ثمة دلائل عديدة تؤكد أن ثقافتنا تسير برجل واحدة، هي الثقافة الأدبية. إن كلمة ثقافة - عند معظم المشتغلين بالعمل الثقافي - لا تستدعي سوى الشعر والقصة والمقالة، وأحياناً المسرح، فإذا كان المجال يتسع لأكثر من ذلك، دخلت الموسيقى والفنون التشكيلية.
وإذا ذكر لفظ (علم) في حديث عن الثقافة، كان التجاهل، وربما الاستنكار. لقد اقترحنا اسم الراحل الدكتور عبدالمحسن صالح للتكريم في مناسبة ثقافية، ضمن قائمة من رواد الثقافة في الإسكندرية، فرفض ا لمسؤولون تكريمه بحجة أنه (عالم)! وفي إحصائية بسيطة أعددناها عن إصدارات أكبر مؤسستين للنشر في مصر، هما الهيئة المصرية العامة للكتاب، ودار المعارف، لم يزد نصيب كتاب الثقافة العلمية في أي من المؤسستين، على مر تاريخ نشاطهما الطويل، على 20% في أفضل الأحوال.
وإذا كان ذلك هو حال ثقافة الكبار، فإن حال ثقافة الأطفال أشد سوءاً، وأدعى للأسف والحزن. لقد ذكر كاتب الأطفال الأستاذ عبدالتواب يوسف، في مؤتمر أدبي، أن نصيب الطفل الأوروبي من الكتب المخصصة له يزيد على ثمانية كتب في السنة، بينما لا يقدم كتابنا وناشرونا إلى أطفالنا في العالم العربي إلا (جملة واحدة)، أو سطراً واحداً في صفحة، على الأكثر، لكل طفل، في السنة!
نقول ذلك بالرغم من وجود ظواهر تشير إلى أن السنوات الأخيرة قد شهدت تطورا نسبيا في ميدان الكتابة للأطفال، حتى صار كل من هب ودب كاتب أطفال؛ ولم تهدأ تلك الهبّة بعدُ، كي يستطيع المراقبون والمهتمون أن يتمعنوا فيما تمخضت عنه من كم ونوع، وأن يخضعوه للتقويم. ولكن - بصفة عامة - يمكننا القول بأن ذلك النشاط الحديث لم يخرج عن مفهوم الثقافة العرجاء كثيراً؛ وبين عشرات ممن كتبوا للأطفال مؤخراً في مصر، لا تجد سوى كاتبين أو ثلاثة على الأكثر، يقدمون للطفل ثقافة علمية جيدة.
وبصفة عامة، أيضاً، فإن أعمال التوثيق في مجال أدب الطفل العربي لا تتيح لأي باحث أن يتناول هذا الموضوع بشكل متكامل؛ لأن ذلك يتطلب الاعتماد على بيانات كمية ونوعية عن أدب الطفل العربي، وصور الثقافة الأخرى، في وقت لم يعمل أي جهاز عربي - بعد - على جمعها؛ فضلاً عن أن هذا الميدان - كما سبق أن ألمحنا - قد أتخم بأسماء وأعمال يصعب في رأينا الحكم بأنها في مجملها يمكن أن تصنف في هذا المجال.
لذلك، فإن من يتعرض للحديث في هذا الموضوع يجد نفسه مضطراً إلى البحث في العموميات والإشارة إلى إنجازات غير عربية؛ وذلك أمر يبعث على الأسى والأسف.
اعرفوا الطفولة!
مرّ ما يقرب من مائتي سنة على هذه الصيحة التي أطلقها ( روسو)، وهي صيحة نحسبها لا تزال تحتفظ بطزاجتها، فثمة شبه إجماع بين علماء النفس والاجتماع على أن بعض النواحي لا تزال مجهولة في عالم الطفولة. أي أننا لم نعرف الطفولة، بعد. وبرغم صيحة روسو، فإن الدراسات الجدية لعالم الطفل لم تبدأ إلا منذ نصف قرن تقريباً. وقد تكون دراسة الأطفال معقدة، فهم يختلفون فيما بينهم وراثياً وبيئياً وثقافياً، ولكن ذلك لا يغفر للمختصين في هذا المجال تقاعسهم.
ثقافة الأطفال:
لن نختلف على أي مفهوم أو تعريف للثقافة أفضل، فليس هذا مجال لمثل هذا الاختلاف. اختر أي مفهوم، وستجد أن كل الاختلافات المحتملة تتلاشى حين نخرج من حيز التعريف، إلى محاولة التعرف على طبيعة ثقافة الأطفال. فالأطفال لا يشكلون جمهوراً متجانساً، بل يختلفون باختلاف أطوار نموهم. لذا، قسمت مراحل الطفولة إلى أطوار متعاقبة، لكل منها ثقافة خاصة تتوافق مع خصائص وحاجات الطفل. كما أن ثقافة الأطفال تختلف في مجتمع ما عنها في مجتمع آخر، تبعاً لإطار الثقافة العامة، وما يرتبط بذلك من وسائل الاتصال الثقافي بالأطفال. كما يسهل التعرف في ثقافة الأطفال على الملامح الكبيرة لثقافة المجتمع، فإذا كان المجتمع يولي أهمية كبيرة لقيمة معينة، فإنها تظهر - عادة - في ثقافة الطفل.
ويهمنا أن نتوقف قليلاً أمام ما سبقت الإشارة إليه عن أطوار نمو الطفل. فثمة مرحلتان خطيرتان في خط النمو للطفل ترتبطان بالخيال، الأولى، بين الثالثة والخامسة من عمره، وفيها يكون خيال الطفل حاداً، ولكنه محدود في إطار البيئة الضيقة التي يحيا فيها، فيتصور العصا حصاناً، ويتصور الدمية كائناً حياً. أما المرحلة الثانية فهي بين السادسة والثامنة، وقد تمتد إلى التاسعة من عمر الطفل، وفيها يتجاوز الخيال النطاق البيئي، ويكتسب طابعاً إبداعياً. إنه الخيال المنطلق مع شوق عارم إلى الصور الذهنية غير المعقدة.
كما يهمنا أن نشير إلى أن ثمة ثلاثة عناصر تظهر في ثقافة الأطفال:
أ- العموميات: وهي خصائص المجتمع الواحد، ومنها اللغة وأنماط اللعب وطرائق التعبير عن المشاعر.
ب- الخصوصيات: وهي عناصر لا يشترك فيها جميع الأطفال في المجتمع الواحد، بل يختص بها أطفال جماعات معينة في المجتمع: طبقية أو فئوية.
جـ- البديلات الثقافية: إنها العناصر التي يوفرها الاتصال المباشر أو غير المباشر بثقافات أخرى غير ثقافة المجتمع، وهي ذات أهمية كبيرة، لذا، فإن نقلها إلى الأطفال يقتضي الاحتراس والدقة.
ويستغل كثير من وسائل الاتصال في الدول المتقدمة خصوبة عالم الطفولة، واستعداد الأطفال لتقبل كثير مما يتميز بالإثارة والجاذبية، فيمطر الأطفال في البلدان النامية بفيض من العناصر الثقافية ، يراد ببعض منه زعزعة ثقافة الأطفال في بعض البلدان النامية.
أدب الأطفال
الأدب هو ركيزة ثقافية أساسية، وهو تشكيل أو تصوير تخيلي للحياة والفكر والوجدان، من خلال أبنية لغوية، وهو فرع من فروع المعرفة الإنسانية العامة، ويعنى بالتعبير والتصوير فنياً ووجدانياً عن العادات والآراء والقيم والآمال والمشاعر، وغيرها من عناصر الثقافة، أي أنه تجسيد فني تخيلي للثقافة.
ويشمل هذا المفهوم الأدب عموماً، بما في ذلك أدب الأطفال، لكن أدب الأطفال يتميز عن أدب الكبار في مراعاته لحاجات الطفل وقدراته، وخضوعه لفلسفة الكبار في تثقيف أطفالهم. وهذا يعني أن لأدب الأطفال، من الناحية الفنية، مقومات الأدب العامة نفسها، غير أن اختيار الموضوع وتكوين الشخصيات وخلق الأجواء، والاستخدامات اللغوية، في أدب الأطفال تخضع لضوابط خاصة، تناسب قدرات الطفل ومستوى نموه . وأدب الأطفال أداة في بناء ثقافة الطفل، فهو يسهم في نقل جزء من الثقافة العامة إلى الأطفال بصورة فنية.
إن التجسيد الفني عملية لازمة في التوجه الاتصالي عموماً - والأدب فرع من الثقافة، والثقافة نوع من الاتصال - سواء كان إلى الراشدين أو إلى الأطفال، غير أن لزومه للأطفال أشد، لأن حواس الأطفال شديدة الاستجابة لعناصر التجسيد. إنهم يريدون الأشياء تتحرك، فهم لا يطيلون التمعن في مشهد تلفازي يظهر فيه أسد واقف، فالمتوقع منهم أن تجدهم يهتفون بذلك الأسد الكسول، كأنه يسمعهم: اقفز.. تحرك.. ازأر!
وسنتحدث فيما يلي عن مجالين من مجالات التجسيد الفني لأدب الأطفال، هما الرسوم المتحركة، والتلفاز، أما السينما فسيأتي الحديث عنها فيما بعد، في معرض حديثنا عن الخيال العلمي.
الرسوم المتحركة
هي مزج بين الرسم والحركة. ولم تعد مجرد شكل للتسلية، بل تعدت ذلك إلى أهداف ثقافية أكبر. ويميز هذه الرســـوم المتحركة عن الأشكال السينمائية الأخرى( الفيلم الروائي - الفيلم التسجيلي - الفيلم التعليمي) أن التجسيد الفني في الأولى يعتمد على إدخال الحياة في الصور والرسوم الجامدة، وتشكيل عالم خيالي مثير. وقد رأينا، مؤخراً، أعمالاً سينمائية للكبار دخلت الرسوم المتحركة في صميم بنائها الفني.
وبفضل الطواعية الكبيرة في هذه الأفلام أمكن تناول مختلف الموضوعات فيها، كالمغامرات وأسرار الطبيعة والخيال العلمي والتاريخ وعالم الحيوان. وكلها موضوعات تفتح أمام الطفل آفاقاً واسعة.
برامج الأطفال التلفازية
يعتمد استقبال التلفاز على حاستي السمع والبصر، وذلك يؤدي إلى دعم وتثبيت المضامين المرسلة من خلاله، حيث إن القدر الأكبر من الثقافة يتلقاه الفرد عن طريق هاتين الحاستين. وييسر التلفاز للطفل، بسبب جمعه بين الكلمة المسموعة والصورة المرئية، استيعاب المضمون، إذ يبدو التلفاز وكأنه يحول المجردات إلى محسوسات. والملاحظ، من مجمل الدراسات التي تناولت تعرض الأطفال للتليفزيون، أن الأطفال في الدول المختلفة يقضون فترات أمام هذا الجهاز الساحر تزيد على المساحة المخصصة لهم في برامجهم الخاصة، وفي ذلك - بلا شك - خطورة عليهم. وفي دراسة قام بها فريق من الباحثين بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية في مصر، تبين أن الطفل المصري يمكث أمام شاشة التليفزيون 2000 ساعة في العام، أي 83 يوماً، أي خُمس سنة، أو خُمس عمره! ويلاحظ أيضاً أن كثيراً من أفلام الكبار أكثر جذباً للأطفال من البرامج والأفلام الموجهة إليهم، ويعود هذا، في الغالب، إلى جوانب نقص في برامج وأفلام الأطفال، كماً وكيفاً.
إن ذلك يصيب جانباً كبيراً من هؤلاء الأطفال بالقلق من المستقبل، فهم يتصورون أنهم سيقابلون، حتماً، المشكلات نفسها التي شاهدوها في أفلام الكبار.
الأطفال والخيال العلمي
إننا نرى في الخيال العلمي الوسيلة المثلى للربط بين فرعي الثقافة: الأدبي والعلمي، فهو كفيل بأن يجعل منهما شريكين متعاونين في التأثير على الواقع.
وقد اجتهدنا أن نجمع مواد خاصة بالأطفال، ولكن أغلب الإنتاج في مجال الخيال العلمي موجه - أساساً - للكبار. وعلى أي حال، فإن الأطفال - في الواقع - هم المستهلكون الحقيقيون لهذا الإنتاج، وثمة من يرى أن جميع أشكال الخيال العلمي هي في الحقيقة، أقرب إلى عالم الطفولة، حتى وهي تخاطب الراشدين، فهي تحيي فيهم طفولتهم. وثمة واقعة ذات دلالة، حدثت في مدينة ستكهولم، في مفتتح عام 1983م، عندما قامت أول مظاهرة من نوعها للأطفال، فقد تجمعوا أمام إحدى دور السينما احتجاجاً على قرار بمنع دخول الأطفال، الذين تقل أعمارهم عن 11 سنة، لمشاهدة فيلم من نوع الخيال العلمي، لأنه مليء بكثير من مشاهد العنف، وتدور أحداثه حول مخلوق عجيب في هيئة طفل.
قصص الخيال العلمي
نجد أنفسنا منحازين إلى تعريف لقصص الخيال العلمي جاء به الدكتور أميت جوسوامي أستاذ الفيزياء بجامعة أوريجون الأمريكية، وأحد الكتاب المرموقين في مجال الخيال العلمي، يقول: « قصص الخيال العلمي هو ذلك الضرب من الرواية الذي يعرض لتيارات التغير في العلم وفي المجتمع، فهو يهتم بنقض النماذج العلمية الثابتة، وتوسيع نظامها، وإعادة النظر فيها، واتخاذ نهج ثوري إزاءها. إن هدفه هو العمل على تحويل زاوية النظر إلى تلك النماذج، بحيث تغدو أكثر تجاوباً وتوافقاً مع الطبيعة ».
ولعل هذا التعريف ينطبق إلى حد كبير على إنتاج الكاتب النرويجي جوستين جاردر، الذي لا يتردد، وهو يكتب للأطفال، في أن يتعرض لما يتخيله البعض موضوعات ثقيلة عليهم، ما دامت لديه القدرة على جعلها في مستوى إدراك الطفل. وقد ألف عشرة كتب، بلغت جملة توزيعها 12 مليون نسخة، وتصدر كتابه (عالم الفتاة صوفي) قائمة أحسن المبيعات في العالم، في عام 1995م، وتمت ترجمته إلى 41 لغة، ويتحدث فيه عن تاريخ الفلسفة بشكل مبسط. أما كتابه (مرحباً.. هل من أحد هناك؟!) فيغامر بالدخول إلى عالم أسرار الحياة والتاريخ الطبيعي.
وقد قمنا بجولة في صفحات الإعلانات عن الكتب في المجالات المتخصصة، فأمكننا أن نحصي أكثر من 60 داراً للنشر، متخصصة في كتب الأطفال، في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها، تتسابق لإشباع شهية القراء الصغار المفتوحة للقراءة بصفة عامة، ولكتب الخيال العلمي بصفة خاصة. ويمكن ملاحظة أن تلك الدور تميل إلى نشر كتب التاريخ الطبيعي للديناصورات، والمسائل البيئية.
ونحن لا ندعو كتابنا إلى تقليد كتاب الغرب في أفكارهم التي يقدمونها لناشئتهم - وإن كان البعض يفعل، جهلاً أو تهاوناً - فثمة اختلافات بيننا وبينهم في طبيعة التكوين، وفي مفردات البيئة الطبيعية والاجتماعية. فمن غير المعقول، ولا المقبول، مثلاً، أن نطلب من كاتب عربي أن يقدم لأطفالنا قصة مصورة عن غابة الأشجار الاستوائية المطيرة، فهذا نظام بيئي غريب عن وعي أطفالنا العرب، ولا خبرة لهم به، فهم لا يعرفون إلا الصحراء أو النهر أو الحقل أو الساحل أو الجبل. يمكننا أن نحكي لهم حكايات مصورة جميلة تجري أحداثها البسيطة في مثل هذه الأنظمة البيئية التي يعرفونها، على امتداد بلادنا العربية.
وإليكم نموذج لكيفية معالجة موضوع علمي بيئي، حيث يقدم مؤلف كتاب عنوانه (الغابة المطيرة) قضية تدهور أحوال حزام الغابات الاستوائية للطفل الأمريكي؟. لقد أراد ذلك المؤلف أن يعطي درساً في شؤون البيئة، فذهب إلى تلك الغابة، حيث السلام والهدوء يسودان أنحاءها، وينعم بها كل الكائنات الحية التي تعيش فيها، وفجأة ينطلق صوت آلة قطع الأشجار، تدمر هذا التكوين الطبيعي الجميل النافع، لتحيل المكان إلى أرض خلاء، ليزرعها الإنسان، أو ليقيم فوقها بعض المنشآت. ويضطرب نمر الغابة ويقع في الحيرة. ماذا عليه أن يفعل أمام هذا الخطر الذي يخرب مكان معيشته؟ وفجأة، يأتيه صوت، يسميه ( روح الغابة)، يطلب منه أن يبتعد فوراً إلى التلال القريبة، فيفعل ويتبعه كثير من حيوانات الغابة المعرضين للخطر نفسه، ثم لا تلبث السماء أن ينهمر مطرها مدراراً، وهنا يقع المحظور. فقد كانت الأشجار العملاقة تضرب بجذورها في تربة الغابة فتثبتها، وقد جاء الإنسان بآلاته الجبارة فاقتلعها، وها هو النهر الذي يشق الغابة يمتلىء ويفيض بماء المطر الغزير، ويندفع فيضانه مكتسحاً الضفاف العارية من الأشجار، ليغرق كل شيء بما في ذلك الآلة المدمرة التي كف صوتها إلى الأبد، والسائق (الإنسان) الذي كان يعمل وفق هواه، غير مبال بحقائق الأمور حوله.
سينما الخيال العلمي
إن الخيال العلمي في الأفلام السينمائية أكثر تأثيراً في الأطفال، حيث تتهيأ لهذه الأفلام إمكانيات إخراج واسعة، وتتم الاستعانة بالمؤثرات المختبرية والخدع السينمائية إلى مدى واسع، بما في ذلك استخدام الكمبيوتر في إبداع الصورة.
وبصفة عامة، فقد نجحت السينما، منذ بداية هذا القرن، في إثبات قدرتها الفذة على بعث الحياة في رؤى أدب الخيال العلمي وأحلامه. وكان أول من صور رحلات الفضاء على شاشة السينما رائد صناعة الأفلام الفرنسي جورج ملييس، حين أخرج فيلماً عن رواية جون فيرن الشهيرة ( رحلة إلى القمر). وتجدر الإشارة هنا إلى أن دولة مثل الصين انتبهت - منذ وقت مبكر - إلى أهمية وخطورة السينما العلمية الموجهة إلى الأطفال، فأنشأت 13 ستوديو لإنتاج أفلام الخيال العلمي والأفلام العلمية والتعليمية المتخصصة، وأنتجت نحو 3000 فيلم خلال عشرين سنة، ونال حوالي 80 فيلماً منها جوائز عالمية، وذلك دليل على جودتها.
الخيال العلمي في قاعة الدرس
إن على المربين أن يدركوا أن في أدب الخيال العلمي فرصة ثمينة، لا لغرس حب العلم في قلوب تلاميذهم فحسب، بل لتشجيعهم، أيضاً، على ربط حركة الواقع بتطورات العلم من جانب، وتنبؤات الخيال العلمي من جانب آخر. ذلك أن الارتقاء إلى مستوى مهام القرن الحادي والعشرين وتحدياته يتطلب إسهام الفنون والعلوم على السواء.
ولعل أخطر الثغرات التي يعانيها كثير من نظم التعليم، تكمن في عدم إعطاء الخيال والإبداع حقهما من الاهتمام، مما يؤدي إلى إغفال تنشيط قدرات النشء الإبداعية في السن التي تتكون فيها شخصيتهم.
لقد رأى أحد أساتذة الفيزياء أن جفاف المادة العلمية لا يجعل تلاميذه يقبلون على الدرس، فأعد سلسلة من الدروس أسماها: (الفيزياء وأدب الخيال العلمي)، اعتمد فيها على استخلاص أسس ومبادىء الفيزياء القديمة والحديثة، من خلال مطالعة خمسين رواية من روايات الخيال العلمي، وتقديمها للتلاميذ، ونجح الخيال العلمي في إزالة جفاف المادة العلمية.
وثمة عامل آخر يجعل أدب الخيال العلمي أمراً حيوياً بالنسبة لقاعة الدرس، هو الأهمية المتزايدة التي يوليها مجتمع اليوم للدراسات المستقبلية . وأدب الخيال العلمي هو الذي فتح المجال لإجراء هذا النوع من الدراسات. ولعل الكثيرين لا يعرفون أن هـ. جـ. ويلز عميد أدب الخيال العلمي في العالم، هو الذي اقترح على الجامعات، في عام 1934م، أن تنشىء دروساً في علم البيئة البشرية. وقد صار علم البيئة علماً أساسياً في عالمنا اليوم.
وثمة مثال آخر نجح فيه قصص الخيال العلمي في إضفاء طابع البهجة على محاضرة عن ظاهرة التمدد النسبي للزمن، ذلك الاكتشاف الهائل الذي حققه إينشتاين. لقد وقف المدرس يشرح تلك النظرية المعقدة لتلاميذه، ولاحظ أنهم يهضمون المعادلات والنص بصعوبة، وفجأة، سألهم:
هل يستطيع تمدد الزمن أن يساعد الحب؟!
وأجاب هو: نعم، وسوف أستشهد أمامكم برسالة بعثت بها إحدى شخصيات رواية خيال علمي لكاتب، هو (جو هالدمان)، بعنوان (الحرب الأبدية)، يقول نص الخطاب الموجه من الحبيبة إلى حبيبها:
" … عزيزي وليام:
كل هذا في ملفك الشخصي. ولكني أعرف طباعك جيداً، ولن يدهشني أن تكون قد ألقيت به جانباً. لذا حرصت على أن تتلقى هذه الرسالة.
من الواضح أنني بقيت على قيد الحياة، وربما ستستطيع أنت أيضاً ذلك. فلتلحق بي. أنا أعرف من السجلات أنك في الكوكب Sad-138 ولن تعود قبل مرور قرنين من الزمن. لا بأس في ذلك، إذ إنني ذاهبة إلى كوكب يطلقون عليه اسم (الإصبع الوسطى)، وهو الكوكب الخامس انطلاقاً من ميزار. لقد اشترينا مركبة من قوات الطوارىء التابعة للأمم المتحدة، استنفدت كل نقودي وخمسة من الأصدقاء القدامى، ونحن نستعملها كآلة زمنية. إنني أعيش الآن على مركبة مكوكية نسبية، وأنا بانتظارك. وكل ما تفعله هذه المركبة هي أن تسافر مدة خمس سنوات ضوئية، ثم تعود بسرعة فائقة إلى الإصبع الوسطى. أما أنا فيرتفع عمري قرابة شهر واحد كل عشر سنوات. فإذا لم تتخلف عن موعدك وبقيت حياً، فسيكون عمري حين تصل إلى هنا 28 سنة، فلتسارع بالمجيء. إنني لم أعثر على أحد غيرك، ولا أود أن أعثر على أحد غيرك. ولا يهمني إن كان عمرك تسعين أو 30 عاماً، فإن أنا لم أستطع أن أكون حبيبتك، فسأكون ممرضتك التي تتولى رعايتك.
ماري جيى..»
من سوء حظ أينشتاين أنه مات قبل أن يرى كيف تتحول معادلاته الجافة إلى سيل متدفق من المشاعر الإنسانية الرقيقة. إنه الخيال العلمي!
وإذا ذكر لفظ (علم) في حديث عن الثقافة، كان التجاهل، وربما الاستنكار. لقد اقترحنا اسم الراحل الدكتور عبدالمحسن صالح للتكريم في مناسبة ثقافية، ضمن قائمة من رواد الثقافة في الإسكندرية، فرفض ا لمسؤولون تكريمه بحجة أنه (عالم)! وفي إحصائية بسيطة أعددناها عن إصدارات أكبر مؤسستين للنشر في مصر، هما الهيئة المصرية العامة للكتاب، ودار المعارف، لم يزد نصيب كتاب الثقافة العلمية في أي من المؤسستين، على مر تاريخ نشاطهما الطويل، على 20% في أفضل الأحوال.
وإذا كان ذلك هو حال ثقافة الكبار، فإن حال ثقافة الأطفال أشد سوءاً، وأدعى للأسف والحزن. لقد ذكر كاتب الأطفال الأستاذ عبدالتواب يوسف، في مؤتمر أدبي، أن نصيب الطفل الأوروبي من الكتب المخصصة له يزيد على ثمانية كتب في السنة، بينما لا يقدم كتابنا وناشرونا إلى أطفالنا في العالم العربي إلا (جملة واحدة)، أو سطراً واحداً في صفحة، على الأكثر، لكل طفل، في السنة!
نقول ذلك بالرغم من وجود ظواهر تشير إلى أن السنوات الأخيرة قد شهدت تطورا نسبيا في ميدان الكتابة للأطفال، حتى صار كل من هب ودب كاتب أطفال؛ ولم تهدأ تلك الهبّة بعدُ، كي يستطيع المراقبون والمهتمون أن يتمعنوا فيما تمخضت عنه من كم ونوع، وأن يخضعوه للتقويم. ولكن - بصفة عامة - يمكننا القول بأن ذلك النشاط الحديث لم يخرج عن مفهوم الثقافة العرجاء كثيراً؛ وبين عشرات ممن كتبوا للأطفال مؤخراً في مصر، لا تجد سوى كاتبين أو ثلاثة على الأكثر، يقدمون للطفل ثقافة علمية جيدة.
وبصفة عامة، أيضاً، فإن أعمال التوثيق في مجال أدب الطفل العربي لا تتيح لأي باحث أن يتناول هذا الموضوع بشكل متكامل؛ لأن ذلك يتطلب الاعتماد على بيانات كمية ونوعية عن أدب الطفل العربي، وصور الثقافة الأخرى، في وقت لم يعمل أي جهاز عربي - بعد - على جمعها؛ فضلاً عن أن هذا الميدان - كما سبق أن ألمحنا - قد أتخم بأسماء وأعمال يصعب في رأينا الحكم بأنها في مجملها يمكن أن تصنف في هذا المجال.
لذلك، فإن من يتعرض للحديث في هذا الموضوع يجد نفسه مضطراً إلى البحث في العموميات والإشارة إلى إنجازات غير عربية؛ وذلك أمر يبعث على الأسى والأسف.
اعرفوا الطفولة!
مرّ ما يقرب من مائتي سنة على هذه الصيحة التي أطلقها ( روسو)، وهي صيحة نحسبها لا تزال تحتفظ بطزاجتها، فثمة شبه إجماع بين علماء النفس والاجتماع على أن بعض النواحي لا تزال مجهولة في عالم الطفولة. أي أننا لم نعرف الطفولة، بعد. وبرغم صيحة روسو، فإن الدراسات الجدية لعالم الطفل لم تبدأ إلا منذ نصف قرن تقريباً. وقد تكون دراسة الأطفال معقدة، فهم يختلفون فيما بينهم وراثياً وبيئياً وثقافياً، ولكن ذلك لا يغفر للمختصين في هذا المجال تقاعسهم.
ثقافة الأطفال:
لن نختلف على أي مفهوم أو تعريف للثقافة أفضل، فليس هذا مجال لمثل هذا الاختلاف. اختر أي مفهوم، وستجد أن كل الاختلافات المحتملة تتلاشى حين نخرج من حيز التعريف، إلى محاولة التعرف على طبيعة ثقافة الأطفال. فالأطفال لا يشكلون جمهوراً متجانساً، بل يختلفون باختلاف أطوار نموهم. لذا، قسمت مراحل الطفولة إلى أطوار متعاقبة، لكل منها ثقافة خاصة تتوافق مع خصائص وحاجات الطفل. كما أن ثقافة الأطفال تختلف في مجتمع ما عنها في مجتمع آخر، تبعاً لإطار الثقافة العامة، وما يرتبط بذلك من وسائل الاتصال الثقافي بالأطفال. كما يسهل التعرف في ثقافة الأطفال على الملامح الكبيرة لثقافة المجتمع، فإذا كان المجتمع يولي أهمية كبيرة لقيمة معينة، فإنها تظهر - عادة - في ثقافة الطفل.
ويهمنا أن نتوقف قليلاً أمام ما سبقت الإشارة إليه عن أطوار نمو الطفل. فثمة مرحلتان خطيرتان في خط النمو للطفل ترتبطان بالخيال، الأولى، بين الثالثة والخامسة من عمره، وفيها يكون خيال الطفل حاداً، ولكنه محدود في إطار البيئة الضيقة التي يحيا فيها، فيتصور العصا حصاناً، ويتصور الدمية كائناً حياً. أما المرحلة الثانية فهي بين السادسة والثامنة، وقد تمتد إلى التاسعة من عمر الطفل، وفيها يتجاوز الخيال النطاق البيئي، ويكتسب طابعاً إبداعياً. إنه الخيال المنطلق مع شوق عارم إلى الصور الذهنية غير المعقدة.
كما يهمنا أن نشير إلى أن ثمة ثلاثة عناصر تظهر في ثقافة الأطفال:
أ- العموميات: وهي خصائص المجتمع الواحد، ومنها اللغة وأنماط اللعب وطرائق التعبير عن المشاعر.
ب- الخصوصيات: وهي عناصر لا يشترك فيها جميع الأطفال في المجتمع الواحد، بل يختص بها أطفال جماعات معينة في المجتمع: طبقية أو فئوية.
جـ- البديلات الثقافية: إنها العناصر التي يوفرها الاتصال المباشر أو غير المباشر بثقافات أخرى غير ثقافة المجتمع، وهي ذات أهمية كبيرة، لذا، فإن نقلها إلى الأطفال يقتضي الاحتراس والدقة.
ويستغل كثير من وسائل الاتصال في الدول المتقدمة خصوبة عالم الطفولة، واستعداد الأطفال لتقبل كثير مما يتميز بالإثارة والجاذبية، فيمطر الأطفال في البلدان النامية بفيض من العناصر الثقافية ، يراد ببعض منه زعزعة ثقافة الأطفال في بعض البلدان النامية.
أدب الأطفال
الأدب هو ركيزة ثقافية أساسية، وهو تشكيل أو تصوير تخيلي للحياة والفكر والوجدان، من خلال أبنية لغوية، وهو فرع من فروع المعرفة الإنسانية العامة، ويعنى بالتعبير والتصوير فنياً ووجدانياً عن العادات والآراء والقيم والآمال والمشاعر، وغيرها من عناصر الثقافة، أي أنه تجسيد فني تخيلي للثقافة.
ويشمل هذا المفهوم الأدب عموماً، بما في ذلك أدب الأطفال، لكن أدب الأطفال يتميز عن أدب الكبار في مراعاته لحاجات الطفل وقدراته، وخضوعه لفلسفة الكبار في تثقيف أطفالهم. وهذا يعني أن لأدب الأطفال، من الناحية الفنية، مقومات الأدب العامة نفسها، غير أن اختيار الموضوع وتكوين الشخصيات وخلق الأجواء، والاستخدامات اللغوية، في أدب الأطفال تخضع لضوابط خاصة، تناسب قدرات الطفل ومستوى نموه . وأدب الأطفال أداة في بناء ثقافة الطفل، فهو يسهم في نقل جزء من الثقافة العامة إلى الأطفال بصورة فنية.
إن التجسيد الفني عملية لازمة في التوجه الاتصالي عموماً - والأدب فرع من الثقافة، والثقافة نوع من الاتصال - سواء كان إلى الراشدين أو إلى الأطفال، غير أن لزومه للأطفال أشد، لأن حواس الأطفال شديدة الاستجابة لعناصر التجسيد. إنهم يريدون الأشياء تتحرك، فهم لا يطيلون التمعن في مشهد تلفازي يظهر فيه أسد واقف، فالمتوقع منهم أن تجدهم يهتفون بذلك الأسد الكسول، كأنه يسمعهم: اقفز.. تحرك.. ازأر!
وسنتحدث فيما يلي عن مجالين من مجالات التجسيد الفني لأدب الأطفال، هما الرسوم المتحركة، والتلفاز، أما السينما فسيأتي الحديث عنها فيما بعد، في معرض حديثنا عن الخيال العلمي.
الرسوم المتحركة
هي مزج بين الرسم والحركة. ولم تعد مجرد شكل للتسلية، بل تعدت ذلك إلى أهداف ثقافية أكبر. ويميز هذه الرســـوم المتحركة عن الأشكال السينمائية الأخرى( الفيلم الروائي - الفيلم التسجيلي - الفيلم التعليمي) أن التجسيد الفني في الأولى يعتمد على إدخال الحياة في الصور والرسوم الجامدة، وتشكيل عالم خيالي مثير. وقد رأينا، مؤخراً، أعمالاً سينمائية للكبار دخلت الرسوم المتحركة في صميم بنائها الفني.
وبفضل الطواعية الكبيرة في هذه الأفلام أمكن تناول مختلف الموضوعات فيها، كالمغامرات وأسرار الطبيعة والخيال العلمي والتاريخ وعالم الحيوان. وكلها موضوعات تفتح أمام الطفل آفاقاً واسعة.
برامج الأطفال التلفازية
يعتمد استقبال التلفاز على حاستي السمع والبصر، وذلك يؤدي إلى دعم وتثبيت المضامين المرسلة من خلاله، حيث إن القدر الأكبر من الثقافة يتلقاه الفرد عن طريق هاتين الحاستين. وييسر التلفاز للطفل، بسبب جمعه بين الكلمة المسموعة والصورة المرئية، استيعاب المضمون، إذ يبدو التلفاز وكأنه يحول المجردات إلى محسوسات. والملاحظ، من مجمل الدراسات التي تناولت تعرض الأطفال للتليفزيون، أن الأطفال في الدول المختلفة يقضون فترات أمام هذا الجهاز الساحر تزيد على المساحة المخصصة لهم في برامجهم الخاصة، وفي ذلك - بلا شك - خطورة عليهم. وفي دراسة قام بها فريق من الباحثين بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية في مصر، تبين أن الطفل المصري يمكث أمام شاشة التليفزيون 2000 ساعة في العام، أي 83 يوماً، أي خُمس سنة، أو خُمس عمره! ويلاحظ أيضاً أن كثيراً من أفلام الكبار أكثر جذباً للأطفال من البرامج والأفلام الموجهة إليهم، ويعود هذا، في الغالب، إلى جوانب نقص في برامج وأفلام الأطفال، كماً وكيفاً.
إن ذلك يصيب جانباً كبيراً من هؤلاء الأطفال بالقلق من المستقبل، فهم يتصورون أنهم سيقابلون، حتماً، المشكلات نفسها التي شاهدوها في أفلام الكبار.
الأطفال والخيال العلمي
إننا نرى في الخيال العلمي الوسيلة المثلى للربط بين فرعي الثقافة: الأدبي والعلمي، فهو كفيل بأن يجعل منهما شريكين متعاونين في التأثير على الواقع.
وقد اجتهدنا أن نجمع مواد خاصة بالأطفال، ولكن أغلب الإنتاج في مجال الخيال العلمي موجه - أساساً - للكبار. وعلى أي حال، فإن الأطفال - في الواقع - هم المستهلكون الحقيقيون لهذا الإنتاج، وثمة من يرى أن جميع أشكال الخيال العلمي هي في الحقيقة، أقرب إلى عالم الطفولة، حتى وهي تخاطب الراشدين، فهي تحيي فيهم طفولتهم. وثمة واقعة ذات دلالة، حدثت في مدينة ستكهولم، في مفتتح عام 1983م، عندما قامت أول مظاهرة من نوعها للأطفال، فقد تجمعوا أمام إحدى دور السينما احتجاجاً على قرار بمنع دخول الأطفال، الذين تقل أعمارهم عن 11 سنة، لمشاهدة فيلم من نوع الخيال العلمي، لأنه مليء بكثير من مشاهد العنف، وتدور أحداثه حول مخلوق عجيب في هيئة طفل.
قصص الخيال العلمي
نجد أنفسنا منحازين إلى تعريف لقصص الخيال العلمي جاء به الدكتور أميت جوسوامي أستاذ الفيزياء بجامعة أوريجون الأمريكية، وأحد الكتاب المرموقين في مجال الخيال العلمي، يقول: « قصص الخيال العلمي هو ذلك الضرب من الرواية الذي يعرض لتيارات التغير في العلم وفي المجتمع، فهو يهتم بنقض النماذج العلمية الثابتة، وتوسيع نظامها، وإعادة النظر فيها، واتخاذ نهج ثوري إزاءها. إن هدفه هو العمل على تحويل زاوية النظر إلى تلك النماذج، بحيث تغدو أكثر تجاوباً وتوافقاً مع الطبيعة ».
ولعل هذا التعريف ينطبق إلى حد كبير على إنتاج الكاتب النرويجي جوستين جاردر، الذي لا يتردد، وهو يكتب للأطفال، في أن يتعرض لما يتخيله البعض موضوعات ثقيلة عليهم، ما دامت لديه القدرة على جعلها في مستوى إدراك الطفل. وقد ألف عشرة كتب، بلغت جملة توزيعها 12 مليون نسخة، وتصدر كتابه (عالم الفتاة صوفي) قائمة أحسن المبيعات في العالم، في عام 1995م، وتمت ترجمته إلى 41 لغة، ويتحدث فيه عن تاريخ الفلسفة بشكل مبسط. أما كتابه (مرحباً.. هل من أحد هناك؟!) فيغامر بالدخول إلى عالم أسرار الحياة والتاريخ الطبيعي.
وقد قمنا بجولة في صفحات الإعلانات عن الكتب في المجالات المتخصصة، فأمكننا أن نحصي أكثر من 60 داراً للنشر، متخصصة في كتب الأطفال، في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها، تتسابق لإشباع شهية القراء الصغار المفتوحة للقراءة بصفة عامة، ولكتب الخيال العلمي بصفة خاصة. ويمكن ملاحظة أن تلك الدور تميل إلى نشر كتب التاريخ الطبيعي للديناصورات، والمسائل البيئية.
ونحن لا ندعو كتابنا إلى تقليد كتاب الغرب في أفكارهم التي يقدمونها لناشئتهم - وإن كان البعض يفعل، جهلاً أو تهاوناً - فثمة اختلافات بيننا وبينهم في طبيعة التكوين، وفي مفردات البيئة الطبيعية والاجتماعية. فمن غير المعقول، ولا المقبول، مثلاً، أن نطلب من كاتب عربي أن يقدم لأطفالنا قصة مصورة عن غابة الأشجار الاستوائية المطيرة، فهذا نظام بيئي غريب عن وعي أطفالنا العرب، ولا خبرة لهم به، فهم لا يعرفون إلا الصحراء أو النهر أو الحقل أو الساحل أو الجبل. يمكننا أن نحكي لهم حكايات مصورة جميلة تجري أحداثها البسيطة في مثل هذه الأنظمة البيئية التي يعرفونها، على امتداد بلادنا العربية.
وإليكم نموذج لكيفية معالجة موضوع علمي بيئي، حيث يقدم مؤلف كتاب عنوانه (الغابة المطيرة) قضية تدهور أحوال حزام الغابات الاستوائية للطفل الأمريكي؟. لقد أراد ذلك المؤلف أن يعطي درساً في شؤون البيئة، فذهب إلى تلك الغابة، حيث السلام والهدوء يسودان أنحاءها، وينعم بها كل الكائنات الحية التي تعيش فيها، وفجأة ينطلق صوت آلة قطع الأشجار، تدمر هذا التكوين الطبيعي الجميل النافع، لتحيل المكان إلى أرض خلاء، ليزرعها الإنسان، أو ليقيم فوقها بعض المنشآت. ويضطرب نمر الغابة ويقع في الحيرة. ماذا عليه أن يفعل أمام هذا الخطر الذي يخرب مكان معيشته؟ وفجأة، يأتيه صوت، يسميه ( روح الغابة)، يطلب منه أن يبتعد فوراً إلى التلال القريبة، فيفعل ويتبعه كثير من حيوانات الغابة المعرضين للخطر نفسه، ثم لا تلبث السماء أن ينهمر مطرها مدراراً، وهنا يقع المحظور. فقد كانت الأشجار العملاقة تضرب بجذورها في تربة الغابة فتثبتها، وقد جاء الإنسان بآلاته الجبارة فاقتلعها، وها هو النهر الذي يشق الغابة يمتلىء ويفيض بماء المطر الغزير، ويندفع فيضانه مكتسحاً الضفاف العارية من الأشجار، ليغرق كل شيء بما في ذلك الآلة المدمرة التي كف صوتها إلى الأبد، والسائق (الإنسان) الذي كان يعمل وفق هواه، غير مبال بحقائق الأمور حوله.
سينما الخيال العلمي
إن الخيال العلمي في الأفلام السينمائية أكثر تأثيراً في الأطفال، حيث تتهيأ لهذه الأفلام إمكانيات إخراج واسعة، وتتم الاستعانة بالمؤثرات المختبرية والخدع السينمائية إلى مدى واسع، بما في ذلك استخدام الكمبيوتر في إبداع الصورة.
وبصفة عامة، فقد نجحت السينما، منذ بداية هذا القرن، في إثبات قدرتها الفذة على بعث الحياة في رؤى أدب الخيال العلمي وأحلامه. وكان أول من صور رحلات الفضاء على شاشة السينما رائد صناعة الأفلام الفرنسي جورج ملييس، حين أخرج فيلماً عن رواية جون فيرن الشهيرة ( رحلة إلى القمر). وتجدر الإشارة هنا إلى أن دولة مثل الصين انتبهت - منذ وقت مبكر - إلى أهمية وخطورة السينما العلمية الموجهة إلى الأطفال، فأنشأت 13 ستوديو لإنتاج أفلام الخيال العلمي والأفلام العلمية والتعليمية المتخصصة، وأنتجت نحو 3000 فيلم خلال عشرين سنة، ونال حوالي 80 فيلماً منها جوائز عالمية، وذلك دليل على جودتها.
الخيال العلمي في قاعة الدرس
إن على المربين أن يدركوا أن في أدب الخيال العلمي فرصة ثمينة، لا لغرس حب العلم في قلوب تلاميذهم فحسب، بل لتشجيعهم، أيضاً، على ربط حركة الواقع بتطورات العلم من جانب، وتنبؤات الخيال العلمي من جانب آخر. ذلك أن الارتقاء إلى مستوى مهام القرن الحادي والعشرين وتحدياته يتطلب إسهام الفنون والعلوم على السواء.
ولعل أخطر الثغرات التي يعانيها كثير من نظم التعليم، تكمن في عدم إعطاء الخيال والإبداع حقهما من الاهتمام، مما يؤدي إلى إغفال تنشيط قدرات النشء الإبداعية في السن التي تتكون فيها شخصيتهم.
لقد رأى أحد أساتذة الفيزياء أن جفاف المادة العلمية لا يجعل تلاميذه يقبلون على الدرس، فأعد سلسلة من الدروس أسماها: (الفيزياء وأدب الخيال العلمي)، اعتمد فيها على استخلاص أسس ومبادىء الفيزياء القديمة والحديثة، من خلال مطالعة خمسين رواية من روايات الخيال العلمي، وتقديمها للتلاميذ، ونجح الخيال العلمي في إزالة جفاف المادة العلمية.
وثمة عامل آخر يجعل أدب الخيال العلمي أمراً حيوياً بالنسبة لقاعة الدرس، هو الأهمية المتزايدة التي يوليها مجتمع اليوم للدراسات المستقبلية . وأدب الخيال العلمي هو الذي فتح المجال لإجراء هذا النوع من الدراسات. ولعل الكثيرين لا يعرفون أن هـ. جـ. ويلز عميد أدب الخيال العلمي في العالم، هو الذي اقترح على الجامعات، في عام 1934م، أن تنشىء دروساً في علم البيئة البشرية. وقد صار علم البيئة علماً أساسياً في عالمنا اليوم.
وثمة مثال آخر نجح فيه قصص الخيال العلمي في إضفاء طابع البهجة على محاضرة عن ظاهرة التمدد النسبي للزمن، ذلك الاكتشاف الهائل الذي حققه إينشتاين. لقد وقف المدرس يشرح تلك النظرية المعقدة لتلاميذه، ولاحظ أنهم يهضمون المعادلات والنص بصعوبة، وفجأة، سألهم:
هل يستطيع تمدد الزمن أن يساعد الحب؟!
وأجاب هو: نعم، وسوف أستشهد أمامكم برسالة بعثت بها إحدى شخصيات رواية خيال علمي لكاتب، هو (جو هالدمان)، بعنوان (الحرب الأبدية)، يقول نص الخطاب الموجه من الحبيبة إلى حبيبها:
" … عزيزي وليام:
كل هذا في ملفك الشخصي. ولكني أعرف طباعك جيداً، ولن يدهشني أن تكون قد ألقيت به جانباً. لذا حرصت على أن تتلقى هذه الرسالة.
من الواضح أنني بقيت على قيد الحياة، وربما ستستطيع أنت أيضاً ذلك. فلتلحق بي. أنا أعرف من السجلات أنك في الكوكب Sad-138 ولن تعود قبل مرور قرنين من الزمن. لا بأس في ذلك، إذ إنني ذاهبة إلى كوكب يطلقون عليه اسم (الإصبع الوسطى)، وهو الكوكب الخامس انطلاقاً من ميزار. لقد اشترينا مركبة من قوات الطوارىء التابعة للأمم المتحدة، استنفدت كل نقودي وخمسة من الأصدقاء القدامى، ونحن نستعملها كآلة زمنية. إنني أعيش الآن على مركبة مكوكية نسبية، وأنا بانتظارك. وكل ما تفعله هذه المركبة هي أن تسافر مدة خمس سنوات ضوئية، ثم تعود بسرعة فائقة إلى الإصبع الوسطى. أما أنا فيرتفع عمري قرابة شهر واحد كل عشر سنوات. فإذا لم تتخلف عن موعدك وبقيت حياً، فسيكون عمري حين تصل إلى هنا 28 سنة، فلتسارع بالمجيء. إنني لم أعثر على أحد غيرك، ولا أود أن أعثر على أحد غيرك. ولا يهمني إن كان عمرك تسعين أو 30 عاماً، فإن أنا لم أستطع أن أكون حبيبتك، فسأكون ممرضتك التي تتولى رعايتك.
ماري جيى..»
من سوء حظ أينشتاين أنه مات قبل أن يرى كيف تتحول معادلاته الجافة إلى سيل متدفق من المشاعر الإنسانية الرقيقة. إنه الخيال العلمي!