عبدالرحيم التدلاوي - ملامسة قرائية لرواية سعيد رضواني "أبراج من ورق.

تنتصر رواية "أبراج من ورق" للكتابة لأنها نقيض المحو. الكتابة خلود والحروف أشد قوة من الواقع الموشوم بالتحول. لكن لا كل كتابة بل تلك التي تعبر بصدق عن التجربة الداخلية والحياتية للإنسان. وأبرز دليل ذلك، ما قامت به الأم وهي تنكب على رسوماتها. ثم إن الكتابة تستدعي القراءة لأنها شرط تحققها ووجودها. وقد فهم المخرج ذلك فمنع رواية أب السارد من التداول. ومن هنا تأتي أهمية كتابة هذه الرواية؛ إنها تبغي رد الاعتبار للكاتب وللأب والجد او لنقل للسلالة والإنسانية ككل.
الناص:
تسكن مجموعة قلعة المتاهات في الرواية؛ وتحضر في مفاصلها وتشكل خرسانتها. إنها اللحمة المستضمرة. ويمكن إدراج حضورها ضمن التناص الداخلي بما يعني تراسل نصوص المبدع في ما بينها. حيث يستدعي النص الأكبر النصوص الصغرى السابقة عليه ليعيد تشكيلها وفق إيقاعه دون أن تفقد هويتها بل تكتسب هوية جديدة يجعلها ذات بعد مضاعف.
السخرية:
ولأن العمل الروائي ينطوي على الكثير من السخرية فإن السارد لا يتورع عن رسم معالم سخريته وهو يتحدث عن أصحاب السلطة من مستشارين وقياد بلغة فيها الكثير من النقد، معتمدة على رسم التضاد والمقابلة بين الأمكنة والأفعال، لننظر إلى هذا المثال المعبر بشكل جلي كما تم إيراده كحجة قوية، يقول السارد:
لأنه لا يسمع ما هو بعيد- أن أقترب منه، كي يسمعني جيدا، وطيلة حديثي معه كان يقاطعني: "تراجع كي أراك، واقترب كي أسمعك"، ويبدو أنه لا يفهم ما أقول له إلا بعد أن يقوم بعملية الميكساج والمونطاج، وما لا يعلمه إلا الله من الآليات الذهنية.
وتمتد السخرية السوداء بالحديث عن الموظف الذي يقدم إلى مقر عمله في شاحنة الأزبال، ويعود إلى منزله في سيارة نقل الأطفال.
ولا يستثمر السارد السخرية بتناقضاتها فقط بل بوظف كل إمكانيات اللغة في عبارات تشف عن التفاوت والتباعد الذي يسم الشخصيات على المستوى الاجتماعي والعمري، ومن ذلك تلك المقابلة بينه وبين ليلى بمفردات تنحو باتجاه خلق الدهشة لكون تعابيرها جديدة وقد جمعت بين المتنافر في توليفة واحدة.
فأرى مسافة زمنية بين عشية جسدي وضحى جسدها، مسافة زمنية تُقاس بأعوام شابت شهورُها، وبردح من الزمن لا تقوى شيخوخةُ أيامه على حجب هذا الفرق. أطرح عني كل يأس وأستمر في التحديق من النافذة لعلي، قبل لقائها، أختلس، إذ تمرّ من أمام النافذة، نظرةً إلى الرابعة صباحها من خلفِ الرابعة مسائي.
وفي هذا المثال الثاني وغيره: ". لم أر أي ذئب، رأيت ملاكا يتقدم نحو بيتي كما اتفقنا أثناء توقيع عقد التمثيل مع والدها المخرج. بعد لحظات أصبحتُ في حضرة الملاك المبتل، أو في حضرة التي اعتقدت أنها ملاك. بعد أن ذهبت ليلة مظلمة كئيبة حضرت ليلى مشرقة بهية.
يقيم السارد مقابلة بين الكتابة والمرأة، ويعقد مقارنة بين شهوتي الكتابة والنص النسوي، فيجد أن تلك التي أشعلت وقود الرغبة فيه وهي بعيدة ليست كما هي قريبة، أججت لظاه في بعادها وانطفاءه في قربها، وزاد من البرودة لا المطر المتساقط بل الكتابة كتعويض أو منافس قوي للشهوة النسائية. الكتابة ذات شهوة لا تنطفئ في ما المرأة شهوة مرحلية.
أدركت أنني كائن مستنفد، كائن حقق من خلال النجاح النسبي لكتبه المنشورة كل إشباع، ولم يُبق للمرأة أي دور تلعبه في مسرح إثبات الذات. أدركت أيضا أن مهمة أي امرأة في ضخ نفس جديد في حياتي لن تكون هينة.
وفي مشهد التأوه والتنهد يتم إضافة مؤثر مهم يصعد الشهوة، إنه نباح الكلاب، وللكلاب رمزية جنسية تعبر عن الشهوة المتجدد واللاتنطفئ، وهنا أستحضر قصة من مجموعة "مرايا" كمثال على ذلك.
وبالرغم من التوجس الذي لامس وعي السارد من نوايا ليلى، فإنه أكمل مشهده الجنسي ضاما إياه إلى المشد الطبيعي الكلي بقوله:
انصهرتُ، بين تضاريس الطبيعة، في تضاريس الجسد. تتمازج الجغرافيتان، فأنحدر مع منحدرات الجسد عند منحدرات الطبيعة، وعند مرتفعاتها أرتفع مع مرتفعات الجسد.
إن السارد يولد من المتداول تعابير جديدة غاية في الدهشة، تجمع مفرداتها من المشتت في توليفة جديدة تعبر عن اللحظة الراهنة وما يتطلبه المشهد:
. بعد هنيهة من الصمت طوقت عنقي بذراعها وقالت وهي تتنهد: "احذر، الحب أعمى". وضعت فمي على أذنها وهجست معقبا: "الحب أعمى وأنا أيضا، دعيني إذن أتهجى حروف جسدك بطريقة برايل".
القارئ الضمني:
ما يثير الانتباه كون الرواية تعلن عن قارئها الضمني والمتمثل في السارد من جهة ومن خصية ليلى التي تؤدي دور البطولة في النص الروائي وتكون منصتة لحكايات السارد لتصير هي نفسها عنصرا مشكلا من الواقع الذي يسرده على قارئه الضمني الأساس؛ صديقه كريم الذي يطلبه ولا يرى عمله مستقيما من دونه. كريم بالإضافة إلى واقع النص الروائي للأب، ومرويات الشخصيات، وواقع السارد الحقيقي، هو ركن أساس، واللبنة الرسمية فمن دونه يتهاوى البناء..
في الحديث عن بع شخصيات الرواية:
لم اختار السارد هذه الأسماء لأصدقاء أبيه في الرواية: لحبيب، لعميم، لخويل؟ إنهاا تنضبط لصيغة صرفية واحدة مما يعطيها تجانسا صوتيا، فضلا عن قربها من الطبقات السفلى كونها جميعا تشتغل في مجالات تتطلب عضلات، الفلاحة والبناء والنقل، ثم كيف تمت صداقتها مع أب يعشق الحرف ويكتب الرواية وبالتالي هو من فئة المثقفين؟
ميزة لغة هذه الشخصيات:
اسمع يا ابني. صحيح أن قوامها ممشوق كما لو كان مثبتا بقضبان حديدية، وساقيها قويتان كدعامات خرسانية، لكني لا أنصحك بها. أنا مثل أبيك وأحب لك الخير. أرجو أن تبتعد عن تلك العائلة. عائلتها كخليط إسمنتي مسلح، ما إن تختلط بهم حتى تتجمد معهم في كتلة واحدة".
هذا المثال يقدم دليلا على أن الإنسان يستقي معجمه من شغله وبيئته وما يشتغل به. فالرجل قدم نصيحة مستقاة كلماتها من حقله التداولي المرتب بالبناء. وكان قادرا على صياغة النصيحة بتلك المفردات بطريقة مقنعة ومتماسكة.
والأمر نفسه ينطبق على كلام لخويل حين قال:
هي شقراء وجميلة مثل سنبلة، لكن عائلتها كآلة الحصاد التي أقودها، تحصد كل شيء يوجد في طريقها، وأخشى، - إن ارتبطتَ بها- أن يحصدوا كل أملاكك، التي ورثتها عن أبيك وجدك، وتعيش بينهم حياة مضغوطة كحزمة التبن".
ونفسه في كلام الصديق الثالث المشتغل في النقل.
بعض دلالات شذرات الرواية:
الرواية تقول إحدى الشذرات الواردة في الرواية:
1_ شذرة الإنسان والنار:
مذ اكتشف الإنسان النار أدمنها، وما الألعاب النارية والحروب والتدخين إلا امتداد لهذا الإدمان. البعض يدمن إشعال السجائر، والبعض الآخر يدمن إشعال الصواريخ".
تأتي هذه الحكمة المستخلصة بعد مشاهدة المخرج يشعل سيجارته بعد مشهد حربي صار جزءا من الرواية، وبذا تتأكد، ثانية، أن الرواية جنس إمبريالي يستحوذ على كل الفنون وكل أشكال الإبداع الإنساني كما يشتمل على جزئيات الواقع. إنها جنس مفترس يلتهم الكل ليحوله واحدا ضمن البناء العام للرواية.
2_ شذرة استمرارية نسل الكتابة:
قد يبدو هذا القول: لم يكن هدفنا مثل هدف إيتماتوف تماما، فهدفه كان ضمان استمرار النسل، وهدفنا كان، وسيظل، هو الكتابة، الرواية، القصة التي تختزل الكون.
صحيحا، لكنه ينطوي على جزء من الصحة كون السارد يسعى إلى ضمان استمرار النوع عبر الذاكرة التي تستحضر كتابات الأب والجد، وهو ما يعني تجذر السارد في بيئته واستمرارية نسل أجداده من خلاله؛ والكتابة عنصر مهم في عملية تخليد النسل واستمراريته.
وحين قلت إن الرواية جنس إمبريالي يلتهم كل شيء وبخاصة الأجناس الأدبية الكبرى مثل السينما والموسيقى والمسرح حيث نلمح حضورا لها في النص الروائي، فليس غريبا أن يستثمر الجنس الروائي الذي ينتمي له من خلال استدعاء أعمال روائية عالمية كالشيخ والبحر وأعمال ايتماتوف.
ثم هناك شخصية باشكو المخرج الذي تم تصويره على أنه إنسان بلا رحمة، يعشق استغلال الفرص والاستفادة من ضيق الناس ليستحوذ على أملاكهم. وبالتالي، نحصل على فئتين من الشخصيات، الانتهازية والأصفياء الخلص. تناقض بينها بين، واحدة لا تراعي إلا مصلحتها، وواحدة تراعي الصداقة وترعاها وتحافظ عليها، ولا تنقاد لإغراءات المال بالرغم من حاجتها له.
وحين ننتقل إلى أسماء شخصيات الشخصية المحورية، نجد أنها تنتمي إلى حقل الثقافة، وبخاصة صديقه كريم المعبرة عن الكرم كما فصلت ذلك الرواية، فهو الذي لعب دورا في بناء الحيلة، ونصب الفخ، ونجاح المهمة.
وعن شخصية كريم المتخيلة والتي تلعب أدوارا متعددة أساسها التلقي الأول، يقول السارد إن الاهتمام بما تحكيه يقود إلى إسرافه في تطاوسه وادعاءاته عن مغامراته الجنسية، وأن لو تم سحب ذلك الاهتمام فإن مآل محكياته ستنطفئ. وهو ما يؤكد أن فعل التلقي ضروري لكل سرد مهما كانت قيمته، والتجاهل يؤدي إلى التهميش فالقتل المعنوي. إن القراءة فعل إحياء بعد انتهاء الكاتب من تحبير أوراقه. إن إنهاءه من فعل الكتابة هو بمثابة موت يعقبه صمت الحروف، ولا يمكن أن تستمر في الحياة إذا لم تجد من ينطقها؛ ومن ينطقها هو المتلقي لا الضمني أو الداخلي بل المتلقي الواقعي، فهو الذي يمنحه حياة جديدة تتجدد بتجدد التلقي وتنوع المتلقين.
فكريم يجد لذة في الاستحواذ على ما يهتم به الآخرون. هكذا يشعر بالانتصار وبإثبات الذات، ولذة المضاجعة عنده مقترنة بلذة الانتصار على شيء ما، وأعرف أن تجاهلا متعمدا منا تجاه نسائه، سيخمد شعوره بالانتشاء بصحبتهن، ومن المحتمل أن يجهز على متعته المزدوجة، وقد يدفع به إلى التخلي عن هواية مصاحبة الفتيات، ولأننا كنا أصدقاء أوفياء فقد ساهمنا دون قصد في إدمانه هذه الهواية
وإذا كانت أسماء الشخصيات تلفت الانتباه؛ فإن اسم جنس المكان يمكن اعتباره الأبرز؛ وأقصد كلمة الضيعة؛ فإن كانت تدل على مكان فلاحي يتميز بتنوع مزروعاته وتكسوه الخضرة وكثرة العطاء؛ فإن من معانيها المضمرة والحقيقية هو الخراب والضياع.
الوصف:
يستمر تقريبا طوال الفصل مما يدفع إلى قراءته بتمعن بغية الإمساك بجمالياته.
ويتميز المبدع بقدرته الهائلة على الوصف لدرجة نقل التفاصيل بدقة مرعبة تناسب الحالة النفسية للشخصية. والوصف خارجي وداخلي. والداخلي نشعر بإيقاعه من خلال نبضات خوف الشخصية لدرجة تجعل القارئ ينتقل من الخارج إلى الداخل فيشعر بما تشعر به. وتنقشع سحب الخوف ليتبدى أن الهواجس قادرة على خنق الأنفس.
التداخل بين الواقعي والخيالي:
تعمل الرواية على تكسير مفهوم الواقع بالمعنى التقليدي، بتشيـيد واقع احتمالي افتراضي، قد يَحْدُث ولا يَحْدُث، يقوم على أسس جديدة. يتداخل فيه الواقعي باللاّواقعي العقلاني باللاّعقلاني، قوامه اللعب، عبر الحلم والتخيُّل اللذين يهدّمان الواقع ويلغيان قواعده ويؤسّسان قواعد خاصة تـتجاوز الواقع الذي يصبح مجرد احتمال من الاحتمالات التي يخلقها الحلم واللعب واللغة. 1
يأتي فصل مواجهة الذات قصيرا لكنه مكتنز الدلالات، ويعبر عن حيرة الشخصية وشعورها بمشاعر متضاربة كادت تعصف بتوازنه لدرجة الرغبة في تهشيم المرآة الفاضحة لما يعتمل بداخلها..
هناك تداخل بين الواقعي والخيالي وبينهما ممر يعبره السارد بكل أريحية واطمئنان؛ هذا التداخل جعل عملية الفصل بينهما صعبة، فها ليلى تنتقل من الواقع لتكمل الرواية وتنتقل من الحلم لتمارس واقعها...
التلوينات الأسلوبية:
يعتمد سعيد رضواني علي تلوينات أسلوبية تتضافر مع البعد الدلالي لتحقق من جهة تماسكا نصيا ومن جهة لخلق مضاعفة معرفية. فنجده يعتمد على التشبيه بخرق ترتيبه؛ تأتي أداة التشبيه والمشبه به في البداية ليعقبه المشبه وكان الركن هو المشبه به.
ليس مبالغة إذا قلت إن الرواية عمل فذ، ينم عن اشتغال ذكي، وبراعة لا خئها القراءة، وبالتالي، فإنها تستدعي القارئ إلى حقلها لتمارس عليه جمالها، داعية إياه إلى قراءة المضمر والمخفي، والوقوف عن القنيات الموظفة لقول إشاراتها المبطنة، وبخاصة تقنية التناظر التي حضرت فعلا وقولا باتخاذها موضوعا.

**

1_ شعرية اللعب، قراءة في مجموعة "ققنس" لأحمد بوزفور، محمد الساوري، ديوان العرب، بتاريخ 20 أبريل 2007.
.




سعيد.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى