عبد الرحيم جيران - الهوية والمفكر فيه والتجريب والاستزمان

سنعالج في هذا المقال مشكلتين في تحديد اشتغال الهوية سردًا: مشكلة التجديل بين المُفكَّر فيه والتجريبي. ومشكلة الاستزمان. ونعُد المشكلتين معًا متعالقتين، ولا يُمْكِن الفصل بينهما إلّا منهجيًا. وينبغي موضعتهما معًا في قلب السؤال «لماذا نحكي؟»، بما يقود إليه من أسئلة فرعيّة تتعلّق بالبقاء والحماية والكينونة في العالم.
كما علينا أن نحرص في معالجة المشكلتين المذكورتين على عدِّ الحكي في اختلاف مظاهره أكثر الفنون ارتباطًا بسؤال الهوية، لا بوصفها تصنيفًا مجرَّدًا للكائن بتذويبه في مفهوم جوهريّ مفارق، ولكن بوصفها تصنيفًا يرتبط بالمعيش (الضار/ النافع) وبالمعرفي (رفع الالتباس عن الكائنات).
يُجدَّل في المشكلة الأولى بين المفكَّر فيه (النية- القصد- التصوّر) والفعل المُنجِز انطلاقًا من علاقة ذات محدَّدة باستعمال موضوع معيَّن. ويقع في قلب هذا التجديل مفهوم الحاجة الدالّ على وجود النقص وعدم الكفاية المرتبطين بالوجود في العالم من طريق البحث الساعي نحو تلافيهما. ويُعبَّر عن هذا السعي بالتجديل بين الفهم والحسّيّ الملموس، أي بين العقلانية وورثتها والتجريبيّة وورثتها. لا يوجد موضوع ما يُتوخّى القبض عليه بدون فهم مسبق له، وتصوّر (تطلّع) يُحدِّد الحاجة إليه استعمالًا، وملموسيته هي نتاج تحويله من شكله التصوّري- المفهوميّ إلى شيء محقّق ومجرَّب؛ فالفعل السرديّ، لا العمل، قائم على التجديل بين تجريب المفكّر فيه وتفكير المجرَّب، ومعنى هذا الأخير تقويم المحصَّل عليه انطلاقًا من حجم رضا الذات عنه. وينشأ البحث بوصفه – صيغة للفعل السرديّ- في إطار هذا التجديل المتداخل، ويُصاغ وفق شروط تتمثَّل في: أ- تلافي النقص الذي يسم العالم. ب- تلافي محدودية الإرادة والجسد (الذي يتلقّى الانطباعات من عالم الحسّ: هيوم). ج- تلافي نقص الفهوم التي تُقدَّم حول العالم بوصفها معرفة مصوغة من قبْلُ، وتنتقل عبر الأجيال؛ فنحن لا نتّصل بالعالم إلّا من خلال علاقة الأفعال بموضوعات محدَّدة. لكنّ هذه العلاقة موسَّطة بفهوم مسبقة مكانها الثقافة المكتسبة والاعتقادات؛ وبتأويلات الآخرين الذين هم حوامل لهذه الثقافة. كما أنّ الأفعال الساعية إلى القبض على الموضوعات تُجدِّل في بنيتها بين التجارب المكتسبة- من قِبَل الذات- بوصفها معرفة، والتجارب الجديدة الملموسة التي تُعَدُّ اختبارًا للتجارب المكتسبة. إنّنا نصطنع في ضوء هذا مشكلات فعليّة بالأساس. وهذه المشكلات تتّخذ طابع أوضاع يوضع داخلها الفاعل الإنسانيّ (الورطة – المحنة – المأزق) لمعرفة كيفية ممارسة البقاء في فتور لحظات الحماية واضمحلالها، وفي إطار الزمان بوصفه المهدِّد الأساس للإنسان، والممثِّل الأساس لمرض الذاكرة. إنّ التحقّقات التي هي تراكم في اتّجاه حماية الذات والسعي إلى البقاء هي تجارب خاصّة مختلفة حسب الأفراد، وهي التي تشكِّل هويتنا، وهي تجارب ماضية مفتوحة في الحاضر على مستقبل ساعٍ إلى مزيد من تأكيدها أو تغييرها. وتظلّ على العموم هذه التجارب من التحقّقات الخاصّة بالفرد في مجموعها مرجعية تعود إليها الذات كي تتعرّف إلى نفسها في تلافي سيِّئها ومحاولة إدامة الجيِّد منها؛ فهي- إذن- نوع من التجديل بين تجربة تلافي المُميت وإدامة ما يُقوِّي البقاء.
ولا بدّ من فحص مفهوم الاستزمان قبل مقاربة المشكلة الثانية، إنّه يتضمَّن في بنيته الصرفيّة الطلب؛ أي طلب الزمان، وقد جعلناه في كتاب «علبة السرد» دالًّا على الرغبة في إبطاء الزمان أو تسريعه، لكنَّنا في هذا المقال نوسِّعه بغاية التدليل على علاقة الزمان بالكينونة؛ ومن ثمّة يصير الزمان مرتبطًا بطلب تحقّق المفكَّر فيه في الزمان. ونُقرِّر في هذا الصدد فرضية أساسًا؛ فالكينونة لا تتحدَّد انطلاقًا من علاقة الزمان بهنا أو هناك (الدزاين: هايدغر)، وإنّما من تجديل بين المحقَّق وغير المحقَّق في بنية الفعل الساعي إلى القبض على موضوعه. وسنعمل في تسويغ هذه الفرضية على استثمار «الأيس» بإدخال حركة النفي عليه، كما هو الأمر في «ليس» بوصفها فعلًا ماضيًا جامدًا، لا بِعَدِّها حرفًا نافيًا؛ فالهوية السردية الفاعلة تتحدَّد بما تُحقِّقه من موضوعات، سواء أكانت موضوعات من نظام التملّك (سيارة- منزل- ثروة…الخ) أم كانت موضوعات من نظام الكينونة (شاعر- أستاذ- طيّار…الخ) ، ويُجدَّل في إطار التحقُّق بين «الأيس» الدالّ على الكينونة ونفيه في الحاضر؛ والمقصود بهذا أنّني كائن الآن على هذا الوجه، ولست كائنًا على وجه آخر في الوقت نفسه؛ أي كائن في ما حقَّقته، وفي ما لم أحقِّقه أيضًا. لكنّ حركة الزمان لا تنغلق في هذا التجديل؛ إذ تظلّ مفتوحة على المستقبل (الأمل)؛ فنفي الأيس الماثل في ليس «لا أيس (لست) شاعرا بَعْدُ» دالٌّ على انفتاح الزمان على غير المتحقِّق داخل بنية المتحقِّق من الموضوعات. وينبغي ربط غير المتحقِّق دومًا بالأمل فيه المنفتح على المستقبل، بما يعنيه هذا من إعادة الكرّة.
لا تتجلّى الكينونة على نحو نهائيّ، ومن ثمّة فهي حدث غير ناجز على نحو نهائيّ. وكلُّ ما يُستطاع- في هذا النطاق- هو القبض على تجلٍّ مرحليّ لها؛ ففعل الكينونة «كان» لا يُؤشِّر في اللغة العربيّة إلّا على الماضي نفيًا وإثباتًا؛ أي ما كنته ولم أكنه في الآن نفسه. ومعنى هذا أنّ فعل الكينونة يربط في اللسان العربيّ بين الكينونة والمتحقِّق من الموضوعات، ويرتفع لفظًا في الحاضر المؤقَّت وجوده؛ إذ لا يصدق الحكم على اكتمال الأشياء أو عدم اكتمالها في الحاضر، بل في الماضي؛ فلا يصحُّ القول «أكون منكبًّا على الكتابة الآن»، ويظهر هذا الأمر جليًا في حركة النفي التي تطول فعل الكينونة «كان» في الحاضر؛ حيث يتعذَّر القول «أنا لم أكن أكتب الآن». تتمظهر علاقة الاستزمان بالهوية – إذن- في هذا التجديل بين فعل الكينونة «كان» والأيس. وهو تجديل يُقام على تضمّن الفعل السرديّ في بنيته المتحقِّق المنتسب إلى الماضي وغير المتحقِّق المنفتح على المستقبل «ليس بَعْدُ». لكنّ الهوية لا تتجلّى في الاستزمان إلّا في هيئة فرق بين ما كان مُتطلَّعُا صوبه في الماضي وتحقّقه الفعليّ، وبين ما تحقَّق وما لم يتحقَّق بَعْدُ. وربّما كان الفرق ذا حمولة زمانيّة مُحدِّدة لسؤال «من الفاعل» في السرد؛ فالذات تتحدَّد بما هي كائنة عليه الآن وبما لم تكن عليه في الوقت ذاته على مستوى ما حقَّقته أو ما لم تحقِّقه بَعْدُ. كما أنّها تتحدَّد بما لم تكنه في الماضي، وما زال يشتغل في هيئة أثر دالٍّ على شرط ناقص في الكينونة. وهذا التجديل بين المتحقِّق وغير المتحقِّق، وما يقع بينهما من فروق، هو ما يشكِّل هوية الإنسان، وليس المتحقِّق وحده.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى