عجبًا.. كيف يحترم نفسه وضميره وقلمه من يبني وجوده الثقافي والمعرفي والأدبي على المعارف والوساطة والمحسوبيات.
بل إذا أراد أن ينال رتبة ثقافية أو عضوية في محفل إبداعي لجأ إلى الواسطة واعتمد على المعارف، قبل أن يعتمد على إبداعه وقلمه.
هل تتخيل أنني كنت يوما أهم أن أفعل ذلك، وأكون بهذه الصورة التي أنتقدها اليوم، ولكني صددت نفسي عن ذلك التيه الذي ما أيقظني منه إلا احترامي لنفسي وشخصي وقلمي؟! واعلم جليا أن هذه المنصات ذاتها لا تحفل أو تُقبل إلا على من تراه يتزلف إليها ويوافق هواها أو ترى فيه نفعا لها ومدا لجهودها، المهم أن يكون ممن لا يقولون لا، وإذا كان فهو عدو لدود وخصم مرصود.
وهذا لعمري من فساد البيئة الثقافية وعفنها الذي أوشك أن يزكم الأنوف بنتنه القبيح.
كثير من المبدعين مساكين لا يجدون من يدعمهم أويشد من أزرهم، ليثبتوا وجودهم، وتطفوا على السطح مكانتهم اللائقة بهم، كل هذا لأنهم لا يجدون واسطة، ومن جهة أخرى يواكبون عقولا جاهلة تنسب نفسها جبرًا إلى ساحة الإبداع والمبدعين، وهم في نظري بلا ريب أجهل من الدواب في حظائرها.
وليبق آخر أمل للكاتب وهو اعتزازه بقلمه وموهبته وإيمانه بإبداعه، فهو وحده صمام الأمان لوجوده وحياته في ظل هذا الفساد المستعر، أمام حفنة من الجهلة الذين سيطروا على المشهد الثقافي، أو خُيل لهم أنهم يسيطرون.
كثيرون من أصحاب الصحف يُعرضون علي نشر مقالاتي في منصاتهم، ولهم مني كل تجلة وإكبار على هذا التقدير، ولكني في الحقيقة لا ألبث إلا وأفقد الحماس لهذا الطلب و هذه الرغبة، لأنني أجد صحيفتي الخاصة بي تغنيني عن ذلك، ففيها جمهوري الذي أراه، أفيده وأستفيد منه، وأبصر عليها تلك المحاورات التي تهب لقمي الحياة، وتدفعه لمواصلة المسير، وكثرة الإنتاج.
ومن ثم فلا حزن إذن على شيء تراه فاتك.
هلم إذن واثبت ذاتك وأعلن عن مكانتك، ولا تنتظر أن يرفع من شأنك غير قلمك.
قلمك وحده الذي يصارع كل غوائل الإحباط والتيئيس.
قلمك وحده هو الذي يظهر تفوقك، ويعلن عن حقيقتك.
واصل جهادك وكفاحك ولا يغرينك ما ترى من ضباب، فعما قليل يزول وتنجلي خلفه كل السحب القاتمة التي تحجب اسمك وتكبل مكانتك.
استمر وتأكد أن هناك من سيدعمك وأولهم موهبتك.
تعال معي لأحكي لك سيرة شاعر عظيم من شعراء الماضي، كان شعره يشبه شعر العقاد العملاق.
ولكنه للأسف لم يجد من يدعمه لتكون له شهرة العقاد، فلم يجد حوله إلا جهل مطبق، وعقول تؤمن أحيانا بالمركزية والوساطة، وتبهرها الأسماء اللامعة التي لا تستحق، فتقدمها على غيرها من الناس.
منذ عقود طويلة كان هناك عالم كبير وناقد أدبي وشاعر ترن لشعره الأصقاع، كان يعمل مدرسا للمراحل الثانوية، فنقل إلى التدريس في أبو تيج بالصعيد المصري، كان الجو موحشا وفقيرا من أهل الثقافة وهي البيئة التي لا يستطيع أديبنا الكبير أن يعيش فيها.. وبدأ يبحث عمن يتوسم فيهم المعرفة والثقافة، من أصحاب الجرائد المحلية الإقليمية، وهو غير مقتنع بجدارتها، لكنه الفراغ الذي أوشك أن يأكله هو ما دفعه إلى ذلك، وبينما وهو جالس مع صاحب إحدى هذه الجرائد، وقعت في يده ثلاث ورقات لمح من سطورها قصيدة شعرية، أنها لشاعر مبتدئ يعالج النظم، واضطر أديبنا الكبير إلى قراءة هذا الشعر، فإذا به يصاب إلى حد من الذهول يجزم معه أن ما قرأه نمط رائع من البيان والتعبير لو نسب إلى شاعر عظيم كالعقاد لما شك مثقف في نسبته إليه.!
كانت القصيدة لشعر اسمه (محمد عثمان الصمدي) وقد أثرت بأبياتها في نفس ناقدنا الكبير، ثم سأل صاحب الجريدة عن صاحبها ، فقال له: إنها لخبطة رجل مهووس يغمره بالشعر ولا ينشره، إلا حين لا يجد شيئا ينشر.
تخيل هنا كيف يكون الحكم من جاهل على رجل يشابه العقاد في نظمه.
وحينما صارحه الأديب الكبير بأن هذه القصيدة من أجمل ما قيل في موضوعها، تضاحك صاحب الجريدة الجاهل وقال في استهتار: إن الناظم ترزي عربي، لم يتعلم في مدرسة، وهو يبعث بشعره للصحف الكبيرة فترفضه، ولو كان جيدا كما تقول لنشرته له.
صمم ناقدنا الكبير أن يلتقي بهذا الشاعر في بلده البعيدة، وفعلا ركب المطايا وعبر نهر النيل حتى وصل إليه، في قريته ساحل سليم ، كان رجل أشعث الرأس مغبر الثوب، تشعر كما وصفه الناقد وكأنه صوفي من أبناء الطريق قد اعتصم بالتقشف والزهد، ورأى في المركب الخشن والعيش الجاف متاعة لذيذة، وكان دكانه لا يضم غير ماكينة خياطة وصوانا خشبيا تتناثر فوقه أوراق الكتب وأقمشة الزبائن.
وأخذ أديبنا يتكلم معه، فراعه ما رأى فيه من ثقافة مدهشة وألمعية يحار أمامها المتخصصون، وآلمه ما رأى من ملابساته الاجتماعية وظروفه المعيشية التي توجع وتسيء.
يقول ناقدنا: لقد عاش مع أوشاب من الجهلة ينكرون حقه عليه في قراءة الصحف ومراسلاتها، ومن حصل منهم بعض المعرفة لسعته عقارب الحقد فأرجف به وادعى أنه ناقل ينسب لنفسه ما يقوله للناس.
لقد قابل الراجل الذي أحاطه الجهل بتحدياته كفرا بنبوغه، وساء أديبنا أن يكون هذا حاله، فوعده أن يكون في عضده وناصرا له وسارع واتصل بصاحب الرسالة الأستاذ أحمد حسن الزيات، لينشر له في أكبر مجلة أدبية مصرية، وسارع كذلك أديبنا من جهة أخرى ليكتب دراسة عن شعره لتنشر عام 1952 أشاد فيه بقدراته الشعرية وملكاته البيانية.
كانت الدراسة قوية، قد ردت الاعتبار لهذا الشاعر الموهوب، لكن الأيام سرعان ما قذت أديبنا الكبير بوفاة هذا الشاعر الذي أخذ العهد على نفسه أن يبرزه ويقف بجواره، ولكنه كما يقول: استراح من حقد التافهين، ولغو الجاهلين، وأصبح في منعة من قبره أن يصل إليه إنسان بشقاء.
أرأيت كيف يفعل الجهل بالموهوبين، وكيف لم شفع لهم موهبتهم أن تنال حقها؟
كفر الجميع بإبداع شاعر يماثل العقاد، لأنه لم يجد من يدعمه، لأنه كان محاطا ببيئة جاهلة فاسدة حاقدة.
بقي أن أقول لك: إن الناقد والأديب والشاعر الكبير هو العلامة الدكتور محمد رجب البيومي رحمه الله.
بل إذا أراد أن ينال رتبة ثقافية أو عضوية في محفل إبداعي لجأ إلى الواسطة واعتمد على المعارف، قبل أن يعتمد على إبداعه وقلمه.
هل تتخيل أنني كنت يوما أهم أن أفعل ذلك، وأكون بهذه الصورة التي أنتقدها اليوم، ولكني صددت نفسي عن ذلك التيه الذي ما أيقظني منه إلا احترامي لنفسي وشخصي وقلمي؟! واعلم جليا أن هذه المنصات ذاتها لا تحفل أو تُقبل إلا على من تراه يتزلف إليها ويوافق هواها أو ترى فيه نفعا لها ومدا لجهودها، المهم أن يكون ممن لا يقولون لا، وإذا كان فهو عدو لدود وخصم مرصود.
وهذا لعمري من فساد البيئة الثقافية وعفنها الذي أوشك أن يزكم الأنوف بنتنه القبيح.
كثير من المبدعين مساكين لا يجدون من يدعمهم أويشد من أزرهم، ليثبتوا وجودهم، وتطفوا على السطح مكانتهم اللائقة بهم، كل هذا لأنهم لا يجدون واسطة، ومن جهة أخرى يواكبون عقولا جاهلة تنسب نفسها جبرًا إلى ساحة الإبداع والمبدعين، وهم في نظري بلا ريب أجهل من الدواب في حظائرها.
وليبق آخر أمل للكاتب وهو اعتزازه بقلمه وموهبته وإيمانه بإبداعه، فهو وحده صمام الأمان لوجوده وحياته في ظل هذا الفساد المستعر، أمام حفنة من الجهلة الذين سيطروا على المشهد الثقافي، أو خُيل لهم أنهم يسيطرون.
كثيرون من أصحاب الصحف يُعرضون علي نشر مقالاتي في منصاتهم، ولهم مني كل تجلة وإكبار على هذا التقدير، ولكني في الحقيقة لا ألبث إلا وأفقد الحماس لهذا الطلب و هذه الرغبة، لأنني أجد صحيفتي الخاصة بي تغنيني عن ذلك، ففيها جمهوري الذي أراه، أفيده وأستفيد منه، وأبصر عليها تلك المحاورات التي تهب لقمي الحياة، وتدفعه لمواصلة المسير، وكثرة الإنتاج.
ومن ثم فلا حزن إذن على شيء تراه فاتك.
هلم إذن واثبت ذاتك وأعلن عن مكانتك، ولا تنتظر أن يرفع من شأنك غير قلمك.
قلمك وحده الذي يصارع كل غوائل الإحباط والتيئيس.
قلمك وحده هو الذي يظهر تفوقك، ويعلن عن حقيقتك.
واصل جهادك وكفاحك ولا يغرينك ما ترى من ضباب، فعما قليل يزول وتنجلي خلفه كل السحب القاتمة التي تحجب اسمك وتكبل مكانتك.
استمر وتأكد أن هناك من سيدعمك وأولهم موهبتك.
تعال معي لأحكي لك سيرة شاعر عظيم من شعراء الماضي، كان شعره يشبه شعر العقاد العملاق.
ولكنه للأسف لم يجد من يدعمه لتكون له شهرة العقاد، فلم يجد حوله إلا جهل مطبق، وعقول تؤمن أحيانا بالمركزية والوساطة، وتبهرها الأسماء اللامعة التي لا تستحق، فتقدمها على غيرها من الناس.
منذ عقود طويلة كان هناك عالم كبير وناقد أدبي وشاعر ترن لشعره الأصقاع، كان يعمل مدرسا للمراحل الثانوية، فنقل إلى التدريس في أبو تيج بالصعيد المصري، كان الجو موحشا وفقيرا من أهل الثقافة وهي البيئة التي لا يستطيع أديبنا الكبير أن يعيش فيها.. وبدأ يبحث عمن يتوسم فيهم المعرفة والثقافة، من أصحاب الجرائد المحلية الإقليمية، وهو غير مقتنع بجدارتها، لكنه الفراغ الذي أوشك أن يأكله هو ما دفعه إلى ذلك، وبينما وهو جالس مع صاحب إحدى هذه الجرائد، وقعت في يده ثلاث ورقات لمح من سطورها قصيدة شعرية، أنها لشاعر مبتدئ يعالج النظم، واضطر أديبنا الكبير إلى قراءة هذا الشعر، فإذا به يصاب إلى حد من الذهول يجزم معه أن ما قرأه نمط رائع من البيان والتعبير لو نسب إلى شاعر عظيم كالعقاد لما شك مثقف في نسبته إليه.!
كانت القصيدة لشعر اسمه (محمد عثمان الصمدي) وقد أثرت بأبياتها في نفس ناقدنا الكبير، ثم سأل صاحب الجريدة عن صاحبها ، فقال له: إنها لخبطة رجل مهووس يغمره بالشعر ولا ينشره، إلا حين لا يجد شيئا ينشر.
تخيل هنا كيف يكون الحكم من جاهل على رجل يشابه العقاد في نظمه.
وحينما صارحه الأديب الكبير بأن هذه القصيدة من أجمل ما قيل في موضوعها، تضاحك صاحب الجريدة الجاهل وقال في استهتار: إن الناظم ترزي عربي، لم يتعلم في مدرسة، وهو يبعث بشعره للصحف الكبيرة فترفضه، ولو كان جيدا كما تقول لنشرته له.
صمم ناقدنا الكبير أن يلتقي بهذا الشاعر في بلده البعيدة، وفعلا ركب المطايا وعبر نهر النيل حتى وصل إليه، في قريته ساحل سليم ، كان رجل أشعث الرأس مغبر الثوب، تشعر كما وصفه الناقد وكأنه صوفي من أبناء الطريق قد اعتصم بالتقشف والزهد، ورأى في المركب الخشن والعيش الجاف متاعة لذيذة، وكان دكانه لا يضم غير ماكينة خياطة وصوانا خشبيا تتناثر فوقه أوراق الكتب وأقمشة الزبائن.
وأخذ أديبنا يتكلم معه، فراعه ما رأى فيه من ثقافة مدهشة وألمعية يحار أمامها المتخصصون، وآلمه ما رأى من ملابساته الاجتماعية وظروفه المعيشية التي توجع وتسيء.
يقول ناقدنا: لقد عاش مع أوشاب من الجهلة ينكرون حقه عليه في قراءة الصحف ومراسلاتها، ومن حصل منهم بعض المعرفة لسعته عقارب الحقد فأرجف به وادعى أنه ناقل ينسب لنفسه ما يقوله للناس.
لقد قابل الراجل الذي أحاطه الجهل بتحدياته كفرا بنبوغه، وساء أديبنا أن يكون هذا حاله، فوعده أن يكون في عضده وناصرا له وسارع واتصل بصاحب الرسالة الأستاذ أحمد حسن الزيات، لينشر له في أكبر مجلة أدبية مصرية، وسارع كذلك أديبنا من جهة أخرى ليكتب دراسة عن شعره لتنشر عام 1952 أشاد فيه بقدراته الشعرية وملكاته البيانية.
كانت الدراسة قوية، قد ردت الاعتبار لهذا الشاعر الموهوب، لكن الأيام سرعان ما قذت أديبنا الكبير بوفاة هذا الشاعر الذي أخذ العهد على نفسه أن يبرزه ويقف بجواره، ولكنه كما يقول: استراح من حقد التافهين، ولغو الجاهلين، وأصبح في منعة من قبره أن يصل إليه إنسان بشقاء.
أرأيت كيف يفعل الجهل بالموهوبين، وكيف لم شفع لهم موهبتهم أن تنال حقها؟
كفر الجميع بإبداع شاعر يماثل العقاد، لأنه لم يجد من يدعمه، لأنه كان محاطا ببيئة جاهلة فاسدة حاقدة.
بقي أن أقول لك: إن الناقد والأديب والشاعر الكبير هو العلامة الدكتور محمد رجب البيومي رحمه الله.