كنت وصديقي الدكتور المهندس فهد مرتيني والمهاجر إلى كندا من سنوات، نخطو بصعوبة عبر منحدرات جبلية شديدة الوعورة، تكاد تستعصي على الغزلان، نجول على الأقدام حول مستوطنة بشرية تتألف من كهوف طابقية منقورة في صخور كلسيَّة في السفوح الجبلية لقرية "معترم" التابعة لمدينة أريحا في محافظة إدلب شمال سورية. كُنّا نتفحص تلك المنحدرات الوعرة ونتتبع ما فيها من شُجيرات برّية نابتة بين الصخور، علّنا نهتدي إلى تفسير صدى الأصوات المكتومة للسحق والطحن من الرحى الحجريّة الكبيرة الموجودة في هذه البيوت المحفورة في الصخور. ماذا كانوا يطحنون؟
قرية "معترم" إلى الغرب من مدينة أريحا في محافظة إدلب في الشمال الغربي من سورية:
كان علينا أن نحلّل النمط المعاشي لهؤلاء السكان من خلال مصادر غذائهم أولاً، وتفاعلهم اليومي مع البيئة من حولهم ونمط عيشهم ثانياً. هذه هو الاسلوب الذي اتبعناه كي نصل إلى حقيقة قريبة إلى حد ما من نمط حياتهم. ولكننا فشلنا في مسعانا، ولم تسعفنا معارفنا البسيطة في هذا الشأن في الاهتداء إلى ما نسعى إليه، وحلّ لغز سبب عيش هؤلاء الناس في هذه المنازل المحفورة في الصخر. ورحنا نسأل أنفسنا، ونمعن الفكر، ونسأل: في أي عصر عاش هؤلاء الناس؟ وما الذي ألجأهم إلى تلك المعيشة؟ هل هم مجموعة عائلية ترتبط بنسب الدم اختارت هذا المكان المنعزل لتعيش حياتها على الصيد والالتقاط بعيداً عن حياة البشر المعقدة؟ هل كانوا أهل طائفة دينية صغيرة هربت من السلطان وجوره حين دخل في دين جديد مخالف لدينهم؟ أم هل هم مجموعة سكانية مهاجرة من مكان ما سكنت في قرية "معترم" في طريق هجرتها؟ وهل وجدوا مكاناً قصيّا لعيش رغيد، فأقاموا؟ وبم نفسر وجود تلك المدافن المنحوتة في الصخور التي تركوها شاهداً حياً على وجودهم. هل استوطنوا هذه البيوت، التي نحتوها في الصخور، عشرات السنين أم مئات السنين؟ وطريقة نحت قبورهم في المدافن تشبه إلى حد كبير ما نشاهده في المدافن الوثنية ثم المدافن المسيحية في المواقع الرومانية والبيزنطية المنتشرة في تلك المنطقة.
جبال وسفوح معترم:
وبناء على طبيعة المواد المتوفرة استطاعوا أن يتدبروا أمر استقرارهم ومعاشهم بسهولة داخل المساحة المتوفرة في تلك المنازل التي نحتوها في الصخور. يتراءى لنا أن الحقائق الخام التي اغتنمناها من مشاهداتنا تُحيّر الباحث أكثر مما تهديه لعدم وجود نقوش كتابية، ولغياب أي دليل موّثق عن هوية المدافن المنحوت في الصخور. وهل هذا يُرجّح قيام مستوطنة بشرية زراعية أم برج مراقبة عسكري كما ذهب البعض في رؤيته للموقع؟
كهوف قرية "معترم" موجودة في مجموعتين منفصلين تبعدان عن بعضهما أكثر من ثلاثمئة متر. تتجه الأبواب والشبابيك في المجموعتين نحو الشرق، كي تستقبل الشمس عند شروقها. المجموعة الأولى والتي تُعرف عند سكان قرية "معترم" الحديثة بالقلعة تضم مرافق مختلفة تُشير إلى استيطان بشري دائم استمر لأجيال متعاقبة. في ضوء ذلك نرى أن الاتصال بين المرافق المختلفة، مطبخ، غرف معيشة، غرف نوم، جباب ماء، نقاط حراسة، كان يتم عبر فتحات داخلية يُنفذ إليها بسلالم من أدراج منحوتة في الصخور الكلسيّة. ولا تتوفر أدلة كافية عن شكل أو تنظيم حياتهم، ولا يتأتى لنا ذلك، لأن قسماً لا بأس به من مرافق العيش، قد أصابتها عاديات الزمان. تدل الآثار الباقية للكهوف المنحوتة في الصخور على التكيف المذهل مع البيئة المحيطة، فقد عمل السكان على نحت ما يحتاجون إليه في حياتهم الصعبة تلك لتسد حاجاتهم المعيشية البسيطة، وصنعوا من تلك الصخور الكلسيّة مكاناً آمناً يفي حاجاتهم الأساسية. وأثناء تجوالنا لاحت لنا في البعيد شُجيرات البلوط المتوارية بين صدوع الصخور.
حكاية كهوف معترم:
هل كان سكان هذه المستوطنة يستخدمون ثمار شجر البلوط في غذائهم. هذا افتراض وارد، لأن منازل القرية منحوتة في منحدر صخري شديد الوعورة، ومن الصعب على الإنسان أو الحيوان التحرك في دروبه الضيقة الخطرة لنقل مؤنة من أماكن أخرى، لذا يمكن أن يكونوا قد استخدموا ما توفر لهم من ثمار غابات شجر البلوط الكثيفة في تلك المنطقة. وهذا الرأي يعززه بعد السهول الخصبة المحيطة بالوادي، وبعد الكروم التي يمكنهم الاعتماد على ثمار أشجارها، اضافة لشح المياه في الصيف ولندرة مصادرها الطبيعية، لذلك حفر هؤلاء السكان جباباً داخل منازلهم لجمع المياه في الفصول المطيرة.
أكدت المصادر التاريخية بأن طحين جوز البلوط كان مصدراً أساسياً للقوت في أجزاء كثيرة من العالم في الأزمنة القديمة، وكانت وجبة مهمة في أوروبا القرن التاسع عشر. جوز البلوط لب مغذ، يحوي ما يصل إلى سبعين بالمئة من وزنه كربوهيدرات، وما يقرب من خمسة بالمئة من البروتين، وما يقرب العشرين بالمئة من الدهون. ولكن هذه الثمار، على فرض أن أهل معترم استخدموها في طعامهم، فيها عيب أساسي واحد يحتاج حله إلى تجربة وخبرة كبيرة، إنها محصول يتطلب معالجته عملاً عائلياً مكثّفاً. حيث يستغرق تقشير الثمار وسلخها ساعات أطول كثيراً من طحن بذور الحشائش الأخرى. وحتى بعد ذلك يكون اللب غير صالح للأكل. وذلك لأن جوز البلوط يحوي حمض التانيك، مرّ المذاق، والذي يجب أن يُنقع بالماء ويصفى مرات عديدة في عملية يستهلك إجراؤها بعناية زمناً طويلاً قبل الطهو -هل هذا يُفسر حفرهم جباب ماء عميقة داخل منازلهم؟ كيف نتأكد أن سكان "معترم" القدماء أصحاب هذه البيوت المنحوتة في الصخر كانوا يقتاتون من طحين ثمار البلوط؟ لا دليل واضح حول هذا الأمر. وقد نجد في المستقبل القريب جواباً على هواجسنا.
شجر البلوط:
ويمكننا التأكيد هنا أن كل الأرجاء القابلة للسكن في جبل الزاوية وجبال باريشا وسهل الروج في محافظة إدلب في شمال سورية، والتي تعرف لدى علماء الآثار بالمدن المنسية أو المهجورة أو البائدة وتضم أكثر من ألف موقع في تلك الهضاب الكلسيّة، هذه المواقع سكنتها جماعات بشرية بكثافات مختلفة وكان قوام معاشها الصيد والالتقاط في أول الأمر. وعندما تم لها الاستقرار، كانت القفزة تتمثل في نمط معاشي معول على الإنتاج الفعلي للقوت القائم على تأهيل النباتات البرية واستئناس الحيوانات الوحشية، ولولا تلك القفزة لكنا ما نزال نعيش تلك الحياة البدائية. والسؤال الذي يخطر في البال هل كُنا سنكون أسعد حالاً من اليوم؟
قرية "معترم" إلى الغرب من مدينة أريحا في محافظة إدلب في الشمال الغربي من سورية:
كان علينا أن نحلّل النمط المعاشي لهؤلاء السكان من خلال مصادر غذائهم أولاً، وتفاعلهم اليومي مع البيئة من حولهم ونمط عيشهم ثانياً. هذه هو الاسلوب الذي اتبعناه كي نصل إلى حقيقة قريبة إلى حد ما من نمط حياتهم. ولكننا فشلنا في مسعانا، ولم تسعفنا معارفنا البسيطة في هذا الشأن في الاهتداء إلى ما نسعى إليه، وحلّ لغز سبب عيش هؤلاء الناس في هذه المنازل المحفورة في الصخر. ورحنا نسأل أنفسنا، ونمعن الفكر، ونسأل: في أي عصر عاش هؤلاء الناس؟ وما الذي ألجأهم إلى تلك المعيشة؟ هل هم مجموعة عائلية ترتبط بنسب الدم اختارت هذا المكان المنعزل لتعيش حياتها على الصيد والالتقاط بعيداً عن حياة البشر المعقدة؟ هل كانوا أهل طائفة دينية صغيرة هربت من السلطان وجوره حين دخل في دين جديد مخالف لدينهم؟ أم هل هم مجموعة سكانية مهاجرة من مكان ما سكنت في قرية "معترم" في طريق هجرتها؟ وهل وجدوا مكاناً قصيّا لعيش رغيد، فأقاموا؟ وبم نفسر وجود تلك المدافن المنحوتة في الصخور التي تركوها شاهداً حياً على وجودهم. هل استوطنوا هذه البيوت، التي نحتوها في الصخور، عشرات السنين أم مئات السنين؟ وطريقة نحت قبورهم في المدافن تشبه إلى حد كبير ما نشاهده في المدافن الوثنية ثم المدافن المسيحية في المواقع الرومانية والبيزنطية المنتشرة في تلك المنطقة.
جبال وسفوح معترم:
وبناء على طبيعة المواد المتوفرة استطاعوا أن يتدبروا أمر استقرارهم ومعاشهم بسهولة داخل المساحة المتوفرة في تلك المنازل التي نحتوها في الصخور. يتراءى لنا أن الحقائق الخام التي اغتنمناها من مشاهداتنا تُحيّر الباحث أكثر مما تهديه لعدم وجود نقوش كتابية، ولغياب أي دليل موّثق عن هوية المدافن المنحوت في الصخور. وهل هذا يُرجّح قيام مستوطنة بشرية زراعية أم برج مراقبة عسكري كما ذهب البعض في رؤيته للموقع؟
كهوف قرية "معترم" موجودة في مجموعتين منفصلين تبعدان عن بعضهما أكثر من ثلاثمئة متر. تتجه الأبواب والشبابيك في المجموعتين نحو الشرق، كي تستقبل الشمس عند شروقها. المجموعة الأولى والتي تُعرف عند سكان قرية "معترم" الحديثة بالقلعة تضم مرافق مختلفة تُشير إلى استيطان بشري دائم استمر لأجيال متعاقبة. في ضوء ذلك نرى أن الاتصال بين المرافق المختلفة، مطبخ، غرف معيشة، غرف نوم، جباب ماء، نقاط حراسة، كان يتم عبر فتحات داخلية يُنفذ إليها بسلالم من أدراج منحوتة في الصخور الكلسيّة. ولا تتوفر أدلة كافية عن شكل أو تنظيم حياتهم، ولا يتأتى لنا ذلك، لأن قسماً لا بأس به من مرافق العيش، قد أصابتها عاديات الزمان. تدل الآثار الباقية للكهوف المنحوتة في الصخور على التكيف المذهل مع البيئة المحيطة، فقد عمل السكان على نحت ما يحتاجون إليه في حياتهم الصعبة تلك لتسد حاجاتهم المعيشية البسيطة، وصنعوا من تلك الصخور الكلسيّة مكاناً آمناً يفي حاجاتهم الأساسية. وأثناء تجوالنا لاحت لنا في البعيد شُجيرات البلوط المتوارية بين صدوع الصخور.
حكاية كهوف معترم:
هل كان سكان هذه المستوطنة يستخدمون ثمار شجر البلوط في غذائهم. هذا افتراض وارد، لأن منازل القرية منحوتة في منحدر صخري شديد الوعورة، ومن الصعب على الإنسان أو الحيوان التحرك في دروبه الضيقة الخطرة لنقل مؤنة من أماكن أخرى، لذا يمكن أن يكونوا قد استخدموا ما توفر لهم من ثمار غابات شجر البلوط الكثيفة في تلك المنطقة. وهذا الرأي يعززه بعد السهول الخصبة المحيطة بالوادي، وبعد الكروم التي يمكنهم الاعتماد على ثمار أشجارها، اضافة لشح المياه في الصيف ولندرة مصادرها الطبيعية، لذلك حفر هؤلاء السكان جباباً داخل منازلهم لجمع المياه في الفصول المطيرة.
أكدت المصادر التاريخية بأن طحين جوز البلوط كان مصدراً أساسياً للقوت في أجزاء كثيرة من العالم في الأزمنة القديمة، وكانت وجبة مهمة في أوروبا القرن التاسع عشر. جوز البلوط لب مغذ، يحوي ما يصل إلى سبعين بالمئة من وزنه كربوهيدرات، وما يقرب من خمسة بالمئة من البروتين، وما يقرب العشرين بالمئة من الدهون. ولكن هذه الثمار، على فرض أن أهل معترم استخدموها في طعامهم، فيها عيب أساسي واحد يحتاج حله إلى تجربة وخبرة كبيرة، إنها محصول يتطلب معالجته عملاً عائلياً مكثّفاً. حيث يستغرق تقشير الثمار وسلخها ساعات أطول كثيراً من طحن بذور الحشائش الأخرى. وحتى بعد ذلك يكون اللب غير صالح للأكل. وذلك لأن جوز البلوط يحوي حمض التانيك، مرّ المذاق، والذي يجب أن يُنقع بالماء ويصفى مرات عديدة في عملية يستهلك إجراؤها بعناية زمناً طويلاً قبل الطهو -هل هذا يُفسر حفرهم جباب ماء عميقة داخل منازلهم؟ كيف نتأكد أن سكان "معترم" القدماء أصحاب هذه البيوت المنحوتة في الصخر كانوا يقتاتون من طحين ثمار البلوط؟ لا دليل واضح حول هذا الأمر. وقد نجد في المستقبل القريب جواباً على هواجسنا.
شجر البلوط:
ويمكننا التأكيد هنا أن كل الأرجاء القابلة للسكن في جبل الزاوية وجبال باريشا وسهل الروج في محافظة إدلب في شمال سورية، والتي تعرف لدى علماء الآثار بالمدن المنسية أو المهجورة أو البائدة وتضم أكثر من ألف موقع في تلك الهضاب الكلسيّة، هذه المواقع سكنتها جماعات بشرية بكثافات مختلفة وكان قوام معاشها الصيد والالتقاط في أول الأمر. وعندما تم لها الاستقرار، كانت القفزة تتمثل في نمط معاشي معول على الإنتاج الفعلي للقوت القائم على تأهيل النباتات البرية واستئناس الحيوانات الوحشية، ولولا تلك القفزة لكنا ما نزال نعيش تلك الحياة البدائية. والسؤال الذي يخطر في البال هل كُنا سنكون أسعد حالاً من اليوم؟