د. بوزيد الغلى - ثنائية الغدر والانتقام في رواية "El médico de Ifni" (طبيب إفني)

تدور أحداث الرواية الاسبانية El médico de Ifni طبيب إفني¨ جيراردو كنبال Gerardo Canabal¨ في فضاءات متعددة في المغرب وإسبانيا وصحراء الحمادة، كما تغطي زمنيا أواخر سنوات الاحتلال الاسباني لمدينة سيدي إفني الواقعة على ضفاف الأطلسي على بعد بضع وخمسين كيلومترا من مدينة كلميم.
تعمل الرواية التي ألفها خابيير ريبيرتي Javier Reverte على تسريد وقائع تاريخية عرفتها المنطقة بعد عجنها بالخيال، مما يوهم القارئ بواقعية الأحداث التي لا يلبث أن يدرك أنها من وحي الخيال الأدبي الواسع الذي يسمح للكاتب بتوسيع أفق الحدث بمزجه بخليط من الأحداث المتخيلة التي تجعل الشخصيات تتحرك في جغرافيات متعددة على امتداد حقبة من الزمن تمتد من بداية الستينيات إلى العشرية الأولى من الألفية الثانية التي ستشهد إسدال الستار على قصة محبوكة بطريقة فنية تنكسر فيها خطية السرد، كي تسمح للقارئ بهامش واسع من الاستمتاع بالاسترجاع والاستباق الدي يعمد إليه الكاتب كي يخرج من أمشاج أحداث مترابطة حكاية متنامية تناميا يؤجج التوتر السردي، ويحقق خيبة انتظار المتلقي بعد أن يكتشف خيوط مؤامرة قتل الطبيب الاسباني بطريقة لا تتقنها سوى العصابات المحترفة التي استأجرت "ممرضة" قادمة بهوية مزورة ضمن بعثة إنسانية إلى مخيمات تندوف، كي تغتال الطبيب الذي استوحى منه الكاتب عنوان روايته إيماءً إلى سابق عهده بالخدمة ضمن الجيش الاسباني بصفته طبيبا ممارسا في مستعمرة إفني قبل الجلاء عنها عام 1969 تحت ضربات المقاومة المغربية.
تستعيد الرواية في فصولها الأولى قصة غرام ربطت الطبيب العسكري الاسباني بامرأة من قبيلة صحراوية، إذ صمما على الزواج رغم ممانعة والد الفتاة ورفضه البات أن يصير صهرا للنصراني المحتل، لكن هروب ابنته مع الطبيب وزواجها منه أجبراه على كظم غيظه، والقبول بالأمر الواقع.
لم تمض على إقامة الطبيب بمستعمرة إفني سوى خمس سنوات حتى قررت السلطات الاسبانية الانسحاب من المنطقة إثر تكبدها خسائر فادحة، الأمر الذي أغضب الطبيب الذي اعتبر الانسحاب الاسباني خيانة، وقرر عدم العودة إلى إسبانيا، وساعده صديقه الذي يشتغل مع المخابرات على تلبية طلبه للبقاء قريبا من أسرته، حيث سيلتحق بالحامية العسكرية بمدينة العيون التي كانت يومها ترزح تحت الاحتلال الاسباني.
مرت الأيام تترى، فأنجبت الفتاة الصحراوية ولدا أصرت على تسميته "عمر" بعد توافق مع زوجها؛ الطبيب الاسباني، لكنها توفيت متأثرة بمضاعفات الولادة، كي تبدأ مرحلة جديدة من حياة الطبيب المغامر الذي لم يقطع حبال الود بعائلة زوجته الراحلة، وإنما بقي وفيا لعهدها، وأوصى شقيقتها "اسويلمة" بحضانته والعناية به، وظل يبعث لها إيرادات شهرية حتى شب الفتى عن طوق الصبا، والتحق بمدرسة لأبناء الجالية الاسبانية بإحدى مدن شمال المغرب، حيث تكلف عمه الضابط في الجيش الاسباني قبل إحالته على التقاعد بسداد رسوم دراسته.
خلال عمله بالعيون، توثقت علاقة الطبيب بضابط المخابرات¨ بالاكَوير¨Balaguer ، وجمعتهما عدة جلسات بالعيون وإسبانيا، حيث سيتعرف الطبيب على السيدة "لورا Laura " التي كانت صديقة للضابط، ثم قرر في مرحلة لاحقة الزواج منها، وانتقلت للعيش معه في العيون، لكن علاقته بالثوار ضد الاسبان عجلت بفراقهما بعد خصام أفضى إلى فراق. لم يعلم الطبيب يومها أنها حامل بابنته كلارا التي لم يتعرف عليها إلا في مرحلة لاحقة حين التحق بمخيمات تندوف.
خلال إقامته هناك، اعتبرته إسبانيا خائنا، بينما كانت أحلام اليسار الراديكالي تحمله على البقاء في أرض الحمادة ، حيث لحق به ابنه عمر بعد أن لم يستطب العيش في مدريد، مع أنه كان يجهل وجود أخته كلارا تحت حضانة أمها التي انفصلت عن والده، الأمر الذي ضاعف من إحساسه بالتششت الأسري، إذ أنه ترك خلفه في مدينة إفني الخالة التي سهرت على تربيته بعد وفاة أمه.
لم يلبث الطبيب أن توفي في المخيمات، وطار نبأ وفاته المفاجئة ليصل إلى ابنته التي ترك عنوان إقامتها في مدريد لدى صديق استطاع عبر أحد المهاجرين أن يخبرها برحيل والدها، الأمر الذي أوقعها في صدمة نفسية، إذ اكتشفت أن أمها كذبت عليها لما أخبرتها منذ مرحلة الصبا بأنها يتيمة الأب، مما أشعل نار الخصام بينهما، وجعلها تتخذ قرار مغادرة بيت أمها، كي تختار السكن مع صديقتها "باتريسيا".
عملت خلال فترة إقامتها بعيدا عن أمها على جمع المعلومات عن عائلتها في الشتات، فزارت أولاً مدينة إفني جنوب المغرب، واستطاعت التعرف خلال رحلتها القصيرة على السيدة اسويلمة التي أفادتها بوجود أخيها عمر بمخيمات الحمادة، حيث حطت الرحال بها بعد رحلة شاقة، واستطاعت، خلال فترة إقامتها هناك، حل لغز وفاة أبيها الغامضة، إذ اقتنعت من خلال روايات الشهود أن الوفاة كانت اغتيالا دبره صديقه القديم؛ ضابط المخابرات الاسبانية انتقاما مما اعتبره خيانة شخصية له، إذ تزوج صديقته...
انسدل ستار النهاية في الرواية على وقع حادث اغتيال بنية الانتقام نفذته كلاار بمساعدة صديقتها باتريسيا في حق رجل المخابرات الاسبانية الضالع، حسب ما توصلت إليه، في اغتيال والدها، بينما ظل هذا الأخير يصر على براءته من دم أبيها مرجحا وفاته إثر أزمة قلبية.
تنشر الصحافة الإسبانية إثر ذلك، قصاصات متناقضة بشأن حريمة الاغتيال التي لم تتعرف الشرطة القضائية على منفذيها مرجحة أن يكون مقتل ضابط المخابرات عملا إرهابيا نفذته القاعدة الإرهابية.
السارد، في هذا المقام، يستهزيء بسخرية لاذعة من تهافت رواية الشرطة التي وجدت في الإرهاب الأصولي شماعة تعلق عليها كل الجرائم الغامضة.
جمعت كلارا كل قصاصات الجرائد وبعثتها إلى أخيها بالمخيمات، مخبرةً إياه، بطريقة مشفرة، بنجاحها في اغتيال قاتل والدها...
لا أتردد في القول، إن رواية طبيب إفني من أمتع وأعمق النصوص الروائية التي عملت على تسريد كثير من الأحداث التي شهدها مسرح الأحداث الذي يمتد من إفني إلى العيون زمن الاستعمار الاسباني ثم مدريد وأرض الحمادة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى