كانت هذه النهضة الأنوارية في شمال أفريقيا والشرق الأوسط تزحف على المجتمع برمته لتغير في الإبداع الشعري والسردي (أ ف ب)
ما هي الفخاخ التي نصبت للنخب الفكرية والإبداعية في شمال أفريقيا والشرق الأوسط في الإبداع والسياسة والدين، والتي كانت السبب في تعطيل مشروع ثقافي أنواري؟
حين نعود لأعوام مطلع القرن الـ 20 ونهاية القرن الـ 19 ونستعيد عناوين الكتب التي شكلت مركز نقاشات النخب في الأدب والإبداع والدين والاجتماع والمرأة والسياسة، ندرك بأن النهضة التي عاشتها هذه المنطقة مع سقوط الخلافة العثمانية، وبداية تشكل وعي وطني في ظل علاقة متوترة مع الآخر الغربي المستعمر كانت نهضة أنوارية بامتياز.
أربعة كتب مثلت بقوة العلامة المركزية التي أعلنت التأسيس لنهضة أنوارية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
ويعد كتاب "في الشعر الجاهلي" لطه حسين الذي نشره عام 1926 جرساً أيقظ الوعي النقدي من طمأنينته غير المنتجة، وتمكن من إلقاء حجر في بركة الفكر الراكدة، وعليه ومن حوله قام نقاش حول منظومة الإبداع واللغة والتراث بشكل عام، وشكل هذا الكتاب الجدلي نقطة انعطاف أساس في الذكاء العربي الحديث، وشكل أيضاً علامة في الجرأة الفكرية والنقدية المعاصرة التي حررت الفكر من ثقافة "الطاعة" ونقلته إلى ثقافة "الحيرة" والسؤال.
ومثّل كتاب "تحرير المرأة" لقاسم أمين المنشور عام 1899 معولاً آخر حفر بذكاء وشجاعة في بنية العقلية التقليدية المحافظة التي لا ترى في المرأة سوى جهاز للإنتاج البشري وتربية الأطفال، وقد طرح هذا الكتاب باكراً قضية المساواة والحرية الفردية، ودفع بالنقاش السياسي والديني والاجتماعي إلى عمقه من مدخل حضور المرأة في المجتمع وحقوقها وواجباتها كقوة إنتاج اقتصادية وفكرية وإنسانية.
وكان كتاب "الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبدالرازق الصادر عام 1925 ثالث الكتب المركزية التي خلخلت بنية الفكر السلفي الذي سجن العقل المؤمن وحاصره وقطع عليه كل سبيل للاجتهاد ومحاورة العصر الجديد، بكل ما حمله من فكر "تقنوي" وفلسفي معاصر، وفيه دعوة إلى فصل الدين عن السياسة، وهو الكتاب الذي دافع باكراً عن "العلمانية" كفلسفة للحكم، وهي الفكرة التي لا تزال حتى اليوم تثير الجدل أمام طغيان الإسلام السياسي.
ورابع هذه الكتب التي شكلت انقلاباً في التفكير هو "طبائع الاستبداد" لعبدالرحمن الكواكبي الصادر عام 1902، والذي يمكن اعتباره لحظة فارقة في مسار تشكل الوعي السياسي الجديد في مقاومته أنظمة الحكم العربية الاستبدادية الدينية والاجتماعية، وفي الكتاب قراءة للاستبداد السياسي واستبداد الجهل المقدس والاستبداد الطبقي، وهو كتاب يحتفي بالعقل ويمجده.
ومن خلال النقاشات الجادة التي عرفها مجتمع النخب حول هذه الكتب من مؤيد ورافض، حوارات وصلت حد تكفير مؤلفيها والمطالبة بحرقها مع أصحابها، وبدأت يقظة الفكر وخرج العقل العربي قليلاً من سباته ليطرح الأسئلة المحرجة حول الإبداع ونظام الحكم والاجتماع والدين.
ومن على بعد قرن أو أكثر منذ صدور هذه الكتب يبدو لنا أن ما قام به كل من طه حسين وعلي عبدالرازق وعبدالرحمن الكواكبي وقاسم أمين وشبلي شميل هو قطيعة "أبستمولوجية" جادة عبّرت عن المرور إلى زمن معرفي وعقلي جديد، فهناك ما قبل هذه الكتب وهناك ما بعدها.
وكانت هذه النهضة الأنوارية في شمال أفريقيا والشرق الأوسط تزحف على المجتمع برمته لتغير في الإبداع الشعري والسردي، وفي السينما والمسرح والعمران، وفي المؤسسة السياسية "الحزب" والاقتصادية والإدارية والاجتماعية "الأسرة"، وفي الوقت نفسه كانت تعيد صياغة العلاقة مع الآخر الأوروبي على أرضية جديدة.
لكن شيئاً فشيئاً وبمجرد أن شعرت القوى التقليدية السلفية بأنها مهددة في وجودها بدأت في الاستثمار السياسي المتهافت في الدين الذي تحول بظهور تنظيم جماعة "الإخوان المسلمين" إلى رأسمال كبير، وتحالفت بعض الأنظمة الوطنية الجديدة مع هذا الإسلام السياسي لمحاربة الفكر النقدي والعقلي، وتحولت مرة أخرى المؤسسة الدينية وعلى رأسها "الأزهر" إلى مركز للرقابة والتحكيم والمنع والتحريم والتحليل.
وحين أصبحت المؤسسة الدينية تفتي في كتابة الشعر والرواية والسينما والرسم والموسيقى بدأت محنة المثقف الأنواري، وهذا الوضع الاجتماعي والإبداعي الذي أصبح يعيش حول مركزية المؤسسة الدينية أوقع النخب في فخ معرفي غريب تمثل في العودة الجماعية لدرس التراث والبحث فيه عن مستقبل غائم، فالاشتراكية يجب البحث عنها في التراث السياسي كثورة الزنج والقرامطة وما إلى ذلك، والعلوم الرياضية والفلكية والطبية نجدها هناك، ولا حاجة لنا بمعارف الغرب الكافر.
وبدأت النخب تقرأ الراهن بعين الماضي وهي بذلك تريد أن تبرر اجتهادها بربطه بالتراث، وبأن كل العلوم وأنظمة الحكم يجب استقاؤها من تراثنا، وهكذا تشكل لنا جيل جديد من الباحثين من أمثال حسين مروة ومحمد عمارة ومحمد عابد الجابري وطيب تيزيني ومحمد أركون وهشام جعيط، صرفوا حياتهم كلها لدرس التراث وكأنهم كانوا يقومون بذلك ليعبروا عن عقدة ذنب معرفية.
وبدت هذه النخب وهي منشغلة بدرس التراث قريبة من التفكير في القبيلة وبعيدة من التفكير في الدولة الوطنية، وكثر الحديث والحوار عن الدين وتم نسيان الأخلاق، وغرق النقاش حول الإيمان وفيه، واختفى الحديث عن المواطنة.
وفي ظل فخ حمى العودة للتراث بدأ الحفر في المقولات البائدة وإحياؤها، وأشهر كل واحد سلاحه من مواقع تراثية فقهية معينة، كل واحد يبحث له عن شرعية وجود من خلال التراث، الشيوعي والليبرالي والسلفي والعقلاني، وعاد فكر "الجزية" للظهور ليخلق الفتنة داخل البلد الواحد بين مواطنيه من ديانات مختلفة، وبين المسلم والمسيحي، واشتعل الصراع بين الطوائف والمذاهب في الدين الواحد.
كما تشكل حس عدائي عام للآخر وأصبح كل آخر عدواً للدين وللوطن، ولم يعد الآخر جزءاً منا بل جزءاً من ضدنا.
وإذ انتصرت الصحوة الدينية على النهضة الأنوارية اختفى العقل أو تراجع كثير من النقاش، وهيمن التكفير وأصبحت الجامعات مراكز لتخريج نخب من دون حس نقدي، نخب أنتجها العقل الحافي الذي يخاف من الاجتهاد والآخر.
أمين الزاوي كاتب ومفكر
ما هي الفخاخ التي نصبت للنخب الفكرية والإبداعية في شمال أفريقيا والشرق الأوسط في الإبداع والسياسة والدين، والتي كانت السبب في تعطيل مشروع ثقافي أنواري؟
حين نعود لأعوام مطلع القرن الـ 20 ونهاية القرن الـ 19 ونستعيد عناوين الكتب التي شكلت مركز نقاشات النخب في الأدب والإبداع والدين والاجتماع والمرأة والسياسة، ندرك بأن النهضة التي عاشتها هذه المنطقة مع سقوط الخلافة العثمانية، وبداية تشكل وعي وطني في ظل علاقة متوترة مع الآخر الغربي المستعمر كانت نهضة أنوارية بامتياز.
أربعة كتب مثلت بقوة العلامة المركزية التي أعلنت التأسيس لنهضة أنوارية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
ويعد كتاب "في الشعر الجاهلي" لطه حسين الذي نشره عام 1926 جرساً أيقظ الوعي النقدي من طمأنينته غير المنتجة، وتمكن من إلقاء حجر في بركة الفكر الراكدة، وعليه ومن حوله قام نقاش حول منظومة الإبداع واللغة والتراث بشكل عام، وشكل هذا الكتاب الجدلي نقطة انعطاف أساس في الذكاء العربي الحديث، وشكل أيضاً علامة في الجرأة الفكرية والنقدية المعاصرة التي حررت الفكر من ثقافة "الطاعة" ونقلته إلى ثقافة "الحيرة" والسؤال.
ومثّل كتاب "تحرير المرأة" لقاسم أمين المنشور عام 1899 معولاً آخر حفر بذكاء وشجاعة في بنية العقلية التقليدية المحافظة التي لا ترى في المرأة سوى جهاز للإنتاج البشري وتربية الأطفال، وقد طرح هذا الكتاب باكراً قضية المساواة والحرية الفردية، ودفع بالنقاش السياسي والديني والاجتماعي إلى عمقه من مدخل حضور المرأة في المجتمع وحقوقها وواجباتها كقوة إنتاج اقتصادية وفكرية وإنسانية.
وكان كتاب "الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبدالرازق الصادر عام 1925 ثالث الكتب المركزية التي خلخلت بنية الفكر السلفي الذي سجن العقل المؤمن وحاصره وقطع عليه كل سبيل للاجتهاد ومحاورة العصر الجديد، بكل ما حمله من فكر "تقنوي" وفلسفي معاصر، وفيه دعوة إلى فصل الدين عن السياسة، وهو الكتاب الذي دافع باكراً عن "العلمانية" كفلسفة للحكم، وهي الفكرة التي لا تزال حتى اليوم تثير الجدل أمام طغيان الإسلام السياسي.
ورابع هذه الكتب التي شكلت انقلاباً في التفكير هو "طبائع الاستبداد" لعبدالرحمن الكواكبي الصادر عام 1902، والذي يمكن اعتباره لحظة فارقة في مسار تشكل الوعي السياسي الجديد في مقاومته أنظمة الحكم العربية الاستبدادية الدينية والاجتماعية، وفي الكتاب قراءة للاستبداد السياسي واستبداد الجهل المقدس والاستبداد الطبقي، وهو كتاب يحتفي بالعقل ويمجده.
ومن خلال النقاشات الجادة التي عرفها مجتمع النخب حول هذه الكتب من مؤيد ورافض، حوارات وصلت حد تكفير مؤلفيها والمطالبة بحرقها مع أصحابها، وبدأت يقظة الفكر وخرج العقل العربي قليلاً من سباته ليطرح الأسئلة المحرجة حول الإبداع ونظام الحكم والاجتماع والدين.
ومن على بعد قرن أو أكثر منذ صدور هذه الكتب يبدو لنا أن ما قام به كل من طه حسين وعلي عبدالرازق وعبدالرحمن الكواكبي وقاسم أمين وشبلي شميل هو قطيعة "أبستمولوجية" جادة عبّرت عن المرور إلى زمن معرفي وعقلي جديد، فهناك ما قبل هذه الكتب وهناك ما بعدها.
وكانت هذه النهضة الأنوارية في شمال أفريقيا والشرق الأوسط تزحف على المجتمع برمته لتغير في الإبداع الشعري والسردي، وفي السينما والمسرح والعمران، وفي المؤسسة السياسية "الحزب" والاقتصادية والإدارية والاجتماعية "الأسرة"، وفي الوقت نفسه كانت تعيد صياغة العلاقة مع الآخر الأوروبي على أرضية جديدة.
لكن شيئاً فشيئاً وبمجرد أن شعرت القوى التقليدية السلفية بأنها مهددة في وجودها بدأت في الاستثمار السياسي المتهافت في الدين الذي تحول بظهور تنظيم جماعة "الإخوان المسلمين" إلى رأسمال كبير، وتحالفت بعض الأنظمة الوطنية الجديدة مع هذا الإسلام السياسي لمحاربة الفكر النقدي والعقلي، وتحولت مرة أخرى المؤسسة الدينية وعلى رأسها "الأزهر" إلى مركز للرقابة والتحكيم والمنع والتحريم والتحليل.
وحين أصبحت المؤسسة الدينية تفتي في كتابة الشعر والرواية والسينما والرسم والموسيقى بدأت محنة المثقف الأنواري، وهذا الوضع الاجتماعي والإبداعي الذي أصبح يعيش حول مركزية المؤسسة الدينية أوقع النخب في فخ معرفي غريب تمثل في العودة الجماعية لدرس التراث والبحث فيه عن مستقبل غائم، فالاشتراكية يجب البحث عنها في التراث السياسي كثورة الزنج والقرامطة وما إلى ذلك، والعلوم الرياضية والفلكية والطبية نجدها هناك، ولا حاجة لنا بمعارف الغرب الكافر.
وبدأت النخب تقرأ الراهن بعين الماضي وهي بذلك تريد أن تبرر اجتهادها بربطه بالتراث، وبأن كل العلوم وأنظمة الحكم يجب استقاؤها من تراثنا، وهكذا تشكل لنا جيل جديد من الباحثين من أمثال حسين مروة ومحمد عمارة ومحمد عابد الجابري وطيب تيزيني ومحمد أركون وهشام جعيط، صرفوا حياتهم كلها لدرس التراث وكأنهم كانوا يقومون بذلك ليعبروا عن عقدة ذنب معرفية.
وبدت هذه النخب وهي منشغلة بدرس التراث قريبة من التفكير في القبيلة وبعيدة من التفكير في الدولة الوطنية، وكثر الحديث والحوار عن الدين وتم نسيان الأخلاق، وغرق النقاش حول الإيمان وفيه، واختفى الحديث عن المواطنة.
وفي ظل فخ حمى العودة للتراث بدأ الحفر في المقولات البائدة وإحياؤها، وأشهر كل واحد سلاحه من مواقع تراثية فقهية معينة، كل واحد يبحث له عن شرعية وجود من خلال التراث، الشيوعي والليبرالي والسلفي والعقلاني، وعاد فكر "الجزية" للظهور ليخلق الفتنة داخل البلد الواحد بين مواطنيه من ديانات مختلفة، وبين المسلم والمسيحي، واشتعل الصراع بين الطوائف والمذاهب في الدين الواحد.
كما تشكل حس عدائي عام للآخر وأصبح كل آخر عدواً للدين وللوطن، ولم يعد الآخر جزءاً منا بل جزءاً من ضدنا.
وإذ انتصرت الصحوة الدينية على النهضة الأنوارية اختفى العقل أو تراجع كثير من النقاش، وهيمن التكفير وأصبحت الجامعات مراكز لتخريج نخب من دون حس نقدي، نخب أنتجها العقل الحافي الذي يخاف من الاجتهاد والآخر.
أمين الزاوي كاتب ومفكر