الجزء الثاني والأخير.
في ديوانها البكر “في الشارع المقابل لجرحنا القديم” الصادر في المغرب عن الراصد للنشر سنة 2023، تقدم الشاعرة “تورية لغريب” قصائد مكثفة، كل كلمة في مكانها المناسب في غير ما حشو أو إطالة. نجدنا في هذا الديوان أمام ذات أنثوية تخاطبنا بقدرٍ واضح من الإحساس، حتى في نصوصها الشذرية، فإن صمتها الباذخ قد جاء معتمدا بلاغة التكثيف والإيجاز والاقتضاب والتركيز، أما حين وجدت روحها قد امتلأت بمرارة الواقع فقد انسابت حروفها فياضة في غير إسهاب غير عابئة في بوحها بالمخاطر المحدقة بها ك: أن تمطر باللعنات، وأن تجد نفسها محاصرة بنظرات الشك والريبة.
الشعر لدى الشاعرة فعل رسولي، فلا يمكن أن يكون من أجل ذاته، بل ينبغي أن يوظف لترقية الوعي الفني والاجتماعي، والقدرة على فهم الواقع الطبقي.
فمن وجهة نظرها، كما جاء في إحدى تدويناتها، لن تكون شاعرا إلا:
عندما تؤمن أكثر من غيرك ، بأنّ الشّيء يمكن أن يتحوّل بين أصابع يدك إلى معنى، وأنّ اللاّشيء ليس دائما خواء، وهو ما يعني أن يشتغل جرّار العقل لديك دون كلل، بحثا عن جذور كينونتك، في ما يلتقطه من حشائش القلق المنتشرة من حولك، هذا يعني أيضا، بأن تُعرّي زيف العالم ببراعة ساحر،
و بصدق نبي...
أنت شاعر...
عندما تُفتّت صخرة الحزن، لتجعل منها فسيفساء من الجمال
الشعر نُبل وسموّ...
الشعر ثمرة القراءة الرّصينة والتأمّل العميق...
قلب مكتظّ بالأحاسيس، وذهن يسائل الشّيء واللاّشيء
مخاض متكرّر وولادة متجدّدة...
المتصفح للديوان البكر للشاعرة تورية لغريب سيكتشف، انطلاقا من العنوان، ومرورا بعناون النصوص، أنها رسمت خطين يلتقيان ولا يفترقان؛ إنهما خط عشق الشعر والحديث عن مباهجه ومعاناته، وخط الانتصار لشريحة الفقراء المنسية والمهمشة. فالشعر لا يمكن أن يتحقق وجوده إلا بالاهتمام بتقنياته، وفي الوقت نفسه، بالانفتاح على الإنسان، وسرد معاناته في الوجود، وبالأخص ذلك الإنسان المسحوق بفعل عوامل شتى.
هذا الديوان يعلن عن ميلاد شاعرة مهمومة بالشعر كجنس تعبيري خالد، ومنشغلة بهموم الإنسان الكادح بخاصة والإنسان في مطلقه بعامة. لذا، نجد أنه مكتنز فنا وجمالا وتنوع تيمات.
لننظر إلى هذا التداخل بين الذات الشاعرة والقصيدة في هذا المقطع لنتبين مدى انشغال الشاعرة بهموم القصيد والمجتمع دون نسيان هموم الذات وجراحها، تقول:
وحيدة أنا...
لا أثر لي بعدي
ألتهمُني
فأصير امرأة
على شكل قصيدة مهاجرة. ص 101
وهي إذ تؤكد قضية انصهار الذات في الشعر بحيث لا يصير فرق بينهما، فإنما لأجل خلق رجة في وعي الناس، وإقلاقهم بإخراجهم من حالة الفتور التي هم عليها إلى حالة جديدة ومناقضة للأولى، وما لعناتهم إلا تعبير عن هذه الرجة غير المنتظرة التي تسعى إلى إخراجهم من حالة الاستلاب ونشوته، تقول:
أكتبُني نصوصا غائمة
تعكر صَفو مساءاتكمّ
فتهتفون:
سُحقا لك من شاعرة ص96.
ولأن المجموعة ثرية وغنية بتيماتها وأبعادها الفنية، فإنني سأقف عند بعض العناصر تاركا غيرها لنقاد آخرين يقفون عندها محللين..
على المستوى الفني:
نجد الشاعرة قد اختارت قصيدة النثر وسيلة تعبيرية وفنية لأداء رسالتها الجمالية، علما أن بعض قصائدها تقترب، كما قال الناقد نجيب العوفي في تقديمه للعمل، من إيقاعي المتقارب والمتدارك، كونهما بحران قريبان من النثر.
كما أن لغة الديوان كانت انسيابية منفتحة على السرد، معتمدة على صور بليغة تعضدها التشبيهات والاستعارات الطرية والمدهشة، فقد اقترفت الشاعرة الجرم الجمالي في ديوانها من خلال زخم من الانزياحات الدلالية التي منحت النصوص الشعرية بعدا جماليا جذابا.
وبالانتقال لنصوص هذا المنجز الشعري الأول للشاعرة، يمكن أن نستشف أن قصائده تعكس انزياحات دلالية واضحة تتميز بمخالفة ما تعودنا عليه وخرق المألوف، والسير ضد منطق الأشياء.
فعلى سبيل المثال لا الحصر تقول الشاعرة في قصيدة "رقصة الحصاد" ص 13:
فستانُها مِروحة تدور حولها بغنج
يستدرجُ النّسائمَ لِمُضاجعةِ الأرض
الألحان تُسعِفُ الليل
أنْ يشربَ نبيذها..
وفي قصيدة "حكايتي مع الليل" تقول:
استيقظ أيها الليل
وسادتي مزّقتها الكوابيس
استيقظ !
لنقتسم فتات القلوب
أرجوك استيقظ!
ففي الكون حيارى
وحزن موشوم في المُقل.
استيقظ أيها الليل
ثمة امرأة تنجب
كل مساء
نصوصا طرية
وتقول في قصيدة "نحو الغياب" ص 31 : ما رَأيُكَ أن نُجرّبَ الاحتمالَ الأخِير
أبتسمُ لك مِن بعيد
وأنت تَقِيس قامة عشق
بِجَمال مُهرٍ جَمُوح
بلون عَينيَّ الحوراوين
وتضيف في القصيدة نفسها:
نُنظّف ثقوب قلبينا بتأن
نملؤها بِحرفٍ رُضاب
وفي نص "ما قبل النهاية": والشوق يدلك أنحاء جسمي
قلبي الصغير يتعرق
يتأوه يتكدس بالغياب.
وتضيف قائلة:
أغفو فوق سرير
مزدحم بالسواد
مطرودة أنا
من جنة الحب
فوق رأسي ملاك
يتلو آيات شيطانية
وكمثال أخير يمكننا أن نأخذ من قصيدة "حرف مخمور" بعض الانزياحات الدلالية، تقول فيها:
الحب أمامي
يمر معلبا في أكياس الوهم
مختنقا
يعبر إلى الضفة الأخرى
من خلال هذه النماذج وغيرها مما جاء في نصوص الديوان يمكن أن نستخلص أن الشاعرة تورية لغريب سعت في كل نصوصها إلى التميز الشعري من خلال خرق نمطية اللغة بغاية خلق عالم شعري مدهش معتمدة في ذلك على توظيف الانزياحات الدلالية المربكة والمدهشة والمثيرة، من دون أن تؤدي إلى غموض قصائدها أو تخلق قطيعة بينها وجمهورها؛ فقد جاء الانزياح في عملها الشعري كوسيلة لخلق لغة شعرية ساحرة تتدحرج من المكاشفة إلى الترميز والإيحاء.
إن المتلقي وهو بصدد قراءة الديوان لابد أن يلمس أن القصائد تصطبغ بالصور والتعابير والمشاعر التي تعكس نفسية الذات الشاعرة الحالمة والمتأملة. فلقد تمحورت سياقات القصيدة حول عنصرين اثنين، وهما الشعر والطبقة المسحوقة. وهكذا، يأتي حديثها عن الشعر بمثابة ميتا شعر، أي أن الشعر في ديوانها يفكر في ذاته في ما يفكر في موضوعه. فالشعر في كثير من قصائدها يتخذ نفسه موضوعا للتفكير والتناول، دون أن يعني ذلك بقاء القصائد سجينة تأمل ذاتها في مرآة الاستمتاع بهذه الذات كفعل نرجسي منغلق على نفسه، بل انفتحت على موضوع الإنسان، وبخاصة المسحوق والمضطهد والمهمش والمقصي.
فالانشغال بالسؤال الشعري كتجربة وجودية، وإبداعية من داخل تجربة الكتابة ذاتها تعكسه القصائد التالية على سبيل المثال لا الحصر: " طقس شعري" و"سحقا أيها الشعر" و "مرآة القصيدة"،فجميعها تحبل بكثير من مظاهر الميتاشعري ، وتعكس نظرة الشاعرة إلى الذات المبدعة بين الكتابة، والانكتاب.
ارتبطت الشاعرة وجدانيا بالشعر وعشقه لدرجة تخصيص قصائد كثيرة للتعبير عن هذا العشق، ويبدو ذلك جليا في نصوص هذا الديوان الشعري، سواء من خلال المعجم الدلالي للشعر، أو من خلال البوح الذي طبع الكثير من النصوص كما هو الحال في قصيدة "عزف منفرد" ص 47:
تستطيع الآن
أن تُقَطّرَ قلبَك
من الشِّعر والحب ومواسم الحصاد.
وفي قصيدة "سحقا أيها الشعر"، تقول:
ها أنا أعود إلي من جديد
شفافة
أحدثني عن الضّجيج العالق
في ثقوب الذاكرة
عن جنازاتٍ فقدت الأمل
عن غدٍ اغتالته أيدٍ غادرة...
يبدو جليا من خلال هذا المقطع أن الشعر يشكل للشاعرة متنفسا يكسر سواد الواقع وملجأ تحتمي به كلما تعرضت هذه الذات الشاعرة للانكسار.
التكرار:
لابد من التوقف قليلا عند هذه الخصيصة الايقاعية التي اعتمدتها قصيدة النثر كتعويض عن الايقاع الخارجي وأقصد به الوزن تحديدا، لأنها تمنح النصوص لذة سمعية مؤكدة، وتمنح الدلالات الثاوية فرصة الفو على السطح كنوع من التنبيه عن القضايا المركزية التي تؤرق الذات المتكلمة وتسكن أعماقها.
من ذلك تكرار الحرف:
كيف يتسَكع الليل وحيدا
وتَحتَ سِتارِه
تَكتظُّ حِكاياتُ العابِرين؟
فالملاحظ أن هذه الشذرة قد كررت حروفا عدة بشكل لافت، كتكرار حروف التاء والكاف والياء والحاء وبعدها السين.
تكرار الفعل:
من ذلك تكرار فعل الأمر "استيقظ" بشكل لافت، تقول الشاعرة:
استيقظ أيها الليل
وسادتي مزّقتها الكوابيس
استيقظ !
لنقتسم فتات القلوب
أرجوك استيقظ!
ففي الكون حيارى
وحزن موشوم في المُقل.
استيقظ أيها الليل
ثمة امرأة تنجب
كل مساء
نصوصا طرية ص 21.
ويهيمن هذا الفعل على أجواء النص، ويخترق مفاصيله، بل إنه يشكل المبتدأ والنهاية حيث يأتي مشتت الحروف كدليل على فاجعة الرفض وعدم الاستجابة.
الطباق:
يأتي «الطباق» في مفهوم البلاغيين القدامى باعتباره حليـة وزينة، وحين نعيد النظر إلي دوره في تكوين بنية النص نجد أنه يدخل في تكوينها جنباً إلى جنب مع معطيات ومفاهيم معاصرة، وهي: الثنائيات، والمفارقة، وكل مايفهم منه التناقض والتضاد، فهو يعبر في النص عن منظومة التناقض، الذي هو أبرز سمات اللغة الشاعرة .
د . مختار أبوغالي، الشعر ولغة التضاد، الرؤية - الميدان والتطبيق.
الطباق في قولها:
أغفو فوق سرير
مزدحم بالسواد
مطرودة أنا
من جنة الحب
فوق رأسي ملاك
يتلو آيات شيطانية
حيث جمعت بين متناقضين نوراني وناري، وهما الملاك والشيطان، فالأول مرغوب فيه ومحبوب والثاني ملعون ومكروه. والبين أن السطر الأخير يحيل على رواية أثارت نقدا عاصفا، وحركت غضبا كبيرا وكادت بعد مرور وقت أن تودي بصاحبها سلمان رشدي.
كما أن المقطع يستعيد بشكل ما قصة طرد سيدنا آدم من الجنة، فالتناص واضح، لا على مستوى الألفاظ ولكن على مستوى الشخصيات المستثمرة وعلى البعد الدلالي الذي ترمي إليه في قصيدتها. فإذا كان آدم عليه السلام قد طرد من جنة الخلد فإن الشاعرة تشير في قصيدتها إلى طرد من نوع آخر ويتعلق الأمر بجنة الحب.
على المستوى القضوي:
فالملمح الجلي في العمل تلك النبرة الحزينة، فما يخيم على المجموعة كما ذهب إلى ذلك الناقد نجيب العوفي، فضاء رمادي ملبد بفواجع وجوائح الوقت؛ لكن الحس الشعري المرهف للشاعرة خفف من ثقله بأن صيره جميلا كما في المثال التالي:
هو الحزن الجميل في عيني
من يُغري الرحيل الأخير
بعزف مضرج بالحنين؟
وترتبط بمسألة الحزن مسألة الجرح المولد لها، يقول الناقد لحبيب الدايم ربي، ليست التجارب الإنسانية، في أغلبها. سوى جروح خبيئة لا تنال منها الأيام ولا تندمل.فجذواتها ، حتى لو خبت لبعض الوقت .ما تفتا تتوقد من جديد تحت رماد الذاكرة . وهي حين تتلظى تتدفق صهارتها قصائد... وآهات.
هي الجراح تتجدد إذن في عود أبدي عبر اللغة وعبر الصمت... وما تشكيلها فنيا إلا إعادة تضميدها بنعومة علها تغفو قليلا ...لتصحو من جديد... وتلك حيلة الشعراء غالبا...في مواجهة الجروح...وما أكثرها وما اشدها. ولأن الشواعر، في مجتمعنا، أكثر تعرضا للأعطاب وأكثر إحساسا بها، فإن في زفراتهن ما يترجم غلبة الأسى والأنين.. وإن كن يكتفين، عادة، بالكناية والمجاز والمكابرة، لدواع لا مجال للخوض فيها، ضمن هذا الحيز الضيق.
لذلك، تدعونا الشاعرة إلى أن نشاركها تجربتها الحياتية المنفتحة على تجارب حيوات أخرى، بغاية أن نقف على قبح العالم وقساوته وما يولده في النفس من أحزان.
وما كان حديثها عن ولعها بالشِّعر إلا من أجل أن نعيد بناء نظرتنا إلى العالم الذي يحبل بالألم والعنف، متوسلة، من أجل تحقيق هذه الغاية، بالكلمة الصادقة والمعبرة.
الانحياز للطبقة المهمشة:
نجد الشاعرة، في كثير من نصوص المجموعة، مسكونة بهواجس الإنسان وقضاياه المصيرية.
هذا الانحياز إلى قضايا الإنسان لم يجعل شعرها شعاراتيا تقريريا جافا، بل اعتمد على رؤية شعرية قوامها الخلق والإبداع، ولغة شعرية منغرسة عميقا في تربة الكتابة الشعرية.
إن الشعر لدى تورية لغريب غير مقتصر على التعبير عن معاناتها ومكابدتها للشعر فحسب بل نلمس في أكثر من موضع ارتباط الشاعرة بقضايا وطنها، إذ تقول في قصيدة "عيناك والوطن":
لا تعرفني
ألجم أغنيات الحنين
أستبدلها
بأناشيد الثورة
وأصغي لضجيج المارة
حين أكتب الوطن وعينيك
وشما واحدا
على ذراع الزمن ص76.
وتضيف في قصيدة "نحن البسطاء":
في سيرة البسطاء
ما يكفي
لتعلم الوصول المحايدُّ
هكذا نحن...
نشفق على الانهزام
من شارة النصر
يعانقنا الليل
فنتقاسم سرير الأرق
في انتظار صبح خجول
..
البسطاء غبار متناثر
على رقعة الشقاء
يطعمون الجوع
أنين الأصوات الخافتة
يحفظون عن ظهر قلب
سرارَ العبور الطويل
دموعَ المغتربين
عرَق العمال
جوعَ المشردين
صرخاتِ المكلومين
وأمنيات محنطة ص 70.
هكذا نجد أن هذا الديوان فيما يعبر عن معاناة الذات الشاعرة ومكابداتها الشعرية يعبر في الآن ذاته عن ارتباطها بواقعها المعيش، بلغة بسيطة لا تنحو نحو التعقيد لا في صياغتها ولا في صورها، الأمر الذي يأسر المتلقي ويجعله مرتبطا بتموجات تعبيرية لا نهاية لها.
**
للأسف ضاع المرجع المعتمد نتيجة عطل تقني.
في ديوانها البكر “في الشارع المقابل لجرحنا القديم” الصادر في المغرب عن الراصد للنشر سنة 2023، تقدم الشاعرة “تورية لغريب” قصائد مكثفة، كل كلمة في مكانها المناسب في غير ما حشو أو إطالة. نجدنا في هذا الديوان أمام ذات أنثوية تخاطبنا بقدرٍ واضح من الإحساس، حتى في نصوصها الشذرية، فإن صمتها الباذخ قد جاء معتمدا بلاغة التكثيف والإيجاز والاقتضاب والتركيز، أما حين وجدت روحها قد امتلأت بمرارة الواقع فقد انسابت حروفها فياضة في غير إسهاب غير عابئة في بوحها بالمخاطر المحدقة بها ك: أن تمطر باللعنات، وأن تجد نفسها محاصرة بنظرات الشك والريبة.
الشعر لدى الشاعرة فعل رسولي، فلا يمكن أن يكون من أجل ذاته، بل ينبغي أن يوظف لترقية الوعي الفني والاجتماعي، والقدرة على فهم الواقع الطبقي.
فمن وجهة نظرها، كما جاء في إحدى تدويناتها، لن تكون شاعرا إلا:
عندما تؤمن أكثر من غيرك ، بأنّ الشّيء يمكن أن يتحوّل بين أصابع يدك إلى معنى، وأنّ اللاّشيء ليس دائما خواء، وهو ما يعني أن يشتغل جرّار العقل لديك دون كلل، بحثا عن جذور كينونتك، في ما يلتقطه من حشائش القلق المنتشرة من حولك، هذا يعني أيضا، بأن تُعرّي زيف العالم ببراعة ساحر،
و بصدق نبي...
أنت شاعر...
عندما تُفتّت صخرة الحزن، لتجعل منها فسيفساء من الجمال
الشعر نُبل وسموّ...
الشعر ثمرة القراءة الرّصينة والتأمّل العميق...
قلب مكتظّ بالأحاسيس، وذهن يسائل الشّيء واللاّشيء
مخاض متكرّر وولادة متجدّدة...
المتصفح للديوان البكر للشاعرة تورية لغريب سيكتشف، انطلاقا من العنوان، ومرورا بعناون النصوص، أنها رسمت خطين يلتقيان ولا يفترقان؛ إنهما خط عشق الشعر والحديث عن مباهجه ومعاناته، وخط الانتصار لشريحة الفقراء المنسية والمهمشة. فالشعر لا يمكن أن يتحقق وجوده إلا بالاهتمام بتقنياته، وفي الوقت نفسه، بالانفتاح على الإنسان، وسرد معاناته في الوجود، وبالأخص ذلك الإنسان المسحوق بفعل عوامل شتى.
هذا الديوان يعلن عن ميلاد شاعرة مهمومة بالشعر كجنس تعبيري خالد، ومنشغلة بهموم الإنسان الكادح بخاصة والإنسان في مطلقه بعامة. لذا، نجد أنه مكتنز فنا وجمالا وتنوع تيمات.
لننظر إلى هذا التداخل بين الذات الشاعرة والقصيدة في هذا المقطع لنتبين مدى انشغال الشاعرة بهموم القصيد والمجتمع دون نسيان هموم الذات وجراحها، تقول:
وحيدة أنا...
لا أثر لي بعدي
ألتهمُني
فأصير امرأة
على شكل قصيدة مهاجرة. ص 101
وهي إذ تؤكد قضية انصهار الذات في الشعر بحيث لا يصير فرق بينهما، فإنما لأجل خلق رجة في وعي الناس، وإقلاقهم بإخراجهم من حالة الفتور التي هم عليها إلى حالة جديدة ومناقضة للأولى، وما لعناتهم إلا تعبير عن هذه الرجة غير المنتظرة التي تسعى إلى إخراجهم من حالة الاستلاب ونشوته، تقول:
أكتبُني نصوصا غائمة
تعكر صَفو مساءاتكمّ
فتهتفون:
سُحقا لك من شاعرة ص96.
ولأن المجموعة ثرية وغنية بتيماتها وأبعادها الفنية، فإنني سأقف عند بعض العناصر تاركا غيرها لنقاد آخرين يقفون عندها محللين..
على المستوى الفني:
نجد الشاعرة قد اختارت قصيدة النثر وسيلة تعبيرية وفنية لأداء رسالتها الجمالية، علما أن بعض قصائدها تقترب، كما قال الناقد نجيب العوفي في تقديمه للعمل، من إيقاعي المتقارب والمتدارك، كونهما بحران قريبان من النثر.
كما أن لغة الديوان كانت انسيابية منفتحة على السرد، معتمدة على صور بليغة تعضدها التشبيهات والاستعارات الطرية والمدهشة، فقد اقترفت الشاعرة الجرم الجمالي في ديوانها من خلال زخم من الانزياحات الدلالية التي منحت النصوص الشعرية بعدا جماليا جذابا.
وبالانتقال لنصوص هذا المنجز الشعري الأول للشاعرة، يمكن أن نستشف أن قصائده تعكس انزياحات دلالية واضحة تتميز بمخالفة ما تعودنا عليه وخرق المألوف، والسير ضد منطق الأشياء.
فعلى سبيل المثال لا الحصر تقول الشاعرة في قصيدة "رقصة الحصاد" ص 13:
فستانُها مِروحة تدور حولها بغنج
يستدرجُ النّسائمَ لِمُضاجعةِ الأرض
الألحان تُسعِفُ الليل
أنْ يشربَ نبيذها..
وفي قصيدة "حكايتي مع الليل" تقول:
استيقظ أيها الليل
وسادتي مزّقتها الكوابيس
استيقظ !
لنقتسم فتات القلوب
أرجوك استيقظ!
ففي الكون حيارى
وحزن موشوم في المُقل.
استيقظ أيها الليل
ثمة امرأة تنجب
كل مساء
نصوصا طرية
وتقول في قصيدة "نحو الغياب" ص 31 : ما رَأيُكَ أن نُجرّبَ الاحتمالَ الأخِير
أبتسمُ لك مِن بعيد
وأنت تَقِيس قامة عشق
بِجَمال مُهرٍ جَمُوح
بلون عَينيَّ الحوراوين
وتضيف في القصيدة نفسها:
نُنظّف ثقوب قلبينا بتأن
نملؤها بِحرفٍ رُضاب
وفي نص "ما قبل النهاية": والشوق يدلك أنحاء جسمي
قلبي الصغير يتعرق
يتأوه يتكدس بالغياب.
وتضيف قائلة:
أغفو فوق سرير
مزدحم بالسواد
مطرودة أنا
من جنة الحب
فوق رأسي ملاك
يتلو آيات شيطانية
وكمثال أخير يمكننا أن نأخذ من قصيدة "حرف مخمور" بعض الانزياحات الدلالية، تقول فيها:
الحب أمامي
يمر معلبا في أكياس الوهم
مختنقا
يعبر إلى الضفة الأخرى
من خلال هذه النماذج وغيرها مما جاء في نصوص الديوان يمكن أن نستخلص أن الشاعرة تورية لغريب سعت في كل نصوصها إلى التميز الشعري من خلال خرق نمطية اللغة بغاية خلق عالم شعري مدهش معتمدة في ذلك على توظيف الانزياحات الدلالية المربكة والمدهشة والمثيرة، من دون أن تؤدي إلى غموض قصائدها أو تخلق قطيعة بينها وجمهورها؛ فقد جاء الانزياح في عملها الشعري كوسيلة لخلق لغة شعرية ساحرة تتدحرج من المكاشفة إلى الترميز والإيحاء.
إن المتلقي وهو بصدد قراءة الديوان لابد أن يلمس أن القصائد تصطبغ بالصور والتعابير والمشاعر التي تعكس نفسية الذات الشاعرة الحالمة والمتأملة. فلقد تمحورت سياقات القصيدة حول عنصرين اثنين، وهما الشعر والطبقة المسحوقة. وهكذا، يأتي حديثها عن الشعر بمثابة ميتا شعر، أي أن الشعر في ديوانها يفكر في ذاته في ما يفكر في موضوعه. فالشعر في كثير من قصائدها يتخذ نفسه موضوعا للتفكير والتناول، دون أن يعني ذلك بقاء القصائد سجينة تأمل ذاتها في مرآة الاستمتاع بهذه الذات كفعل نرجسي منغلق على نفسه، بل انفتحت على موضوع الإنسان، وبخاصة المسحوق والمضطهد والمهمش والمقصي.
فالانشغال بالسؤال الشعري كتجربة وجودية، وإبداعية من داخل تجربة الكتابة ذاتها تعكسه القصائد التالية على سبيل المثال لا الحصر: " طقس شعري" و"سحقا أيها الشعر" و "مرآة القصيدة"،فجميعها تحبل بكثير من مظاهر الميتاشعري ، وتعكس نظرة الشاعرة إلى الذات المبدعة بين الكتابة، والانكتاب.
ارتبطت الشاعرة وجدانيا بالشعر وعشقه لدرجة تخصيص قصائد كثيرة للتعبير عن هذا العشق، ويبدو ذلك جليا في نصوص هذا الديوان الشعري، سواء من خلال المعجم الدلالي للشعر، أو من خلال البوح الذي طبع الكثير من النصوص كما هو الحال في قصيدة "عزف منفرد" ص 47:
تستطيع الآن
أن تُقَطّرَ قلبَك
من الشِّعر والحب ومواسم الحصاد.
وفي قصيدة "سحقا أيها الشعر"، تقول:
ها أنا أعود إلي من جديد
شفافة
أحدثني عن الضّجيج العالق
في ثقوب الذاكرة
عن جنازاتٍ فقدت الأمل
عن غدٍ اغتالته أيدٍ غادرة...
يبدو جليا من خلال هذا المقطع أن الشعر يشكل للشاعرة متنفسا يكسر سواد الواقع وملجأ تحتمي به كلما تعرضت هذه الذات الشاعرة للانكسار.
التكرار:
لابد من التوقف قليلا عند هذه الخصيصة الايقاعية التي اعتمدتها قصيدة النثر كتعويض عن الايقاع الخارجي وأقصد به الوزن تحديدا، لأنها تمنح النصوص لذة سمعية مؤكدة، وتمنح الدلالات الثاوية فرصة الفو على السطح كنوع من التنبيه عن القضايا المركزية التي تؤرق الذات المتكلمة وتسكن أعماقها.
من ذلك تكرار الحرف:
كيف يتسَكع الليل وحيدا
وتَحتَ سِتارِه
تَكتظُّ حِكاياتُ العابِرين؟
فالملاحظ أن هذه الشذرة قد كررت حروفا عدة بشكل لافت، كتكرار حروف التاء والكاف والياء والحاء وبعدها السين.
تكرار الفعل:
من ذلك تكرار فعل الأمر "استيقظ" بشكل لافت، تقول الشاعرة:
استيقظ أيها الليل
وسادتي مزّقتها الكوابيس
استيقظ !
لنقتسم فتات القلوب
أرجوك استيقظ!
ففي الكون حيارى
وحزن موشوم في المُقل.
استيقظ أيها الليل
ثمة امرأة تنجب
كل مساء
نصوصا طرية ص 21.
ويهيمن هذا الفعل على أجواء النص، ويخترق مفاصيله، بل إنه يشكل المبتدأ والنهاية حيث يأتي مشتت الحروف كدليل على فاجعة الرفض وعدم الاستجابة.
الطباق:
يأتي «الطباق» في مفهوم البلاغيين القدامى باعتباره حليـة وزينة، وحين نعيد النظر إلي دوره في تكوين بنية النص نجد أنه يدخل في تكوينها جنباً إلى جنب مع معطيات ومفاهيم معاصرة، وهي: الثنائيات، والمفارقة، وكل مايفهم منه التناقض والتضاد، فهو يعبر في النص عن منظومة التناقض، الذي هو أبرز سمات اللغة الشاعرة .
د . مختار أبوغالي، الشعر ولغة التضاد، الرؤية - الميدان والتطبيق.
الطباق في قولها:
أغفو فوق سرير
مزدحم بالسواد
مطرودة أنا
من جنة الحب
فوق رأسي ملاك
يتلو آيات شيطانية
حيث جمعت بين متناقضين نوراني وناري، وهما الملاك والشيطان، فالأول مرغوب فيه ومحبوب والثاني ملعون ومكروه. والبين أن السطر الأخير يحيل على رواية أثارت نقدا عاصفا، وحركت غضبا كبيرا وكادت بعد مرور وقت أن تودي بصاحبها سلمان رشدي.
كما أن المقطع يستعيد بشكل ما قصة طرد سيدنا آدم من الجنة، فالتناص واضح، لا على مستوى الألفاظ ولكن على مستوى الشخصيات المستثمرة وعلى البعد الدلالي الذي ترمي إليه في قصيدتها. فإذا كان آدم عليه السلام قد طرد من جنة الخلد فإن الشاعرة تشير في قصيدتها إلى طرد من نوع آخر ويتعلق الأمر بجنة الحب.
على المستوى القضوي:
فالملمح الجلي في العمل تلك النبرة الحزينة، فما يخيم على المجموعة كما ذهب إلى ذلك الناقد نجيب العوفي، فضاء رمادي ملبد بفواجع وجوائح الوقت؛ لكن الحس الشعري المرهف للشاعرة خفف من ثقله بأن صيره جميلا كما في المثال التالي:
هو الحزن الجميل في عيني
من يُغري الرحيل الأخير
بعزف مضرج بالحنين؟
وترتبط بمسألة الحزن مسألة الجرح المولد لها، يقول الناقد لحبيب الدايم ربي، ليست التجارب الإنسانية، في أغلبها. سوى جروح خبيئة لا تنال منها الأيام ولا تندمل.فجذواتها ، حتى لو خبت لبعض الوقت .ما تفتا تتوقد من جديد تحت رماد الذاكرة . وهي حين تتلظى تتدفق صهارتها قصائد... وآهات.
هي الجراح تتجدد إذن في عود أبدي عبر اللغة وعبر الصمت... وما تشكيلها فنيا إلا إعادة تضميدها بنعومة علها تغفو قليلا ...لتصحو من جديد... وتلك حيلة الشعراء غالبا...في مواجهة الجروح...وما أكثرها وما اشدها. ولأن الشواعر، في مجتمعنا، أكثر تعرضا للأعطاب وأكثر إحساسا بها، فإن في زفراتهن ما يترجم غلبة الأسى والأنين.. وإن كن يكتفين، عادة، بالكناية والمجاز والمكابرة، لدواع لا مجال للخوض فيها، ضمن هذا الحيز الضيق.
لذلك، تدعونا الشاعرة إلى أن نشاركها تجربتها الحياتية المنفتحة على تجارب حيوات أخرى، بغاية أن نقف على قبح العالم وقساوته وما يولده في النفس من أحزان.
وما كان حديثها عن ولعها بالشِّعر إلا من أجل أن نعيد بناء نظرتنا إلى العالم الذي يحبل بالألم والعنف، متوسلة، من أجل تحقيق هذه الغاية، بالكلمة الصادقة والمعبرة.
الانحياز للطبقة المهمشة:
نجد الشاعرة، في كثير من نصوص المجموعة، مسكونة بهواجس الإنسان وقضاياه المصيرية.
هذا الانحياز إلى قضايا الإنسان لم يجعل شعرها شعاراتيا تقريريا جافا، بل اعتمد على رؤية شعرية قوامها الخلق والإبداع، ولغة شعرية منغرسة عميقا في تربة الكتابة الشعرية.
إن الشعر لدى تورية لغريب غير مقتصر على التعبير عن معاناتها ومكابدتها للشعر فحسب بل نلمس في أكثر من موضع ارتباط الشاعرة بقضايا وطنها، إذ تقول في قصيدة "عيناك والوطن":
لا تعرفني
ألجم أغنيات الحنين
أستبدلها
بأناشيد الثورة
وأصغي لضجيج المارة
حين أكتب الوطن وعينيك
وشما واحدا
على ذراع الزمن ص76.
وتضيف في قصيدة "نحن البسطاء":
في سيرة البسطاء
ما يكفي
لتعلم الوصول المحايدُّ
هكذا نحن...
نشفق على الانهزام
من شارة النصر
يعانقنا الليل
فنتقاسم سرير الأرق
في انتظار صبح خجول
..
البسطاء غبار متناثر
على رقعة الشقاء
يطعمون الجوع
أنين الأصوات الخافتة
يحفظون عن ظهر قلب
سرارَ العبور الطويل
دموعَ المغتربين
عرَق العمال
جوعَ المشردين
صرخاتِ المكلومين
وأمنيات محنطة ص 70.
هكذا نجد أن هذا الديوان فيما يعبر عن معاناة الذات الشاعرة ومكابداتها الشعرية يعبر في الآن ذاته عن ارتباطها بواقعها المعيش، بلغة بسيطة لا تنحو نحو التعقيد لا في صياغتها ولا في صورها، الأمر الذي يأسر المتلقي ويجعله مرتبطا بتموجات تعبيرية لا نهاية لها.
**
للأسف ضاع المرجع المعتمد نتيجة عطل تقني.