الهندام هو أكثر من غطاء للجسد الذي هو ثروة الإنسان الكبرى
فوضى اللباس من فوضى العقل وفوضى الحواس وفوضى العقيدة وغياب ثقافة الجسد.
الهندام هو أكثر من غطاء للجسد الذي هو ثروة الإنسان الكبرى، اللباس إحالة على منظومة فكرية وأخلاقية كاملة، هو مرآة لواقع اجتماعي معقد، صورة لوضع ديني متناقض، مرآة لوضع سياسي معين، لا شيء في اللباس بريئاً. كل التفاصيل في أي هندام تحمل تأويلات عميقة وغريبة ومخفية، الألوان والأشكال والأحجام، كل دلالة إيجابية أو سلبية يحملها اللباس تصنعها المجتمعات على مراحل وبحسب الوعي الجمعي السياسي والثقافي والديني.
الهندام هو أيضاً ذاكرة أو جزء من الذاكرة التي تصور شقاء رحلة تاريخ الجسد في تدجينه وتحريره وعبوديته، كل لباس فيه من قيم الماضي العريق وفيه من اختلاطات وتقاطعات الحضارات المقبلة والآفلة، فيه من ظلال السلام وبقايا الحروب، وفيه من محن الحب وصراع الموت وأوهام الحلم، وفيه من الذكورة والأنوثة وفيه من الجغرافيا بكل تضاريسها وفيه من الطبيعة قساوتها وعطفها وسخاؤها وشحّها.
جزء من هوية الشعوب تتجلى وتختفي في شكل اللباس.
واللباس كالهوية ليس ثابتاً بل هو متحور ومتحول ومتطور، ليست هناك هوية جامدة ولا لباس متيبساً.
ولكل فصل هندام، ولكل مناسبة هندام.
حتى لباس الأموات من الكفن البسيط إلى القفطان أو الطقم، متنوع ومختلف بين ثقافات الأمم كما يختلف عندها لباس الأحياء.
هكذا تبدو مورفولوجيا اللباس البشري.
لقد خلدت لنا لوحات فنية كبيرة ونصوص روائية عالمية أدق التفاصيل والأوصاف للباس من خلال الألوان والأشكال وسرود مختلفة لثقافات مختلفة كـ"البؤساء" لفيكتور هيغو، و"الحرب والسلم" لليو تولستوي، و"مدام بوفاري" لغوستاف فلوبير، و"اسمي أحمر" لأورهان باموق و"ابن الفقير" لمولود فرعون وغيرها.
والفن والأدب الذي لا يهتم بحضارة العين، الذي لا يرى أهمية تفاصيل الهندام وأسراره في الكشف عن منظومة كاملة من الفكر والأخلاق والعقيدة، أو ذاك الذي لا يرى تفاصيل العمارة وتفاصيل روائح العطور والتوابل، هذا الفن التشكيلي أو السردي هو إبداع أعشى، مبدعه كحطاب ليل.
اليوم كل شيء مفاجئ وغريب
اليوم، في باب الهندام عندنا، اختلط الحابل بالنابل كما يقول القدامى، كل ما يلبس غريب، يحيل على ضياع هوياتي، وعلى تفكك في الشخصية، وعلى عجز الأنظمة القائمة على تأطير الرغبة الفردية والجماعية، على أزمة فلسفية ودينية وسياسية.
يقول لنا الهندام النسائي كما الرجالي الراهن، هذا زمن اختلاط الفصول، اختلاط الحواس، ضياع الأفق، مأزق ثقافتنا في فهم الجسد.
لقد كان الخلط والتخالط قائمين عبر العصور بين الشعوب والديانات والثقافات، لكنه كان يتقدم ويتموقع بكثير من الهدوء والروية والمعاناة.
اليوم، يملي الرأسمال الهمجي العابر للقارات ذوقه في اللباس على الجميع، على الليبرالي والإسلامي والعلماني واللاديني، عينه هي التي تفصِّل اللباس بحسب العرض والطلب، جنود مجندة من صناع "الذوق" لا يهمها سوى التفكير في "الجيب" و"الشيك" ورصيد حساب البنك، شركات كبرى برأسمال مدوخ تشتغل في "الموضة العالمية"، لا تترك أمراً يفوت إلا استثمرت فيه، كل ما يهمها هو الربح، بالنسبة إليها الدين رصيد، والجسد استثمار.
مع صعود الإسلام السياسي متوازياً مع سقوط جدار برلين وانهيار وتفكك الاتحاد السوفياتي، خرجت لنا كبريات شركات الاستهلاك الغذائي والموردة الأوروبية والأميركية لاعبة على "ثنائية الحلال والحرام"، فأنتجت لنا المعكرونة الحلال والتفاح الحلال والخيار الحلال و"صابون الحلال" والعطر الحلال و"الويسكي الحلال" و"البيرة الحلال" وهلم جرا، يكفي أن تكتب على تغليف البضاعة كلمة "حلال" حتى تقتنص زبوناً معيناً.
لقد دخلت صرعة "الحلال" كل شيء لا حباً في الإسلام ولا احتراماً لمشاعر وثقافة وخصوصية المسلمين المؤمنين الصادقين ولكن لامتصاص أموالهم أكثر فأكثر، كل شيء مسجل عليه "حلال" من البيض مروراً بالجبن واللحم وصولاً إلى حمالات النهد.
حتى لعب الأطفال، من دمى الطفلات صنعوا لها لباساً حلالاً، بل اخترعوا دمية "باربي" Barbie حلال، واحدة للفتيات المسلمات وأخرى للفتيات غير المسلمات!
اليوم، راقب ما يلبسه الناس وما ينتعلونه، نساء ورجالاً؟
كلما تأملت ما يلبسه المارة أمامي، في الشارع أو في المسجد أو في الجامعة أو في المقبرة أو في الحافلة أو في الإدارة أو في مدرسة السياقة أو في حقل الفلاحة أيام الحرث أو في فصل جني الثمار، أصاب بحيرة، لقد فقد الجميع، أو الغالبية الساحقة، الحس الجمالي والذوق الحضاري.
ماذا يلبس الناس، ذكوراً وإناثاً؟
إمشِ في الفضاءات العامة من السوق الشعبية حتى الجامعة مروراً بالمدارس والمساجد والأسواق والمقاهي والمطاعم والحافلات والميترو والمطار والمقابر والساحات العمومية، إمشِ في أيام الله السبعة من الأحد إلى الأحد، في الفصول من شتائها إلى صيفها مروراً بربيعها وخريفها، فلن ترى إلا مناظر شقية، تحيل على بشر في حال من البؤس وما هو ببؤساء، تحيل على الفقر وما هو بفقراء.
غريب هذا الوضع الذي آل إليه هندام غالبية أفراد المجتمع، تلقى الواحد منهم صباحاً وهو يهم للدخول إلى عمله يجرّ في رجليه نعلاً بلاستيكياً أسود، ينتعل ذلك من الصباح حتى المساء، في العمل والسوق وورشة البناء والبيت والمسجد والعرس والمقهى! لا يهم!
كان الجزائري بأناقته التي تبدأ من حذائه المصبوغ المدهون بشكل يومي، هناك حذاء للعمل وآخر للبيت، وآخر للصلاة، ولم يكن هذا دليلاً على الغنى أبداً، بل صورة للإنسان الحضاري الذي يحترم المواطنة ويقدر الفضاء العمومي، كان بهياً من الحذاء إلى الوجه الحليق، كل ذلك السلوك ذاب وذهب مع ريح الأيديولوجيات الغريبة التي اكتسحتنا من المشرق ومن الغرب أيضاً دينية سياسية ورأسمالية استهلاكية متوحشة.
سبعة أيام على سبعة، من الصباح إلى المساء، تلقاه خارجاً من العمل الإداري أو عائداً من جنازة أو ذاهباً إلى حفل عرس، مرتدياً عباءة عليها بقع الزيت، عباءة لا تتغير! ينام فيها ويشتغل بها؟ هي ليست دلالة على الفقر أو الحاجة، فالأمر لم تعد له علاقة بالدخل بل هو مرتبط بالعقلية والسلوك الجمالي الحضاري.
كانت العباءة الجميلة تلبس يوم الجمعة أو في الأعياد الدينية فتثير هالة من الاحترام، لكنها أصبحت اليوم لباس الأسبوع والشهر والفصول جميعها، لباس العمل والزيارات والنوم، وحتى هذه العباءة ليست جزائرية فهي مستوردة من تركيا أو من بلدان الخليج.
وهذه المذيعة "المتبرجة" بماكياج فاقع تواجه النظارة من على الشاشة في قناة جزائرية وهي تلبس بطريقة تركية تلف خمارها حول عنقها على طريقة زوجة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، غير واعية بهويتها وبرمزية ما ترتديه والرسالة التي يوصلها.
اللباس، ذكورياً كان أو نسائياً، هو رسالة سياسية وأيديولوجية وثقافية، اللباس فضيلة اجتماعية وأخلاقية يجب أن ترتبط بأرضها وبهوية أبنائها.
قد يتعرض اللباس لتطوير لكن ليس لمسخ.
بكل صدق وأيضاً بكل استغراب واستنكار أتألم لما آل إليه الشارع الجزائري والمؤسسات الجزائرية في هندام موظفيها، شاب بسروال هابط على الإليتين، "بونتاكورت" في مدرج الجامعة، فتاة بخمار على الرأس وسروال دجين وحذاء رياضي "نايك".
لقد كان الجزائري أنيقاً، الأناقة لا تعني الثراء أبداً، الأناقة مرادفة للذوق واحترام عين الآخر، كل شيء ذهب أو يكاد.
ولأن اللباس أصبح ساحة صراع سياسي حاد، فقد تحرك تيار الإسلام السياسي في "فتوحات أيديولوجية" جديدة مثيرة، تذكرنا بسنوات الثمانينيات التي هيأت للعشرية الدموية، تتمثل في حملة جماعية لتحجيب الطالبات في الجامعات الجزائرية، يحدث هذا في تجمعات غارقة في "الإجهاش" الغريب! يحدث هذا في مؤسسة للعلم والمعرفة التي من المفترض أن تكون بعيدة من الأيديولوجيا، يحدث هذا وكأن هؤلاء الطالبات الجامعيات كن قبل الحجاب في الجاهلية الأولى؟ الإيمان لباس القلب وليس غطاء الجسد.
صحيح، يجب احترام الحريات الفردية، ولكن حين تتحول هذه الحرية إلى فوضى مسيسة وتخل بالفضاء العام وتنتهك خصوصيات الفضاء المعرفي والعلمي وتلغي المواطنة التي هي قبل أية عقيدة، فإن الأمر يدعو إلى القلق ويدعونا إلى التساؤل عن خطورة ما قد يحدث لا سمح الله.
أيها الناس، احترموا العين فإنها تمرض من المناظر القبيحة والمنفرة، أيها الناس احترموا الفضاء العام، وخصوصية المهنة والمنصب، أيها الناس احترموا هويتكم.
أمين الزاوي كاتب ومفكر
فوضى اللباس من فوضى العقل وفوضى الحواس وفوضى العقيدة وغياب ثقافة الجسد.
الهندام هو أكثر من غطاء للجسد الذي هو ثروة الإنسان الكبرى، اللباس إحالة على منظومة فكرية وأخلاقية كاملة، هو مرآة لواقع اجتماعي معقد، صورة لوضع ديني متناقض، مرآة لوضع سياسي معين، لا شيء في اللباس بريئاً. كل التفاصيل في أي هندام تحمل تأويلات عميقة وغريبة ومخفية، الألوان والأشكال والأحجام، كل دلالة إيجابية أو سلبية يحملها اللباس تصنعها المجتمعات على مراحل وبحسب الوعي الجمعي السياسي والثقافي والديني.
الهندام هو أيضاً ذاكرة أو جزء من الذاكرة التي تصور شقاء رحلة تاريخ الجسد في تدجينه وتحريره وعبوديته، كل لباس فيه من قيم الماضي العريق وفيه من اختلاطات وتقاطعات الحضارات المقبلة والآفلة، فيه من ظلال السلام وبقايا الحروب، وفيه من محن الحب وصراع الموت وأوهام الحلم، وفيه من الذكورة والأنوثة وفيه من الجغرافيا بكل تضاريسها وفيه من الطبيعة قساوتها وعطفها وسخاؤها وشحّها.
جزء من هوية الشعوب تتجلى وتختفي في شكل اللباس.
واللباس كالهوية ليس ثابتاً بل هو متحور ومتحول ومتطور، ليست هناك هوية جامدة ولا لباس متيبساً.
ولكل فصل هندام، ولكل مناسبة هندام.
حتى لباس الأموات من الكفن البسيط إلى القفطان أو الطقم، متنوع ومختلف بين ثقافات الأمم كما يختلف عندها لباس الأحياء.
هكذا تبدو مورفولوجيا اللباس البشري.
لقد خلدت لنا لوحات فنية كبيرة ونصوص روائية عالمية أدق التفاصيل والأوصاف للباس من خلال الألوان والأشكال وسرود مختلفة لثقافات مختلفة كـ"البؤساء" لفيكتور هيغو، و"الحرب والسلم" لليو تولستوي، و"مدام بوفاري" لغوستاف فلوبير، و"اسمي أحمر" لأورهان باموق و"ابن الفقير" لمولود فرعون وغيرها.
والفن والأدب الذي لا يهتم بحضارة العين، الذي لا يرى أهمية تفاصيل الهندام وأسراره في الكشف عن منظومة كاملة من الفكر والأخلاق والعقيدة، أو ذاك الذي لا يرى تفاصيل العمارة وتفاصيل روائح العطور والتوابل، هذا الفن التشكيلي أو السردي هو إبداع أعشى، مبدعه كحطاب ليل.
اليوم كل شيء مفاجئ وغريب
اليوم، في باب الهندام عندنا، اختلط الحابل بالنابل كما يقول القدامى، كل ما يلبس غريب، يحيل على ضياع هوياتي، وعلى تفكك في الشخصية، وعلى عجز الأنظمة القائمة على تأطير الرغبة الفردية والجماعية، على أزمة فلسفية ودينية وسياسية.
يقول لنا الهندام النسائي كما الرجالي الراهن، هذا زمن اختلاط الفصول، اختلاط الحواس، ضياع الأفق، مأزق ثقافتنا في فهم الجسد.
لقد كان الخلط والتخالط قائمين عبر العصور بين الشعوب والديانات والثقافات، لكنه كان يتقدم ويتموقع بكثير من الهدوء والروية والمعاناة.
اليوم، يملي الرأسمال الهمجي العابر للقارات ذوقه في اللباس على الجميع، على الليبرالي والإسلامي والعلماني واللاديني، عينه هي التي تفصِّل اللباس بحسب العرض والطلب، جنود مجندة من صناع "الذوق" لا يهمها سوى التفكير في "الجيب" و"الشيك" ورصيد حساب البنك، شركات كبرى برأسمال مدوخ تشتغل في "الموضة العالمية"، لا تترك أمراً يفوت إلا استثمرت فيه، كل ما يهمها هو الربح، بالنسبة إليها الدين رصيد، والجسد استثمار.
مع صعود الإسلام السياسي متوازياً مع سقوط جدار برلين وانهيار وتفكك الاتحاد السوفياتي، خرجت لنا كبريات شركات الاستهلاك الغذائي والموردة الأوروبية والأميركية لاعبة على "ثنائية الحلال والحرام"، فأنتجت لنا المعكرونة الحلال والتفاح الحلال والخيار الحلال و"صابون الحلال" والعطر الحلال و"الويسكي الحلال" و"البيرة الحلال" وهلم جرا، يكفي أن تكتب على تغليف البضاعة كلمة "حلال" حتى تقتنص زبوناً معيناً.
لقد دخلت صرعة "الحلال" كل شيء لا حباً في الإسلام ولا احتراماً لمشاعر وثقافة وخصوصية المسلمين المؤمنين الصادقين ولكن لامتصاص أموالهم أكثر فأكثر، كل شيء مسجل عليه "حلال" من البيض مروراً بالجبن واللحم وصولاً إلى حمالات النهد.
حتى لعب الأطفال، من دمى الطفلات صنعوا لها لباساً حلالاً، بل اخترعوا دمية "باربي" Barbie حلال، واحدة للفتيات المسلمات وأخرى للفتيات غير المسلمات!
اليوم، راقب ما يلبسه الناس وما ينتعلونه، نساء ورجالاً؟
كلما تأملت ما يلبسه المارة أمامي، في الشارع أو في المسجد أو في الجامعة أو في المقبرة أو في الحافلة أو في الإدارة أو في مدرسة السياقة أو في حقل الفلاحة أيام الحرث أو في فصل جني الثمار، أصاب بحيرة، لقد فقد الجميع، أو الغالبية الساحقة، الحس الجمالي والذوق الحضاري.
ماذا يلبس الناس، ذكوراً وإناثاً؟
إمشِ في الفضاءات العامة من السوق الشعبية حتى الجامعة مروراً بالمدارس والمساجد والأسواق والمقاهي والمطاعم والحافلات والميترو والمطار والمقابر والساحات العمومية، إمشِ في أيام الله السبعة من الأحد إلى الأحد، في الفصول من شتائها إلى صيفها مروراً بربيعها وخريفها، فلن ترى إلا مناظر شقية، تحيل على بشر في حال من البؤس وما هو ببؤساء، تحيل على الفقر وما هو بفقراء.
غريب هذا الوضع الذي آل إليه هندام غالبية أفراد المجتمع، تلقى الواحد منهم صباحاً وهو يهم للدخول إلى عمله يجرّ في رجليه نعلاً بلاستيكياً أسود، ينتعل ذلك من الصباح حتى المساء، في العمل والسوق وورشة البناء والبيت والمسجد والعرس والمقهى! لا يهم!
كان الجزائري بأناقته التي تبدأ من حذائه المصبوغ المدهون بشكل يومي، هناك حذاء للعمل وآخر للبيت، وآخر للصلاة، ولم يكن هذا دليلاً على الغنى أبداً، بل صورة للإنسان الحضاري الذي يحترم المواطنة ويقدر الفضاء العمومي، كان بهياً من الحذاء إلى الوجه الحليق، كل ذلك السلوك ذاب وذهب مع ريح الأيديولوجيات الغريبة التي اكتسحتنا من المشرق ومن الغرب أيضاً دينية سياسية ورأسمالية استهلاكية متوحشة.
سبعة أيام على سبعة، من الصباح إلى المساء، تلقاه خارجاً من العمل الإداري أو عائداً من جنازة أو ذاهباً إلى حفل عرس، مرتدياً عباءة عليها بقع الزيت، عباءة لا تتغير! ينام فيها ويشتغل بها؟ هي ليست دلالة على الفقر أو الحاجة، فالأمر لم تعد له علاقة بالدخل بل هو مرتبط بالعقلية والسلوك الجمالي الحضاري.
كانت العباءة الجميلة تلبس يوم الجمعة أو في الأعياد الدينية فتثير هالة من الاحترام، لكنها أصبحت اليوم لباس الأسبوع والشهر والفصول جميعها، لباس العمل والزيارات والنوم، وحتى هذه العباءة ليست جزائرية فهي مستوردة من تركيا أو من بلدان الخليج.
وهذه المذيعة "المتبرجة" بماكياج فاقع تواجه النظارة من على الشاشة في قناة جزائرية وهي تلبس بطريقة تركية تلف خمارها حول عنقها على طريقة زوجة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، غير واعية بهويتها وبرمزية ما ترتديه والرسالة التي يوصلها.
اللباس، ذكورياً كان أو نسائياً، هو رسالة سياسية وأيديولوجية وثقافية، اللباس فضيلة اجتماعية وأخلاقية يجب أن ترتبط بأرضها وبهوية أبنائها.
قد يتعرض اللباس لتطوير لكن ليس لمسخ.
بكل صدق وأيضاً بكل استغراب واستنكار أتألم لما آل إليه الشارع الجزائري والمؤسسات الجزائرية في هندام موظفيها، شاب بسروال هابط على الإليتين، "بونتاكورت" في مدرج الجامعة، فتاة بخمار على الرأس وسروال دجين وحذاء رياضي "نايك".
لقد كان الجزائري أنيقاً، الأناقة لا تعني الثراء أبداً، الأناقة مرادفة للذوق واحترام عين الآخر، كل شيء ذهب أو يكاد.
ولأن اللباس أصبح ساحة صراع سياسي حاد، فقد تحرك تيار الإسلام السياسي في "فتوحات أيديولوجية" جديدة مثيرة، تذكرنا بسنوات الثمانينيات التي هيأت للعشرية الدموية، تتمثل في حملة جماعية لتحجيب الطالبات في الجامعات الجزائرية، يحدث هذا في تجمعات غارقة في "الإجهاش" الغريب! يحدث هذا في مؤسسة للعلم والمعرفة التي من المفترض أن تكون بعيدة من الأيديولوجيا، يحدث هذا وكأن هؤلاء الطالبات الجامعيات كن قبل الحجاب في الجاهلية الأولى؟ الإيمان لباس القلب وليس غطاء الجسد.
صحيح، يجب احترام الحريات الفردية، ولكن حين تتحول هذه الحرية إلى فوضى مسيسة وتخل بالفضاء العام وتنتهك خصوصيات الفضاء المعرفي والعلمي وتلغي المواطنة التي هي قبل أية عقيدة، فإن الأمر يدعو إلى القلق ويدعونا إلى التساؤل عن خطورة ما قد يحدث لا سمح الله.
أيها الناس، احترموا العين فإنها تمرض من المناظر القبيحة والمنفرة، أيها الناس احترموا الفضاء العام، وخصوصية المهنة والمنصب، أيها الناس احترموا هويتكم.
أمين الزاوي كاتب ومفكر