عبدالله البقالي - أقنعة حزيران

كان المد قويا.أشياء كثيرة جرفها حسبت قد انتهت الى اعماق سحيقة، وأخرى حملها على ظهر بسائطه وقذف بها اتجاهاتنا. سبل مغرية انفتحت. مجالات رحبة لا حت. أشياء رائعة وجدناها على مقاساتنا، لبسناها. أكاسير تنعش الاحلام التي هدها الانتماء. وصفات مقوية تعمد الآمال التي نخرتها النكبات. تصاميم دقيقة لأدراج تمضي بنا الى اعلى تجاه نسيم عذري. وفي غمرة الصحو سمعناه.
صوت قوي قادم من عمق التاريخ، صارخ بإدانة الزيف الذي حولته الطقوس الى أصالة. حاملا الينا من مساره الطويل الذي امتد عبر كل الدهور المعتمة من كل وقعة نبرة. ومن كل فجيعة آهة. ومن كل نكسة أنينا، لتشكل نبرات صوته صرخات من قضوا في المقاصل. وأنين من شردوا في ليل القهر الطويل. وتوق من هفوا الى العشق، فيتمهم العقم. فهاموا على أرصفة و متاهات برع السادة في هندستها، ليلفظوا في النهاية أجسادا مترهلة غارقة في الظلمة و الضياع.
لم نمهل لالقاء نظرة على وجه المولود . اختطفنا. سرنا معه منبهرين بالاكتشافات المهولة التي توالت بسرعة دفعتنا لطلب نفس إضافي كي نجاريه في سرعته.
استبدلنا كل شئ. نظرنا الى العالم نظرة جديدة.
مفاتح الخرائط التي حفظناها على المقاعد في المدارس ما عادت تفيد شيئا. والعلامات الحمراء التي تفصل بين الامصار ما عادت تفيد غير تاريخ مخز وجراح على جسد عمقتها فلسفة منتش بالانتصار .
كل ذلك صار ملغيا ليرتسم حد جديد. حد لم تخطه آليات الحروب و لا سطرته طاولات المساومات. حد سطر هو نفسه ليفصل بين من فعل كل شئ ولم يملك شيئا، و بين من لم يفعل شيئا واستحوذ على كل شئ.
من خنادق "سايغون " الى أدغال "بوليفيا" ومن أحزمة البؤس في "جوهانسبرغ" الى حقول المعدمين في "دير ياسين" احتد السجال. تمدد المجال. توافد الرجال. تصاعد النزال ..
صوته كان المطية. علما وقضية. ما عادت اللغة مهمة و لا عادت الأجناس . هموم الانسان اختزلت كل الابجديات و الالوان.
جميعا سرنا. لم نحضر، لكننا عبره كنا هناك. وعبره كانوا هنا . جميعا عشنا. من حصار الى انتصار . ومن انكسار الى استفسار . سرنا، نختبر القناعات. نكتشف المفارقات. نختزن العبر من ما مضى للآت .
طريق طويل قطعناه. محطات لم نعرف أنحن الذين زحفنا اليها، أم هي التي مرت بنا. لكننا بالجوارح وخفقان الأفئدة عشناها .
هكذا قطعت الرحلة. بعدها لم أعرف كيف وجدت نفسي خارجها. لكن صوته باستمرار ظل يطاردني. يحاصرني. يباغتني عند تقاطعات كثيرة. بدأت أجده مختلفا. كان كصفارة حكم ترن في أذن لاعب شارد. يخجل لحظة. يستعيد وعيه ثم لا يلبث أن يضيع مجددا بين الخطوط .
لكن صفير المرة الاخيرة كان حادا. انتبهت للخلف. كان العميد هناك وقد راح في غفوة. وعند رأسه انتصب حزيران كالمارد معلنا نهاية الرحلة.
حزيران بنفس القناع الذي ارتداه في وقائع كثيرة ضمنت الخلود في الذاكرة . أنيابه دامية . مخالبه ضالعة في النكبة تمدد الشيخ . توقف النبض فراح . لم أجد كلمة اقولها لأن حزيران لا يهتم بالكلام . بل كان هو المتكلم .ابتسم ساخرا ومشى منتشيا بعد ان همس في أذني :
سأظل مصرا على وأد أحلامكم، و عنوانا لنكباتكم ما لم تقووا على تحطيم أقنعتي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى