّل ما يفوق 20% من الناتج الداخلي الخام.
3.الريع منتشرا ويشكِّل عائقا في وجه التنمية بجميع مظاهرها.
4.التهرُّب والتزوير الضريبيان قائمين كحجر عثرة في وجه نمو الناتج الداخلي الخام.
5.اللوبيات السياسية والاقتصادية تسيطر على السلطة والمال وتُزاوِج بينهما.
6.المستثمرون (مغاربة وأجانب) لا يؤمنون إلا بملء جيوبهم وأودعوا المواطنة والوطنية في ثلاجات إلى حين.
7.الأحزاب السياسية نائمة، فاقدة للمصداقية، منعزلة عن الشعب ولا تفكِّر ألا في الوصول إلى السلطة، فقط من أجل السلطة.
8.الدستورُ مجرَّدَ حبر على ورق، كثيرٌ من بنوده لم تعرف التَّجسيدَ على إرض الواقع.
9.مبدأُ "ربط المسؤولية بالمحاسبة" لم يعرف سبيلَه إلى التَّطبيق الفعلى على أرض الواقع.
10.الليبرالية المتوحِّشة هي الموجِّه الأساسي للاقتصاد الوطني…

كل ما سبق ذكرُه أفاتٌ مزمنة يعاني منها الاقتصاد الوطني منذ الاستقلال إلى يومنا هذا. لولا هذه الآفات، لكانت قدرةُ الاقتصاد الوطني على إنتاج الثروة أكبر بكثيرٍ مما هي عليه اليوم. وستبقى هذه الآفاتُ المزمنة قائمةً إلى أن تستيقظَ الأحزابُ السياسيةُ (وعلى الأقل، الأحزاب السياسية المنبثقة من ما كان يُسمَّى، قبل وبعد الاستقلال، حركة التَّحرير الوطنية) من سباتها العميق وتُلِحُّ على تطبيق بنود الدستور تطبيقا فعليا على أرض الواقع، وتُلِحُّ كذلك على التَّنزيل الفعلى ل"دولة الحق والقانون" ولتفعيل مبدأ "ربط المسئولية يالمحاسبة" بدون هوادة.

وما أريد أن أختمَ به هذه المقالة، هو التَّناقض الصارخ الذي يُفرزه الاقتصاد الوطني والذي لا يقبله أي عاقل له من المنطق ما يكفي ليقول : "من غير المعقول أن يتساكنَ الفقر المذقع، المدعَّم بالأمية، مع الغنى الفاحش في بلاد تتزاحم فيها المشاريع الكبرى في مجال النفل والطرقات واللوجستيك والموانئ والسيارات والطائرات والفوسفاط والطاقات المتجدِّدة… لكن يكاد يكون وقعُها على كرامة عيش المواطنين منعدما. أين ذهبت وتذهب ثروةُ البلاد؟ ذهبت وتذهب وستذهب إلى جيوب أعداء هذا الوطن الذين لا يؤمنون إلا بما يخدم مصالِحَهم!!!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى