مها حسن - معضلة نشر الكتاب الأول

رسالة إلى روائي شاب.. معضلة نشر الكتاب الأول

هذا ليس كلامًا حول رواية يوسا "رسائل إلى روائي شاب"، ولا محاولة في توجيه نصائح تتعلق بالكتابة، بل توضيح لما يبحث عنه بعض الكتّاب المبتدئين، بعد أن ينتهوا من كتابة روايتهم الأولى، فتبدأ رحلتهم الشاقة، التي لا تقل تعبًا وإرهاقًا عن رحلة الكتابة، للعثور على ناشر.
ككاتبة سبق أن تعاملت مع عدة دور نشر، وصارت لدي خبرتي المقبولة في إبداء النصح أو إعطاء المقترحات، تصلني يوميًا تقريبًا، رسائل من نوع: كيف أنشر؟ وبعضها يتضمن بوضوح أو بتلميح، أن أقوم بالتوسط لهم لدى أحد الناشرين الذين أتعامل معهم.
الناشر والكاتب في العالم العربي
النشر في العالم العربي هو مشروع ذو شقين: اقتصادي وثقافي. فأما الثاني، فهو الأقل تواجدًا، وأما الأول، فهو السائد، حتى في الغرب. ولكن، حتى ينجح الأول في تحقيق مراده، يستند أحيانًا، وليس دائمًا، على مفاجآت الثاني. أي حين يكون العمل مميزًا ويحصل على قبول القراء، فهذا يحقق الربح للناشر.. ولكن هل الناشر، إن لم يكن صاحب مشروع ثقافي أيضًا، أو إن لم يتمتع بذائقة أدبية، تخوّله الفصل بين النص المميز والنص العادي، بقادر على تقدير أهمية النص الأول الذي يتلقاه؟
قبل الحديث عن الكتاب الأول، يمكننا إلقاء نظرة سريعة على علاقة الكتّاب العرب مع ناشريهم..
كوني من داخل هذا الوسط، وأتبادل البوح حول قضايا النشر وتعقيداته، فأنا على إطلاع جيد، بالصعوبات التي يتعرض أغلب الكتّاب الأصدقاء، حتى الذين سبق لهم النشر، في العثور على ناشر جديد..
ثمة عُرف يسري بيننا، نحن الكتّاب الذين اعتادوا النشر، وكلما انتهى أحدنا من كتابه الجديد: أين أنشر كتابي الأخير؟
لن أقوم بما يشبه استطلاعات الرأي، لأقدم عيّنات من مواقف زميلات وزملاء، يضطرون إلى البحث عن ناشر جديد، أو قبول عروض دور نشر جديدة لم يسبق لهم التعامل معها من قبل..
ناهيك عن حقوق الكاتب التي لا تُرضي الشريحة الأكبر من الكتّاب في العالم العربي، سواء منها المادية أو المعنوية، وهذا أمرٌ يفسّره الناشرون من طرفهم، بصعوبات التسويق والبيع ومشاكل القراءة في العالم العربي، ولكن حتى ضمن الحد الأدنى من تلبية هذه الحقوق، فإن الفئة الأوسع من الكتاب العرب، هم الذين لا يحصلون على حقوقهم كما تحقّ لهم، ولن أقارن أبدًا مع حقوق الكاتب في الغرب، حتى لا أدخل في سجال المقارنة أيضًا، بين القارئ العربي والقارئ الغربي..
ولكن يمكن ببساطة، إلقاء نظرة على أعمال أي كاتب عربي، لنجد أن أغلبهم متعددو الناشرين، وقلما نجد كاتبًا، استقرّ تعامله، مع ناشر واحد.

"النشر في العالم العربي هو مشروع ذو شقين: اقتصادي وثقافي. فأما الثاني، فهو الأقل تواجدًا، وأما الأول، فهو السائد، حتى في الغرب. ولكن، حتى ينجح الأول في تحقيق مراده، يستند أحيانًا، وليس دائمًا، على مفاجآت الثاني"
تجربتي في النشر
تنقسم تجربتي في النشر إلى مرحلتين: تجربة الكتاب الأول، ثم التجارب اللاحقة حيث قطعت مرحلة الحاجة إلى ناشر فقط، ودخلت في مرحلة اختيار الناشر..
المرحلة الأولى: تنقسم هذه المرحلة أيضًا، إلى حقبتين زمنيتين: الأولى حين كنت في سورية، والثانية حين صرتُ خارج البلاد، في فرنسا..
حين أنهيت كتابي الأول (اللامتناهي)، قام صديق سبق له أن نشر لدى دار معروفة في سورية، بالتحدث إلى الناشر، وطبعت عملي الأول، بالشروط ذاتها التي طبع فيا صديقي عمله من قبل: على حساب المؤلف. كانت التجربة محبطة بشدة، حيث لم أكن مدركة لخطورة الطباعة على نفقة المؤلف، التي أحذر منها اليوم، أي كاتب، مهما كانت حاجته لنشر كتابه، حيث هذه القاعدة تقتل الكتاب غالبًا.
حتى فكرة تقاسم تكاليف النشر بين الناشر والكاتب، لا تقل خطورة عن الشرط أعلاه.. هذا يعني أن الناشر لن يكون متحمّسًا لتوزيع الكتاب وتسويقه، طالما وصله حقّه المالي، وطالما هو غالبًا، ذو مشروع اقتصادي...
ومن هنا يمكن استنتاج تعريف بسيط للناشر: أن يطالب الكاتب بنفقات النشر، هو غالبًا ليس صاحب مشروع فكري، وليس لديه إيمان بأهمية الكتاب الذي يقوم بنشره..
حين وصلت إلى فرنسا، شعرت أنني أبدأ من جديد، رحلة البحث عن ناشر..
كانت روايتي الثانية (تراتيل العدم) قد رُفضت من قبل مديرة الإعلام، التي تمنح موافقات النشر، وكان ذلك ربما من حسن حظي، كي لا أضطر لتوقيع عقد إذعان، أدفع فيه نفقات النشر..

"وصلت روايتي الأولى (حبل سري) إلى اللائحة الطويلة لجائزة البوكر العربية، الناشر رياض الريس قاطع الجائزة لاحقًا، وأنا ككاتبة، ليست لدي مصلحة في هذا الموقف، لأن الجوائز العربية، بغض النظر عن السجالات حول نزاهتها وحياديتها، هي إحدى أهم الفرص للتعريف بالكاتب والترويج لأعماله.."
وصلت إلى فرنسا بمخطوط مرفوض من سورية... وانتظرت عدة سنوات، حتى اتخذت قراري بالنشر.
تعرضت إلى كل ما يتعرض له الكتّاب المبتدئون اليوم من ابتزاز دور النشر: النشر على نفقة الكاتب، أو المساهمة في النفقات...
إلى أن قمت في لحظة نزق وفقدان أمل، بالكتابة إلى رياض الريس، رحمه الله.
تلك اللحظة، كانت هي الفارقة، حين وصلني رد الأستاذ رياض بالموافقة...
وبدأت رحلتي مع دار الريّس، دون أي تردد لا من طرف الناشر، ولا من طرفي.. لأنشر أعمالي التالية، دون توقيع عقود حتى، إذ نوقع عقودنا، حين نلتقي في بيروت، ويكون الكتاب قد صدر قبلها..
بفضل الشروط المريحة مع دار الريّس آنذاك.. بدأ اسمي يظهر، حتى وصلت روايتي الأولى التي كتبتها في باريس (حبل سري) إلى اللائحة الطويلة لجائزة البوكر العربية، وهنا حدث المفترق الجديد في تجربة النشر... رياض الريس قاطع الجائزة لاحقًا، وأنا ككاتبة، ليست لدي مصلحة في هذا الموقف، لأن الجوائز العربية، بغض النظر عن السجالات حول نزاهتها وحياديتها، هي إحدى أهم الفرص للتعريف بالكاتب والترويج لأعماله..
من هنا، دخلت المرحلة الثانية: مرحلة اختيار الناشر بعد أن امتلكت حرية الاختيار بشكل أوسع، وقررت البحث عن ناشر آخر..
تتسم هذه المرحلة بالكثير من التردد والقلق، والشعور بالذنب.. لكن المصلحة الأدبية هي التي يجب أن تحسم كل هذه الإرباكات..
والسؤال الأصعب لاحقًا: أين هي المصلحة الأدبية؟ هل لدى ناشر محترف، يجيد التوزيع، له اسمه ووزنه في سوق النشر، أو لدى ناشر يمنح الكاتب حقوقه إلى حد ما، وقد يكون مبتدئًا؟
تخبطت قليلًا في هذه المرحلة، حيث أنهيت (الراويات)، وصرت بحاجة لناشر جديد... إلى أن توفقتُ بدار التنوير، لأنشر معهم هذه الرواية ورواية (مترو حلب) في السنة التالية.
لأسباب معقدة، لم أتمكن من الاستمرار مع دار التنوير، التي كانت تجربتي معها مريحة جدًا، حيث دخلنا في مرحلة أدب الثورة والحرب، وحيث صارت هذه الثيمات التي أُجبرت عليها، كضرورة أخلاقية قبل أن تكون فنية، مملة ومطروقة من وجهة نظر أغلب دور النشر الأخرى...
هنا توفّقت بدرجة أعلى، في الحصول على ناشر يتمتع بمشروع فكري جريء، يحارب طواحين الهواء، كما يحمل لوغو الدار: منشورات المتوسط.
بين كتاب لدى المتوسط، وآخر لديهم أيضًا، كانت لدي تجربتي مع دار سرد المبتدئة، والتي يحمل صاحبها الصديق فايز علام مشروعًا فكريًا جادًا، سبق أن فتح لي أبواب الكرم، بإعادة طباعة كتبي منتهية العقود، وغير المتواجدة في الأسواق... لكن مشروع سرد الذي كان حلم صاحبه الأول والرئيسي فيه: التركيز على الرواية السورية، تباطأ، لأسباب تتعلق بسوق النشر، ولا أملك خبرة التحدث عنها ككاتبة.

"السؤال الأصعب: أين هي المصلحة الأدبية؟ هل لدى ناشر محترف، يجيد التوزيع، له اسمه ووزنه في سوق النشر، أو لدى ناشر يمنح الكاتب حقوقه إلى حد ما، وقد يكون مبتدئًا؟"
حاليًا، أنشر لدى المتوسط، ولا أستطيع التنبؤ بما قد تحمله الأيام القادمة.
مرحلة المتوسط التي أعيشها حاليًا في تجربة النشر هي مرحلة مميزة تتسم بالمهنية وبالمشروع الفكري معًا.. من حيث التوزيع، استطاعت الدار تحقيق انتشارها في فترة صغيرة نسبيًا، إضافة إلى تميز أغلفتها التي يصممها الناشر ذاته، فإن الصديق خالد الناصري، كشاعر، لديه رؤية وشجاعة في الدفاع عن النص المختلف، الذي قد يراه الآخرون مملًا أو "بيجيب وجع راس".
ما يشبه الانتماء إلى هذه الدار، مع تكرار النشر لديهم لأعمالي الأخيرة الثلاثة، والصيت الذائع للدار، جعلني عرضة، ككتاب غيري دون شك، سواء الذين ينشرون لدى المتوسط، كما في حالتي، أو لدى دور أخرى، لتلقي رسائل وطلبات: كيف ننشر؟
حسنًا.. حين أرسلت أول عمل لي لدار المتوسط، لم أطلب من أحد التدخل لدى الناشر. وهذه قاعدة مهمة وذهبية. لا يمكن لأحد أن يتوسط لدى ناشر. الكتاب هو الوسيط الوحيد.
ربما كان الناشر قد سمع باسمي من قبل، وهذا سهّل سرعة التفاهم والتعاقد بيننا.. ولكن محاولاتي البريئة لاحقًا للتدخل لثلاث مرات لدى الناشر، وأنا أرشّح له كتبًا لأشخاص لم يسبق لهم أن نشروا، باءت بالفشل، وهذه تفاصيل تتعلق بالناشر ولجان القراءة التي تحدد أولويات النشر.. من هنا، يبدو أنه ليس مستحبًا أن يقوم أحدنا بطلب التوسط لدى ناشره الذي يتعامل معه بشروط قائمة على عدة معطيات، ليست متوفرة في صاحب الكتاب الأول..

نصيحة أخيرة
أين تنشر؟ كيف تنشر؟ مع من تنشر؟ لأرد على هذه الأسئلة وغيرها الكثير، سأقدم نصيحة واحدة: أكتب نصّك كأنه لك وحدك، ولا تفكّر في الناشر، وبعد الانتهاء منه، لا غضاضة في أن ترسل إلى عدة ناشرين في وقت واحد، دون أن تتوقع أن تدخل صديق ما، سبق أن نشر لدى هؤلاء، سوف يساعد في تقديم نصك عن غيره..
لا أعتقد أن مقولة الكتاب الجيد يفرض نفسه قد انقرضت، رغم كل المساوئ في تقدير المواهب الحقيقية.

(فرنسا)

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

أعلى