على غرار الناقد البلغاري تزفيتان تودوروف في كتابه "الأدب في خطر"، والناقد الفرنسي رولان بارت في قوله بموت المؤلف وغيرهما من الذين أعلنوا أن الموت يخطف كل شيء: الفلسفة، والنقد، والمؤلف، والإنسان - أقول من وحي أفكارهم: إن الكتاب الورقي على وشك الانقراض والزوال بفضل التطورات العلمية الحديثة المتسارعة في العالم. لقد جنت التكنولوجيا الرقمية على الكتاب الورقي، وحل محله الكتاب الإلكتروني، وما ينشر على الشبكة الإلكترونية، وعلى منصات التواصل الاجتماعي: الفيسبوك والتويتر والإنستغرام[ma1] وغيرها.
لا شك في أن الناشرين للكتاب الورقي يقفون في صفي ويتقبلون هذا القول؛ فهم من خلال ممارساتهم في طباعة الكتاب وتسويقه يؤكدون هذه الحقيقة. فماذا تعني طباعة بعضهم عدة نسخ فقط من الكتاب الذي يقدم لهم للنشر، ولا يطبعونه ورقيًا بعد ذلك إلا تحت الطلب؟ هكذا نرى في العقود التي يبرمها بعض الناشرين مع الكتّاب، فهي تنص على إعطاء الكاتب نسخًا من الكتاب مقابل ثمنها، والترخيص لهم بوضعه على الشبكة الإلكترونية، والحصول على نسبة لا تقل عن خمسين في المئة إذا حدثت المعجزة بأن نال الكتاب جائزة نقدية. وحجة هؤلاء بأن الإقبال على الكتاب الورقي بل على قراءة الكتب سواء الورقية أم الإلكترونية ضعيف. ففي رأيهم أن الناس لا تقرأ إلا ما ينشر على الإنترنت، وأن العصر عصر تفاهة وسيولة. أما ما يحصل عليه المؤلف فليس غير الظلم مع المنة بنشر كتابه.
من الظواهر الأخرى التي تدل على أن الكتاب الورقي في خطر ما نعاينه في المجتمع من ممارسات وسلوكات خاطئة، تتمثل في رمي الكتب في حاويات القمامة، ويحدث أن يلتقط بعضها الباحثون عن الخردة أو الأثاث القديم، فيعرضونها للبيع في الأسواق الشعبية أو على أرصفة الشوارع، وبعضها كتب قيمة خاصة من الكتب الأدبية واللغوية.
خطفت انتباهي هذه الظاهرة فوظفتها في روايتي "فهمان في عمان" وقد ظهرت فيها الحاوية أهم مصدر للفقراء والمشردين للحصول على المال من بيع الكتب المرمية فيها. إن رؤية الكتب في حاويات الزبالة تثير فينا عذاب الضمير، لأنها تذكرنا بأعمال مشابهة قمنا بها ونحن صغار، فأذكر ونحن تلاميذ في المرحلة الابتدائية كنا نبيع كتبنا المدرسية في نهاية العام إلى أصحاب الدكاكين وبائعي الهريسة والبليلة؛ كي يستخدموا ورقها في تغليف ما يبيعونه.
ومن السلوكات العجيبة يحضرني ما ذكره أستاذ جامعي في كلية هندسة عن اكتشافه وسيلة مهمة للتخلص من الحشرات. فقد نجح في قتل الهسهس باستخدام الكتاب، وشرح طريقته بأن يضرب بالكتاب تلك الحشرة المسكينة في لحظة وجودها على الجدار، فهي أي الهسهسة لا يكون أمامها مهرب، فتقع تحت براثن الكتاب، وتموت وهي ملتصقة بورقة من أوراقه أو بالجدار.
وعلل الدكتور عدم قدرة الحشرة على النجاة من مصيرها المحتوم بأن الحشرات خاصة الهسهس تحب هذه النهاية؛ فهي تنجذب إلى رائحة الورق، وتموت من شدة هذا الانجذاب على مذهب من قال:" من الحب ما قتل". كان يتكلم بجد وأنا أبتسم برثاء، ولكنه والحق يقال شكا من أن الكتب المجلدة تجليدًا سميكًا لا تنجح في قتل الهسهس بل تنجح في قتل الحشرات الكبيرة، لأنها ليست مرنة في الاستخدام.
هذا ما وصلت إليه حال الكتاب الورقي الذي كان خير جليس لأجدادنا في الأيام الخوالي، فقد انتهى إلى حاويات القمامة، واستخدم أداة لقتل الحشرات. إن هذه المأساة التي يغرق فيها الكتاب الورقي تمتد إلى أن تكون مأساة الكاتب الذي ابتلي بمهنة الكتابة، والخوف كل الخوف أن تمتد إلى الإنسان عامة، فيغرق في الضياع، وهو يستسلم لطغيان الآلة، ويسلم روحه وكتبه إلى تكنولوجيا الحواسيب دون أن يتدبر عواقب استخدامها، ويسيطر على تطورها المتسارع، وتحكمها في حياته.
[HR][/HR]
[ma1]
لا شك في أن الناشرين للكتاب الورقي يقفون في صفي ويتقبلون هذا القول؛ فهم من خلال ممارساتهم في طباعة الكتاب وتسويقه يؤكدون هذه الحقيقة. فماذا تعني طباعة بعضهم عدة نسخ فقط من الكتاب الذي يقدم لهم للنشر، ولا يطبعونه ورقيًا بعد ذلك إلا تحت الطلب؟ هكذا نرى في العقود التي يبرمها بعض الناشرين مع الكتّاب، فهي تنص على إعطاء الكاتب نسخًا من الكتاب مقابل ثمنها، والترخيص لهم بوضعه على الشبكة الإلكترونية، والحصول على نسبة لا تقل عن خمسين في المئة إذا حدثت المعجزة بأن نال الكتاب جائزة نقدية. وحجة هؤلاء بأن الإقبال على الكتاب الورقي بل على قراءة الكتب سواء الورقية أم الإلكترونية ضعيف. ففي رأيهم أن الناس لا تقرأ إلا ما ينشر على الإنترنت، وأن العصر عصر تفاهة وسيولة. أما ما يحصل عليه المؤلف فليس غير الظلم مع المنة بنشر كتابه.
من الظواهر الأخرى التي تدل على أن الكتاب الورقي في خطر ما نعاينه في المجتمع من ممارسات وسلوكات خاطئة، تتمثل في رمي الكتب في حاويات القمامة، ويحدث أن يلتقط بعضها الباحثون عن الخردة أو الأثاث القديم، فيعرضونها للبيع في الأسواق الشعبية أو على أرصفة الشوارع، وبعضها كتب قيمة خاصة من الكتب الأدبية واللغوية.
خطفت انتباهي هذه الظاهرة فوظفتها في روايتي "فهمان في عمان" وقد ظهرت فيها الحاوية أهم مصدر للفقراء والمشردين للحصول على المال من بيع الكتب المرمية فيها. إن رؤية الكتب في حاويات الزبالة تثير فينا عذاب الضمير، لأنها تذكرنا بأعمال مشابهة قمنا بها ونحن صغار، فأذكر ونحن تلاميذ في المرحلة الابتدائية كنا نبيع كتبنا المدرسية في نهاية العام إلى أصحاب الدكاكين وبائعي الهريسة والبليلة؛ كي يستخدموا ورقها في تغليف ما يبيعونه.
ومن السلوكات العجيبة يحضرني ما ذكره أستاذ جامعي في كلية هندسة عن اكتشافه وسيلة مهمة للتخلص من الحشرات. فقد نجح في قتل الهسهس باستخدام الكتاب، وشرح طريقته بأن يضرب بالكتاب تلك الحشرة المسكينة في لحظة وجودها على الجدار، فهي أي الهسهسة لا يكون أمامها مهرب، فتقع تحت براثن الكتاب، وتموت وهي ملتصقة بورقة من أوراقه أو بالجدار.
وعلل الدكتور عدم قدرة الحشرة على النجاة من مصيرها المحتوم بأن الحشرات خاصة الهسهس تحب هذه النهاية؛ فهي تنجذب إلى رائحة الورق، وتموت من شدة هذا الانجذاب على مذهب من قال:" من الحب ما قتل". كان يتكلم بجد وأنا أبتسم برثاء، ولكنه والحق يقال شكا من أن الكتب المجلدة تجليدًا سميكًا لا تنجح في قتل الهسهس بل تنجح في قتل الحشرات الكبيرة، لأنها ليست مرنة في الاستخدام.
هذا ما وصلت إليه حال الكتاب الورقي الذي كان خير جليس لأجدادنا في الأيام الخوالي، فقد انتهى إلى حاويات القمامة، واستخدم أداة لقتل الحشرات. إن هذه المأساة التي يغرق فيها الكتاب الورقي تمتد إلى أن تكون مأساة الكاتب الذي ابتلي بمهنة الكتابة، والخوف كل الخوف أن تمتد إلى الإنسان عامة، فيغرق في الضياع، وهو يستسلم لطغيان الآلة، ويسلم روحه وكتبه إلى تكنولوجيا الحواسيب دون أن يتدبر عواقب استخدامها، ويسيطر على تطورها المتسارع، وتحكمها في حياته.
[HR][/HR]
[ma1]