عبدالرحيم التدلاوي - الشعر والشعراء (في مشي أقل) لمحمد لغويبي

ومضة
بعيدا عن التقاليد الجاهزة بحث محمد لغويبي عن بصمة مغايرة ،وصفة روائية مختلفة قليلا، تؤسس رؤيتها الفنية الخاصة ،دون أب، لكنها تنتصر للجذور و السماوات و الشعر، للحكاية و الإنسان من الداخل ،للأوطان و الأفراد و الجماعات،قبل كل شيء.
"مشي أقل "رواية ...حكاية شاعر ،حكاية شعراء عاشوا الحكاية و تنفسوا هواء الشعر ،يحلمون بشارع طويل حر كقصيدة تنتصر على قيودها...
في "مشي أقل "نجد حلقة شعراء مجاورين للنص ،هي حلقة لا غير ،أدرك أن قوة السلسلة تقاس بأضعف حلقاتها ، أنا وأنت من هذه الحلقة ،نحن الأضعف ،نحن الأقوى في زمن اللاحب، يقول الكاتب المغربي محمد لغويبي...
▪︎ تقديم
لم يجانب الناقد و المفكر العربي الكبير جورج طرابيشي الصواب حين أعلن أن عصرنا هذا هو عصر الرواية و موسم الهجرة إليها، يقول: "واليوم اقتحم ساحة الرواية روائيون مجهزون بتقنيات جديدة و صادرون و صادرات عن رؤى جديدة إلى حد يمكن معه أن نقول إن الثقافة العربية نفسها دخلت منذ مطلع القرن الواحد و العشرين هذا في موسم هجرة جديد إلى الرواية "
و لعل هذا الرأي يؤكد أهمية الرواية و أنها قامت بتغيير وعي العالم المتمدن وفق "كولن ولسون "الذي يعالج في كتابه المهم "فن الرواية "قضايا هذا الفن و يطرح فلسفته المتفائلة بخصوص مستقبل الرواية إذ يعلن بثقة رأيه في الرواية بقوله:"فنحن نقول إن داروين و ماركس و فرويد قاموا بتغيير وجه الحضارة الغربية ،و لكن تأثير الرواية كان أعظم من تأثير هؤلاء الثلاثة مجتمعين "
▪︎1- في "مشي أقل "
اختار الكاتب محمد لغويبي الرواية القصيرة المتميزة بكثافتها و رشاقتها دون تفاصيل كثيرة ،لقدرتها على التعبير عن قضية محورية و أخرى فرعية لها ارتباط بالأولى، دون أن تنحرف عنها أو تجنح إلى قضايا بعيدة فتكتفي بالإشارة إلى بعضها. و قد حدد الدكتور خيري أبو المعاطي في كتابه "الرواية المصرية القصيرة في الربع الأخير من القرن العشرين" خصائص الرواية القصيرة (صص 52-55) بقوله:
"حجم متوسط،استهلال ذو طبيعة خاصة، لغة مكثفة، ازدواجية الدلالة ،نوعية خاصة من الأبطال، حدث مركزي واحد،وجهة نظر خاصة للواقع، وصف موجز،مكان و زمان لهما طبيعة خاصة ،ملمح السخرية،إثارة الأسئلة "
و قد ابتعد محمد لغويبي انطلاقا من ذلك عن الرواية البدينة و هي الصفة التي نجد حضورها في إحدى مقالات الدكتور و الناقد المغربي سعيد يقطين، فالرواية تخلت عن التفاصيل و الوصف الطويل المثقل لكاهل السرد و الحكاية، (تقع الرواية في 78ص من القطع المتوسط)
فعدد الشخصيات قليل في الرواية القصيرة لأن كثرتها تحتاج إلى توسع و إسهاب..أما هنا فنتحدث عن سرد قصير يعتمد التكثيف و الاختزال و الترميز و الإشارة و التلميح، و هذا ما ينسحب أيضا على الحوار و المكان بحيث يكون الفضاء الزمكاني ضيقا، لكن الشعر يكون اختيارا أسلوبيا لتكثيف المعنى و بناء الدلالة..
هكذا انتصرت "مشي أقل" كثيرا للشعر خاصة في البداية، النص الافتتاحي و ما يليه و لم يغب عن بقية الرواية و إن جاء أقل...و بهذا نكون أمام تجربة إبداعية تختلف عن ما تعودناه (الرواية الكلاسيكية والمعاصرة، حتى)، إنها شكل فني يوجد بين القصة و الرواية، و تلك قضية فنية و جمالية أخرى تلفت إليها الانتباه.
▪︎1- في النص الموازي
جاء العنوان جملة اسمية اعتمدت الإضمار و الإظهار، فالمضمر ضرورة و هو معروف يستدعي الكشف عنه أما الخبر فهو هذا العنصر الدال على البطء في كل شيء عكس السرعة التي تطبع الحياة المعاصرة ، ومن هنا فالعنوان ينعكس على مجمل أحداث الرواية التي تتميز بقلتها و بطء نموها ..إنه عنوان مشحون و مستفز ودال على اختيار و نقد و فكر و تأمل، بقصدية، يقوم على بلاغة خاصة ،يعلن المشي رياضة فكرية و أدبية متواضعة ، وهو مشي مقتصد و مختلف ،و هو قليل ينظر إليه بتعال لكنه فني و مفيد للصحة الجسدية والنفسية والفكرية والإبداعية.. وهذا التوظيف يمكن النظر إليه من زاوية أخرى على النقيض، كالقتل البطيء للحياة و الإبداع، مثلا.
أما صورة الغلاف فتظهر لونين ،أسود و ابيض كثنائية معبرة عن العنوان مظهرة المضمر الذي قد يكون الأسود غالبا أو الأبيض احتمالا. و وسط الصورة رجل بالكاد يتحرك ،إنه ينقل خطواته في درب يشبه نفقا ،بشكل بطيء. المثير في هذا الرجل أن ملامحه غائبة، يضع يديه في جيبيه و كأنه غير مبال بما حوله، يسير بتأن كما لو كان في لحظة ذهول أو انخطاف، بحثا عن شيء ما في ذهنه أو في الواقع ،و حركته إلى الأمام بناء على حركة قدميه ، فلولاهما لالتبس على المتلقي ،أ يسير إلى الأمام أم الخلف ! والبين أن ذلك السير إلى الأمام هو رغبة في معانقة الضوء في نهاية النفق ،إذ نجده محفوفا بالظلمة فلا وجود لظله، و سيره باتجاه منبع الضوء القادم من الأمام يبدو كما لو كان بحثا عن هذا الظل الغالب أي معانقة وجوده و بالتالي الخروج من استبداد الظلام إلى رحابة النور و الحرية و الخلاص.
▪︎3- في الحكاية
هنالك بعد رمزي للحكاية،انتحار شاعر من أبناء مدينة "أصيلة"المغربية ،له رمزية كما المدينة نفسها ،فهناك المحكي الواقعي و هناك التخييلي، و بالتالي فالنص شهادة على واقع اجتماعي و ثقافي و من هنا تأتي رؤيته للعالم ،نقرأ داخل الرواية حكيا عن خالد (البطل):"ذات لقاء شعري جمعه بإدريس باح له بهواجسه الدفينة و حلمه بتكريم روح الشاعر (كريم) على أحد شوارع المدينة "ص29 كما نجد أيضا "ما كانت المدينة العارية إلا من الإسمنت و الحجر لتسمح بكل هذا النفاق، و ما كان بحرها ليرضى بالفتات و قليل من الحب أو عدم اكتراث "ص55
"أصبح البحر أكثر قسوة ..و كأنه بلا ذاكرة ،من قال إن للبحر ذاكرة؟"ص61
"تسأله (سمية) بمودة :
-متى نرحل؟
يجيبها بأمل:
-عندما يصبح لنا شارع "ص68
و نقرأ أيضا:" و لم يأت الجواب بعد كل هذا الوقت، سكتت البلدية و أمعنت في السكوت "ص65
و في الأخير:"،خرج الثلاثة معا كان آخر خروج لهم من عنق الزجاجة ،تركوا الاحتفال وراءهم و البحر أمامهم ،لا يملكون غير الدهشة و الاندهاش "ص78
تنتهي الرواية بخيبة تحمل نذر السطو حتى على المعنوي و الرمزي، و عليه نجد أن العمل يبتدىء بخيبة (الهجرة ..) و ينتهي بخيبة (الشاعر..) و بينهما انتصار أقل، بفعل ذلك السطو الذي مورس على الاحتفال التابيني، و رفض البلدية اقتراح حمل شارع من شوارع المدينة اسم الشاعر (كريم) و نجاح خالد و سمية و إدريس و من معهم من حلقة الشعراء و المتعاطفين من أهل المدينة..في تنظيم أول دورة شعرية تحمل اسم كريم و تأسيس جمعية كريم الأصيلي للشعر و الحكي..لينتهي الاحتفال "و الغول حاضر في الافتتاح ،وجد له مكانا في الصفوف الأولى، يبتسم في مكر للوجوه، البلدية تحضر لتهنىء الشعر في يومه اليتيم "ص77
▪︎4- في البناء
ارتكزت الرواية في بنائها على ثلاث دوائر متداخلة ،الدائرة الأولى و هي الأكبر تتصل برغبة خالد ،الشخصية المحورية، في الهجرة إلى كندا لظروف قاهرة ،الدائرة الثانية ترتبط بعشق الشعر و محبة الشعراء، أما الثالثة فترتبط بقضية الشاعر كريم الذي انتحر احتجاجا على الواقع ،و الرغبة في تكريمه بإطلاق اسمه على أحد شوارع المدينة رغم كم العراقيل و الممنوعات في الطريق، و هذه الرغبة هي بؤرة النص ...
و إذا بدأت الرواية، بعد حديث عن الشعر و شجونه ،و بيع خالد محله و عزمه على الرحيل فإن رغبة تكريم الشاعر كريم الراحل إلى الأبد، ستشكل دينامية جديدة بالنسبة لخالد الذي يستعيد معنى وجوده فيكرس وقته و جهده لتحقيق هذا الحلم النبيل، و نجاحه فيه يكون بمثابة انتصار للحياة و البقاء على قيد الأمل.
تنطلق تلك الدوائر من الكبير فالمتوسط لتبلغ الصغير الذي يعد البؤرة، فالانطلاق كان من العام إلى الخاص ليعبر عن قيمة الشاعر و من خلاله الشعر ،و قبل ذلك الانتصار للإنسان الذي يحمل هم الثقافة و قيم الفكر و الجمال..و لعل اختيار "أصيلة"كمكان في الرواية كان تعبيرا عن الصغير الذي يسمو إلى الأعلى، فتلك المدينة الصغيرة الهادئة المستريحة على الشاطىء الأطلسي تبدو متواضعة لكنها تنمو بأهلها الطيبين و بقدرتها على الحياة بحب الآخر، نقرأ :"و هنا في هذا الزقاق الجميل،هذا الدرب الأزرق القريب من السور العظيم المطل على البحر ،عاش و شعر أن هذه الأصيلة الصغيرة أحر في قلبه من طنجة الكبيرة"ص12
"كان حي للارحمة مطلا على البحر قريبا من القلب لا يبالي بالعواصف و الرعود"ص31
و قد صنفت الشخصيات إلى فئتين:فئة الشعر و الشعراء، و فئة السلطة و المتسلطين و ما اختيار شخصية الغول إلا للتعبير عن الفئة الثانية...
هكذا نجد "مشي أقل"تعيد الواقع إلى واقعه و المكان إلى مكانه و الأحداث إلى مجراها ..من خلال سارد غير محايد ينهض الحكي على الدفاع عن حق الشاعر في الوجود و حق الشعر في الحياة ،و يتعرى الوجه الخفي للسلطة الذي جسدته البلدية و الغول المتربص. نقرأ:"هكذا أشرق في وجهه الغول كما كان ينعته كثيرون ممن عاصروه في تلك الأوقات الحالكة "ص42
هناك إذن ثنائية الاتصال و الانفصال من خلال مجموع العلاقات التي تربط "خالد" بباقي الشخصيات فنجد الأم و الزوجة و إدريس و كريم و باقي الشعراء(الغارة الشعرية)،و هناك الغول الذي يمثل زمن المسخ و مسؤولو البلدية و يرمز إلى ما أفرزه المجتمع من سلطة...
▪︎5في اللغة
الرواية القصيرة روحها الشعر و هذا ما نلحظه،هنا،،فالنص الافتتاحي و ما يليه على كثافة من الإشارة و الترميز، و على حساسية شعرية لافتة و باعثة على التأويل، نقرأ:"ابتسم على غير عادتك ،لا تبدأ صباحاتك عابسا، كن ملاكا ،لا تكن شيطانا، فأنت فوق الشبهات..يا عقلي ،يا ضميري المنتهك بعاصفة القبل الباردة ،يا لحدي المتربص خلف النافذة ،يا وردي المتفجر هكذا على موتي المرتقب.."ص6
و نقرأ أيضا:"كاقتصاد الروح يمشون مشيهم المتشظي "ص6
كما نصادف:"الشعر دهشتنا و من لا شعر له لا حكي له "ص15 "لا تحكي النوارس حكاياتها، هي فقط تبدع تلك الأغنيات "ص36
و أخيرا:"و أدرك أن شمسا لا تغيب هو سقف أعلى من حلمي و حلمك "ص52
إنها قوالب شعرية دأب محمد لغويبي على بنينتها و هو يبدع سرده الوجيز قاصا و روائيا قصيرا.
▪︎6في الوصف
للوصف دور كبير و متميز في الرواية الطويلة إلا أنه في الرواية القصيرة يأخذ منحى آخر هو الإيجاز أو البتر و الاقتصاد و هو ما نلمسه ،هنا ، و قد وظف بعناية و احتراس كم في المثال:"كان خالد يغالب دموعه و هو يرى إلى عيني كريم في صمت و كأنه مذهول، و كأنه يرى عقيدته تتزعزع أمام الأضواء و الموسيقى "ص77
"و كأن الفرح الهارب منذ وقت عاد يلوح من جديد في سماءيهما الرمادية "ص66
"معا يمضيان مع المستحيل ،يعاكسان الريح ،في الشارع الطويل يصنعان فرحتهما بشعرية القلق و الدهشة ،يشنان غارة على البحر المحصن بالمدافع الصدئة و سور الأمسيات"ص46
هكذا تبدع "مشي أقل " وصفها وفية لما ساقه "جرار جنيت":عندما نصف قد لا نحكي ،لكننا عندما نحكي فنحن قطعا نصف "
هو تصوير يتميز بضيق العبارة و اتساع الرؤيا !
▪︎7في التناص
يتحقق التناص من خلال تفاعل النص مع نصوص أخرى غائبة لأسباب كثيرة باتت معروفة ،و بما أن الرواية تحتفي بالشعر و الشعراء فإننا نجدها قد و ظفت العديد من النصوص الشعرية لشعراء مغاربة على و جه الخصوص ،نساء و رجالا و من مختلف الاجيال ،و منها الشعر الفصيح و الزجل، فضلا عن عن الإشارة إلى أسماء شعراء بعينهم اقتضاهم العمل الروائي و هكذا نجد من الشعراء:عبد الكريم الطبال و أحمد بركات و أحمد المسياح و جواد المومني و المعتمد الخراز و غيرهم من الأصوات الشعرية ..و لم يكن التناص الظاهر و المضمر إلا جزءا أصيلا من "مشي أقل "و الخلفيات الجمالية و القضوية التي اعتمدتها..
خاتمة
قدم محمد لغويبي "مشي أقل " بلباس قصير (لأنه قاص) جعلت من الشعر و الشعراء قضيتها و مادتها و معمارها...و ما هو بشاعر ،يقول السارد:
و صحت شاعرا
أنا
لست شاعرا
لكني أعلن هزيمة الورد
و سحق الربيع
و ذبح الإنسان
من الوريد إلى الوريد ص44


■ مشي أقل/رواية/ط1 / 2018/دار القرويين للنشر و التوزيع

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى