ممّا لا ريب فيه أنّ الكاتب الراحل حنّا مينة (١٩٢٤-٢٠١٨م) اسم لامع في سماء الرواية العربية المعاصرة، لكنّه ، قبل ذلك وبعده، رمز بارز من رموز " الواقعية الاشتراكية" في الأدب الروائي العربي . يتّضح ذلك جليّاً في مجمل نتاجه الإبداعي ، بدءاً من روايته الأولى" المصابيح الزرق" الصادرة في مطلع الخمسينيات من القرن العشرين(١٩٥٤م) ومروراً برواياته الأخرى التي تتالت بعدها ، مثل " الشراع والعاصفة" و" الثلج يأتي من النافذة" و" الياطر" و" بقايا صور" و" المستنقع" وغيرها من الأعمال الأدبية المعنيّة أساساً بتصوير وتحليل معاناة وكفاح أبناء الطبقات الكادحة في ظل واقع اجتماعيّ مضطرب يفتقر إلى العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص.
ولعل روايته" الشمس في يوم غائم" الصادرة في سبعينيات القرن الماضي لا تختلف في منطلقاتها الأدبية والفكرية عن أعمال الكاتب الأخرى، لكنّني أزعم أنّ حنّا مينة الروائي- الفنان قد طغى في هذه الرواية على حنّا مينة- الكاتب الملتزِم . نحن هنا أمام طرح فنّي جمالي لرؤية الكاتب الفكرية والاجتماعية؛ يتجلّى ذلك أساساً في هذا الجهد الواضح الذي تبذله الرواية لتقديم عرض حواريّ للأفكار من خلال جسور التواصل التي تعمل على مدّها مع المتلقّي ، متوسلة إلى ذلك بالفنّ والأسطورة حيناً" أسطورة بيجماليون" ، وبالخطاب الدينيّ حيناً آخر" نشيد الأناشيد" ، وبالروح الساخرة التي تكتنف أجواء الرواية في معظم الأحيان.
-الرواية في سطور :
تدور أحداث الرواية في بلدة صغيرة من بلدات الساحل السوري خلال ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، حيث تتّخذ من الصراع الاجتماعي والوطني المستعِر آنذاك أرضيّة لها، أمّا بطل الرواية ، فهو فتى في الثامنةَ عشرةَ من عمره ، ينتمي إلى أسرة بورجوازيّة ثريّة على صلة وثيقة بسلطات الانتداب الفرنسي.
مؤرّقاً بشعور حادٍّ، قوامه القلق والغربة عن وسطه الاجتماعي، يشرع الفتى في البحث عن هويّته في وسط آخر، فيجد نفسه مدفوعاً بقوّة نحو سكان الأحياء الفقيرة من البلدة، حيث يلتقي بالخيّاط( مرشده الروحيّ) فيعلّمه " رقصة الخنجر"؛ هذه الرقصة التي لا ترى فيها أسرة الفتى إلّا مثالاً فجّاً على الابتذال والانحطاط الاجتماعيّ. إلا أنّ صلة الفتى بالخياط تتوطّد أكثر فأكثر، وبينما تظلّ نفس الفتى نهباً لهواجس الحيرة والقلق والشعور بالغربة، فإنّ رغباته الجسديّة تجد مبتغاها لدى المرأة" ذات الثوب الليلكيّ" ، تلك القابعة في أحد البيوت المتداعية التي يحتويها أحد الأحياء الأشد بؤساً في البلدة.
إنّ الصراع القائم بين المستغِلّين الممثلين بأبيه ، من جهة، وبين المستغَلّين الممثلين بالخياط، من جهة أخرى، لا يفتأ يحمل للفتى المزيد من الشعور بالحيرة والتمزّق؛ فعلى الرغم من أنّه يجد نفسه أقرب إلى الفقراء والمعدمين والمضطهدين
إلا أنّه لا يفلح في حسم أمره والالتزام بقضاياهم. إنّ المخرَج الوحيد الذي يلوح له في الأفق، وهو الضائع الممزّق الضعيف، إنّما هو الانتحار؛ إذ إنّه لن يستطيع الاقتصاص من أبيه المتورّط في جريمة اغتيال الخياط. غير أنّ هذا المشروع الانتحاريّ، بالمعنى الحرفيّ للعبارة، لن يُكتبَ له أنْ يرى النور،بل يمكن القول إنّه قد وُلِد ميتاً في صدر الفتى.
على أنّ الرواية تنتهي، مع ذلك، بحوار عاصف، طرفاه غير المتكافئين هما الفتى وأبوه، حوار يعكس بذور ثورة لمّا تنضجْ بعدُ . الأمر الذي يُضفي على الرواية الكثير من المصداقيّة التاريخية والموضوعيّة لدى تناولها للوقائع والأحداث .جاء في هذا الحوار:
"دققتُ الباب بعنف، بكلتا يدي، مع أنّ المفتاح كان معي. فتح لي والدي.
كان في ثياب النوم، وقد صُعِق لمرآي على الصورة التي دخلت فيها. لم يقلْ شيئاً . أدركَ أنني عرفتُ، وأنّ شيئاً في الدنيا، لن يجعلني أغفر له.
نظرتُ إليه بقسوة، بتحديقة لا تعرف الرحمة، وصحتُ في وجهه بحقد وجنون:
- قاتل!
وصاح بي، بنفس اللهجة والحدّة:
- اخرس!
وانطفأ الضوء..
وسادتْ بيننا الظلمة" .(١)
-الأسطورة، أو صوت المعرفة
المطلقة
جاء في الرواية:
" كان الخياط قد روى لي أنّه قبل آلاف الأعوام، في الزمن غير المسطور في كتاب، كان معبد، وكانت صورة في معبد، وفتى يهوى الصورة التي في المعبد. لقد رآها منقوشة على الجدار الصخري، فيما كان يقدّم نَذراً، ويحرق بخوراً، مبتهجاً بشفاء والدته المريضة. تأمّل الفتى الصورة وكأنه يعرفها. لم تكن غريبة عنه، ولكنّه لم يتذكرها، وحاول برجوعه إلى البيت أن ينساها، فلم يفلح، فعاد إلى المعبد ليلاً ومعه سراج، وراح يحدّق في الصورة، ويتأمّل صاحبتها التي التقاها يوماً، وأحبها يوماً، ولكنه لا يعرف أين ولا متى.
وسمع الفتى، وهو راكع أمام الصورة كبوذيّ مترهّب، نغماً انسيابياً خُيّل إليه أنّه يعرفه أيضاً، وأنّه عاشه، ورقص له، وكانت صاحبة الصورة في الحشد المتعبّد، ترى رقصته وتبتسم له، فنهض عن الأرض، وفتح ذراعيه، ودار على نفسه، وانطلق يرقص ويرقص، والنغم ينداح، وهو يواصل الرقص. ثمّ رفع رأسه فجأة فرأى الصورة تخرج من الصورة، رآها تبرز وتتشكّل وتتجسّد امرأة لا حدّ لفتنتها، لا شبه لشفافية وبياض بشرتها، وعلى ثغرها ابتسامة مضيئة، كماسة على قماش عندميّ.
بُهِتَ الفتى لحظةً، وألقى بنفسه عليها محاولاً لمسها، تقبيلها، البكاء على صدرها، فلم يقع إلا على حجر، والصورة المرسومة على حجر، وانقطع اللحن، ولم يبقَ إلا الفتى، والسراج الذي تؤرجح ذُبالتَه الريح، والسكينة الباردة لمعبد مهجور.
كان عسيراً عليه أن يصدّق أنّ ما رآه لم يكن إلا وهماً. كان واثقاً أنّ الصورة خرجتْ من الصورة، وأنّه رآها،وأنّها، لو رقص لها، ستخرج إليه ثانية. فتح ذراعيه، وأخذ يرقص ويرقص، وينحني على الصورة فيقبّلها، ويتوسّل إليها ويناجيها، ولكنّ الصورة ظلّت صورة، فأقام في المعبد، ورفض بإصرار مغادرته، ولم تُجدِ فيه دموع أمّه، ولا تضرّعاتها، ولا نصائح الجيران، أو رُقى العرّافين، أو صلوات رجال الدين ، وقيل إنّه جُنَّ، فقيّدوه بالسلاسل وصارت أمّه تحمل إليه طعامه، ولم يلبث أنْ مات وحلّتْ روحه في أبدان الراقصين من جيل إلى جيل، حتى يومنا هذا.
أنا أيضاً فتحت ذراعيّ ورقصتُ .أنا أيضاً حلّتْ فيّ روح الفتى..."(٢)
من الواضح أنّ ما قصّه الخيّاط على الفتى ما هو إلا رواية معدّلة عن " أسطورة بيجماليون" الإغريقية الشهيرة. على أنّ ثمّة أربعة فروق أساسية تميّز نصّ الأسطورة الأصلي عن النّص المعدّل، وهي:
١- إنّ( بيجماليون) بطل الأسطورة كان ملكاً متوجاً على ( قبرص) بينما لم يكن الفتى في النسخة المعدّلة سوى فرد من عامة الناس.
٢- لجأ( بيجماليون) للوصول إلى مبتغاه إلى( أفروديت) إلهة الحب والجمال، بينما لجأ الفتى إلى الرقص؛ أي إلى نشاط إنساني، لتحقيق مناه.
٣- كان( بيجماليون) قد وقع في غرام تمثال، في حين وقع الفتى في غرام صورة.
٤- النهاية السعيدة التي آلت إليها الأحداث في الأسطورة؛ إذ منحتْ أفروديت بيجماليون امرأة مشابهة للتمثال، فتزوجها وأنجب منها. بينما ينتهي الأمر بالفتى نهاية مأساويّة، تتمثّل بجنونه ، ثمّ موته.
إلا أنّه تجدر الإشارة هنا، بعيداً عن الفروق المذكورة، إلى أنّ الراوي في رواية" الشمس في يوم غائم" قد خرج من" أناه" الاجتماعية، التاريخية، ليدخل في ضمير الغائب( هو) اللاشخصي والمطلَق؛ إذ إنّ هذا الضمير أكثر أدبيةً، وأكثر غياباً ، كما يرى، بحقّ، العالِم والناقد الفرنسي( بارت-Barthes). أي أنّ الأمر يتعلّق هنا بالعبور من المعرفة النسبية إلى المعرفة المطلقة؛ ذلك أنّ الأسطورة- حسب الفيلسوف الألماني( هيجل-Hegel)- إنّما هي التعبير عن المطلَق.
إنّها تمثّل اختزالاً وتكثيفاً للخبرة الإنسانية، ومن خلالها يصبح من المتعذّر تعيين الحدّ الفاصل بين الواقع والخيال.
يبقى أن نشير إلى أنّ أسطورة( بيجماليون) تمثّل- في جملة ما تمثّل- القصة المتجدّدة لالتزام الفنّان بعمله الفنّي، بل وتماهيه معه وحلوله فيه. وإذا كان( بيجماليون)- البطل الأسطوري- قد تمكّن من الوصول إلى هدفه بمساعدة من قوى غيبيّة( أفروديت) فإنّه على بطلنا أنْ يحقّق مبتغاه معتمداً على جهده الإنساني، ومن خلال نشاط إنساني كالرقص والفنّ.
هنا، في هذه النقطة الحاسمة، يتجلّى لنا الفرق الجوهريّ بين( بيجماليون) الأسطورة، وبين هذه النسخة المعدّلة التي يعرضها علينا الروائي ( حنّا مينة) في روايته الهادفة" الشمس في يوم غائم".
*- د.زياد العوف، في الأدب الروائي-دراسات وقراءات نقديّة- دمشق، المكتبة القانونيّة، مؤسّسة النوري، ٢٠٢٢م، ط١، ص ص ٧٩-٨٤
-(١) حنّا مينة، الشمس في يوم غائم، دار الآداب، بيروت،١٩٨٤،ط٤، ص ص. ٢٩٣-٢٩٤
-(٢) الرواية،ص ص.٢٨-٢٩
دكتور زياد العوف
ولعل روايته" الشمس في يوم غائم" الصادرة في سبعينيات القرن الماضي لا تختلف في منطلقاتها الأدبية والفكرية عن أعمال الكاتب الأخرى، لكنّني أزعم أنّ حنّا مينة الروائي- الفنان قد طغى في هذه الرواية على حنّا مينة- الكاتب الملتزِم . نحن هنا أمام طرح فنّي جمالي لرؤية الكاتب الفكرية والاجتماعية؛ يتجلّى ذلك أساساً في هذا الجهد الواضح الذي تبذله الرواية لتقديم عرض حواريّ للأفكار من خلال جسور التواصل التي تعمل على مدّها مع المتلقّي ، متوسلة إلى ذلك بالفنّ والأسطورة حيناً" أسطورة بيجماليون" ، وبالخطاب الدينيّ حيناً آخر" نشيد الأناشيد" ، وبالروح الساخرة التي تكتنف أجواء الرواية في معظم الأحيان.
-الرواية في سطور :
تدور أحداث الرواية في بلدة صغيرة من بلدات الساحل السوري خلال ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، حيث تتّخذ من الصراع الاجتماعي والوطني المستعِر آنذاك أرضيّة لها، أمّا بطل الرواية ، فهو فتى في الثامنةَ عشرةَ من عمره ، ينتمي إلى أسرة بورجوازيّة ثريّة على صلة وثيقة بسلطات الانتداب الفرنسي.
مؤرّقاً بشعور حادٍّ، قوامه القلق والغربة عن وسطه الاجتماعي، يشرع الفتى في البحث عن هويّته في وسط آخر، فيجد نفسه مدفوعاً بقوّة نحو سكان الأحياء الفقيرة من البلدة، حيث يلتقي بالخيّاط( مرشده الروحيّ) فيعلّمه " رقصة الخنجر"؛ هذه الرقصة التي لا ترى فيها أسرة الفتى إلّا مثالاً فجّاً على الابتذال والانحطاط الاجتماعيّ. إلا أنّ صلة الفتى بالخياط تتوطّد أكثر فأكثر، وبينما تظلّ نفس الفتى نهباً لهواجس الحيرة والقلق والشعور بالغربة، فإنّ رغباته الجسديّة تجد مبتغاها لدى المرأة" ذات الثوب الليلكيّ" ، تلك القابعة في أحد البيوت المتداعية التي يحتويها أحد الأحياء الأشد بؤساً في البلدة.
إنّ الصراع القائم بين المستغِلّين الممثلين بأبيه ، من جهة، وبين المستغَلّين الممثلين بالخياط، من جهة أخرى، لا يفتأ يحمل للفتى المزيد من الشعور بالحيرة والتمزّق؛ فعلى الرغم من أنّه يجد نفسه أقرب إلى الفقراء والمعدمين والمضطهدين
إلا أنّه لا يفلح في حسم أمره والالتزام بقضاياهم. إنّ المخرَج الوحيد الذي يلوح له في الأفق، وهو الضائع الممزّق الضعيف، إنّما هو الانتحار؛ إذ إنّه لن يستطيع الاقتصاص من أبيه المتورّط في جريمة اغتيال الخياط. غير أنّ هذا المشروع الانتحاريّ، بالمعنى الحرفيّ للعبارة، لن يُكتبَ له أنْ يرى النور،بل يمكن القول إنّه قد وُلِد ميتاً في صدر الفتى.
على أنّ الرواية تنتهي، مع ذلك، بحوار عاصف، طرفاه غير المتكافئين هما الفتى وأبوه، حوار يعكس بذور ثورة لمّا تنضجْ بعدُ . الأمر الذي يُضفي على الرواية الكثير من المصداقيّة التاريخية والموضوعيّة لدى تناولها للوقائع والأحداث .جاء في هذا الحوار:
"دققتُ الباب بعنف، بكلتا يدي، مع أنّ المفتاح كان معي. فتح لي والدي.
كان في ثياب النوم، وقد صُعِق لمرآي على الصورة التي دخلت فيها. لم يقلْ شيئاً . أدركَ أنني عرفتُ، وأنّ شيئاً في الدنيا، لن يجعلني أغفر له.
نظرتُ إليه بقسوة، بتحديقة لا تعرف الرحمة، وصحتُ في وجهه بحقد وجنون:
- قاتل!
وصاح بي، بنفس اللهجة والحدّة:
- اخرس!
وانطفأ الضوء..
وسادتْ بيننا الظلمة" .(١)
-الأسطورة، أو صوت المعرفة
المطلقة
جاء في الرواية:
" كان الخياط قد روى لي أنّه قبل آلاف الأعوام، في الزمن غير المسطور في كتاب، كان معبد، وكانت صورة في معبد، وفتى يهوى الصورة التي في المعبد. لقد رآها منقوشة على الجدار الصخري، فيما كان يقدّم نَذراً، ويحرق بخوراً، مبتهجاً بشفاء والدته المريضة. تأمّل الفتى الصورة وكأنه يعرفها. لم تكن غريبة عنه، ولكنّه لم يتذكرها، وحاول برجوعه إلى البيت أن ينساها، فلم يفلح، فعاد إلى المعبد ليلاً ومعه سراج، وراح يحدّق في الصورة، ويتأمّل صاحبتها التي التقاها يوماً، وأحبها يوماً، ولكنه لا يعرف أين ولا متى.
وسمع الفتى، وهو راكع أمام الصورة كبوذيّ مترهّب، نغماً انسيابياً خُيّل إليه أنّه يعرفه أيضاً، وأنّه عاشه، ورقص له، وكانت صاحبة الصورة في الحشد المتعبّد، ترى رقصته وتبتسم له، فنهض عن الأرض، وفتح ذراعيه، ودار على نفسه، وانطلق يرقص ويرقص، والنغم ينداح، وهو يواصل الرقص. ثمّ رفع رأسه فجأة فرأى الصورة تخرج من الصورة، رآها تبرز وتتشكّل وتتجسّد امرأة لا حدّ لفتنتها، لا شبه لشفافية وبياض بشرتها، وعلى ثغرها ابتسامة مضيئة، كماسة على قماش عندميّ.
بُهِتَ الفتى لحظةً، وألقى بنفسه عليها محاولاً لمسها، تقبيلها، البكاء على صدرها، فلم يقع إلا على حجر، والصورة المرسومة على حجر، وانقطع اللحن، ولم يبقَ إلا الفتى، والسراج الذي تؤرجح ذُبالتَه الريح، والسكينة الباردة لمعبد مهجور.
كان عسيراً عليه أن يصدّق أنّ ما رآه لم يكن إلا وهماً. كان واثقاً أنّ الصورة خرجتْ من الصورة، وأنّه رآها،وأنّها، لو رقص لها، ستخرج إليه ثانية. فتح ذراعيه، وأخذ يرقص ويرقص، وينحني على الصورة فيقبّلها، ويتوسّل إليها ويناجيها، ولكنّ الصورة ظلّت صورة، فأقام في المعبد، ورفض بإصرار مغادرته، ولم تُجدِ فيه دموع أمّه، ولا تضرّعاتها، ولا نصائح الجيران، أو رُقى العرّافين، أو صلوات رجال الدين ، وقيل إنّه جُنَّ، فقيّدوه بالسلاسل وصارت أمّه تحمل إليه طعامه، ولم يلبث أنْ مات وحلّتْ روحه في أبدان الراقصين من جيل إلى جيل، حتى يومنا هذا.
أنا أيضاً فتحت ذراعيّ ورقصتُ .أنا أيضاً حلّتْ فيّ روح الفتى..."(٢)
من الواضح أنّ ما قصّه الخيّاط على الفتى ما هو إلا رواية معدّلة عن " أسطورة بيجماليون" الإغريقية الشهيرة. على أنّ ثمّة أربعة فروق أساسية تميّز نصّ الأسطورة الأصلي عن النّص المعدّل، وهي:
١- إنّ( بيجماليون) بطل الأسطورة كان ملكاً متوجاً على ( قبرص) بينما لم يكن الفتى في النسخة المعدّلة سوى فرد من عامة الناس.
٢- لجأ( بيجماليون) للوصول إلى مبتغاه إلى( أفروديت) إلهة الحب والجمال، بينما لجأ الفتى إلى الرقص؛ أي إلى نشاط إنساني، لتحقيق مناه.
٣- كان( بيجماليون) قد وقع في غرام تمثال، في حين وقع الفتى في غرام صورة.
٤- النهاية السعيدة التي آلت إليها الأحداث في الأسطورة؛ إذ منحتْ أفروديت بيجماليون امرأة مشابهة للتمثال، فتزوجها وأنجب منها. بينما ينتهي الأمر بالفتى نهاية مأساويّة، تتمثّل بجنونه ، ثمّ موته.
إلا أنّه تجدر الإشارة هنا، بعيداً عن الفروق المذكورة، إلى أنّ الراوي في رواية" الشمس في يوم غائم" قد خرج من" أناه" الاجتماعية، التاريخية، ليدخل في ضمير الغائب( هو) اللاشخصي والمطلَق؛ إذ إنّ هذا الضمير أكثر أدبيةً، وأكثر غياباً ، كما يرى، بحقّ، العالِم والناقد الفرنسي( بارت-Barthes). أي أنّ الأمر يتعلّق هنا بالعبور من المعرفة النسبية إلى المعرفة المطلقة؛ ذلك أنّ الأسطورة- حسب الفيلسوف الألماني( هيجل-Hegel)- إنّما هي التعبير عن المطلَق.
إنّها تمثّل اختزالاً وتكثيفاً للخبرة الإنسانية، ومن خلالها يصبح من المتعذّر تعيين الحدّ الفاصل بين الواقع والخيال.
يبقى أن نشير إلى أنّ أسطورة( بيجماليون) تمثّل- في جملة ما تمثّل- القصة المتجدّدة لالتزام الفنّان بعمله الفنّي، بل وتماهيه معه وحلوله فيه. وإذا كان( بيجماليون)- البطل الأسطوري- قد تمكّن من الوصول إلى هدفه بمساعدة من قوى غيبيّة( أفروديت) فإنّه على بطلنا أنْ يحقّق مبتغاه معتمداً على جهده الإنساني، ومن خلال نشاط إنساني كالرقص والفنّ.
هنا، في هذه النقطة الحاسمة، يتجلّى لنا الفرق الجوهريّ بين( بيجماليون) الأسطورة، وبين هذه النسخة المعدّلة التي يعرضها علينا الروائي ( حنّا مينة) في روايته الهادفة" الشمس في يوم غائم".
*- د.زياد العوف، في الأدب الروائي-دراسات وقراءات نقديّة- دمشق، المكتبة القانونيّة، مؤسّسة النوري، ٢٠٢٢م، ط١، ص ص ٧٩-٨٤
-(١) حنّا مينة، الشمس في يوم غائم، دار الآداب، بيروت،١٩٨٤،ط٤، ص ص. ٢٩٣-٢٩٤
-(٢) الرواية،ص ص.٢٨-٢٩
دكتور زياد العوف