عبد السلام انويكًة - تقطير ماء الزهر بالمغرب..

قديم هو التداوي بالنبات في المغرب، وأصيل هو كتقليد تطبيب وفق خبرات تراكمت مع الزمن هنا وهناك بجهات البلادعلى تباين بيئتها. وإلى جانب ما كان عليه نبات المجال المغربي ولا يزال كمصدر مواد عطرية عدة، فقد شكل أداة تجميل للجسم بمستخلصاته ونوعاً من الأريحية في علاقة بكل احتفال ديني أم أسري. ولم تكن مشتقات النبات العطري عبارة عن سوائل برائحة طيبة مفيدة فقط، بل بأثر على ما هو نفسي وبتأثير ايجابي على كل توتر ذاتي وقلق عصبي.
ولا شك أن ما يطبع البيئة المغربية من غنى وتباين وتنوع، يجعل من نباتها العطري مجالا واعداً فيما هو صيدلي طبي وتجميلي، وبقدر تنوع واتساع نبات المجال المغربي بقدر ما لا يزال دون استغلال طبي واسع بل هو بحاجة لأبحاث ودراسات علمية وأوراش استثمار. ولعل طبيعة مجال البلاد الجبلي ونوعية مناخه، هي بأثر على ما هو عليه من غنى يخص أعشاب طبية وعطرية عدة، فضلاً عما هناك من تباين في نوع ونوعية المكون النباتي الطبي وقيمته في التداوي الأصيل.
وغير خاف أن الحضارة المغربية كانت منذ القدم بطابع تنوع في تراثها وثقافتها وعاداتها ونمط عيشها، باعتبارها تراثاً ضارباً في زمن البلاد. وكثيرة هي مظاهر وتجليات ما يعكس غنى الثقافة المغربية واحتفالياتها، والتي منها ما هو بعلاقة مع الطبيعة والنبات خاصة، كما شأن ما يحفظه المجتمع المغربي من أشكال احتفاءٍ ربيعَ كل سنة، حيث العطر والزهور والورود وتقاليد تقطيرٍ وأشكالِ تعبير ونزهات وشدو وترويح. وغير خاف أن عطر النبات ارتبط بحياة ونمط عيش المغاربة منذ القدم، فقد كان بموقع رمزي لديهم من خلال حضوره واستحضاره في مواعيد حياة وممات، وقد نجد العطر أكثر ارتباطاً بما هو ديني روحي من عبادة وتعبير عن حب وعلاقة وتقدير واحتفاء.
وإذا كانت لفظة عطر تعني كل ما هو طيب، فهي ترتبط في الثقافة المغربية وذاكرة المغاربة ب”العطار” ذلك الحرفي الناعم الذي يحيلنا على جوانب من عبق ورمزية تقاطع أزقة مدن المغرب العتيقة وأسواقها، كفاس ومراكش وتطوان وسلا والرباط ومكناس وتازة وصفرووغيرها. وعليه، يتداول المغاربة وينعتون منذ زمان بقولهم هذا رجل عطر وهذه امرأة عطرة إذا كان فيهما ما يميز من طيب وطيبوبة. ولعل العطر عند اللغويين إسم عام لِما هو طيب والطيب إسم شامل لكل رائحة طيبة، ولعل أقرب المواد للإنسان ولحواسه وتفاعلاته وأحلامه وآفاق حياته نجد كل ما هو طيب وعطر نباتي أصيل، بل لكل من الطيب والعطر معاً علاقة بالجمال وطلب الزينة. وتاريخ علاقة المغاربة بالعطر الطبيعي جزء من ذاكرة البلاد وثقافتها وحضارتها، كيف لا وجل مدن المغرب العتيقة لا تزال تحفظ شواهد وعادات وتقاليد تعود الى زمن بعيد.
وتذكر المصادر التاريخية الوسيطية المغربية والعربية، ما يخص بيع العطور في أماكن خاصة ببعض مدن المغرب العتيقة، ومن هنا ما نجده من تداول وحديث حول زنقة العطارين ببلاد الأندلس ثم بالمغرب لهذا العهد. ففي فاس مثلا بنيت مدرسة العطارين قرب سوق العطارين غير بعيد عن جامع القرويين أواسط القرن الرابع عشر الميلادي زمن بني مرين تحديداً سنة سبعمائة وثلاثة وعشرين هجرية. بل ويذكر بعض المؤرخين أن فاس كانت أكثر مدن المغرب وبلاد الغرب الاسلامي استيراداً للعطور خلال العصر الوسيط قائلا :” ومدينة فاس هذه هي حاضرة المغرب في وقتنا هذا.. لا أعلم بالمغرب مدينة لا تحتاج الى شيء يجلب إليها من غيرها، إلا ما كان من العطر الهندي سوى مدينة فاس”. وهو ما يعني كون المغاربة من خلال مدينة فاس كانوا على صلة بالعطر وحرف وحرفي العطور، التي هي في الأصل نباتات بمنظر جميل جاذب وريح طيب وشكل زهي وهو ما نجده غالباً في مناطق ذات طبيعة رطبة.
وبقدر ما هناك من علاقة بين الاحتفاء والعطر والطيب بقدر ما يدخل هذا الأخير ضمن تقاليد ضاربة في القدم، كالأعياد والأفراح والزواج والجنائز والدفن وغيرها من أشكال تفاعل حياة الانسان منذ قرون. فكثيراً ما نجد الطيب يحضر في طلب مغفرة ومحبة وجلب حظ وفأل حسن وطمأنينة نفس، لطبيعة ما هناك من علاقة خفية روحية بين الأزهار والورود والانسان. وعليه، فالنفوس دوماً تشعر بنوع من الراحة والروحانية عند رؤية الزهور والحدائق والنبات، ومن هنا إقدام الناس منذ القدم على غرس أشجار زاهرة تنتج الزهور وسط البيوت. وبما أن الموت حالة برعب وأثر خاص في حياة الانسان، عمل هذا الأخير منذ زمان على التخفيف من أثرها وتقديم الدعاء والتوسل عند حدوثها بواسطة العطر وجميع ما هو طيب.
وكان لموقع المغرب وأعاليه من الجبال أثر في تنوع موارده النباتية العشبية الطبيعية، فالبيئة المغربية تحتضن منذ قرون تنوعاً نباتياً شجرياً مثيراً للاهتمام، لِما تسمح به هذه الثروة من قيمة عطرية أصيلة لعل منها شجرة النارنج. وقد تعامل المغاربة منذ القدم مع جميع أنواع النبات العطري باعتباره إرثاً ثقافياً، وعليه نجد النبات وما يستخلص منه لهذا الغرض أو ذاك يحضر في تجليات تجمع الديني بالاجتماعي، كما في الطبخ والعلاج والتزيين والزيارة والاستقبال والترويح. ويصنف النبات العطري الى أشكال بتميزات ومواصفات تحددها الدراسات العلمية في هذا الاطار، نذكر منها التصنيف المورفولوجي ذلك الذي يقوم على الجزء المستعمل الذي يحتوي المادة العطرية الفاعلة. وعليه، من النبات من يستعمل بكامله ومنه من تستعمل فقط أوراقه.
وتعني شجرة النارنج التي ارتبطت بالبيئة المغربية منذ القدم وبالمغاربة في المدن العتيقة وأريافها الشيء الكثير، لِما تضفيه من قيمة مجالية بيئية على البلاد بأكملها ومن رمزية في الذاكرة المشتركة خلال ربيع كل سنة كما تشير اليه نصوص التاريخ في هذا الباب، حيث تميز في البيئة بأزهار بيضاء ذات رائحة طيبة هي مصدر عطر طبيعي. ومعلوم أن شجرة النارنج تجود خلال ربيع كل سنة بأزهار يتم تقطيرها بشكل تقليدي، لاستخلاص ما يعرف في البيوت المغربية بماء الزهر، وهي تسمية مغربية قد تكون عرفت لأول مرة بفاس ومراكش وسلا.
ووفق ما تذكره مصادر التاريخ تعود شجرة النارنج أصل هذه المادة المعطرة (ماء الزهر)، الى بلاد الصين قبل انتقالها الى جهات أخرى لعل منها تلك المطلة على البحر الأبيض المتوسط، وتصنف شجرة النارنج هذه ضمن الحمضيات بحيث هي شبيهة بشجر البرتقال. وقد ورد عن مؤرخين مشارقة خلال القرن السادس الهجري، أن المجال الأول من العالم يبدأ من جهة المغرب حيث البحر الغربي المسمى بحر الظلمات (الأطلسي) الى البحر الهندي، وأنه بجزر هذا الأخير كانت أشجار عدة منها النارنج التي تتوفر على زهر يتفتح ويسقط، وأن منه من يتم جنيه وتجميعه وتجفيفه وبيعه لتجار واردين على المنطقة يتجهون به الى جميع الأقطار لعل منها المغرب وفاس تحديداً خلال هذه الفترة.
وبناء على ما ورد في نصوص مصدرية تاريخية، انتقلت شجرة النارنج - أصل عطر”ماء الزهر” الشهير بالمغرب والغرب الاسلامي- الى بلاد والمغرب الأندلس، حيث المناطق الملائمة من الناحية المناخية تحديداً شمال البلاد وغربها. ومن هنا كان الأندلسيون المهاجرون بفضل في هذه العملية (تقطير ماء الزهر) وفي نقل ما ارتبط بها من تقاليد وسبل استغلال خلال القرن الخامس عشر الميلادي، خاصة طرق تقطير أزهار هذه الشجرة واستخراج منها ما يعرف ب”ماء الزهر”. هكذا انتقل هذا التقليد الأندلسي الأصيل الى مدن مغربية تاريخية عدة، وانتقلت شجرة النارنج التي كان يتزين بها فضاء بيوت المغرب العتيقة الداخلي، لِما تضفيه هذه الشجرة من جمال ورائحة طيبة خلال فترة إزهارها، فضلا عما تحاط به أزهارها من قدسية وقيمة جمالية وتجميلية.
يبقى من خلال ما حصل من أبحاث حول الهندسة الزراعية عند العرب، من المفيد الاشارة الى أن شجرة النارنج انتقلت من الأندلس الى المغرب ومنها الى أروبا شمالا، الى جانب أشجار مثمرة أخرى لا تزال تحضر في اللغات الأوربية وتنطق بأصلها العربي كما شأن شجرة النارنج.
مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث


عبدالسلام انويكًة




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى