خليل صويلح - عزت القمحاوي.. أيها الطهاة... أين الروح واللهب؟

يستدرج عزت القمحاوي مفردات طهي الطعام إلى مطبخ الرواية، فكلاهما يحتاج إلى تحضير وبنية تحتية ونكهة، داعياً الروائيين إلى تأنيث أرواحهم. ذلك أن الكتابة فعل أنثوي في المقام الأول. هكذا يقتحم صاحب «غرفة المسافرين» المطبخ من بابه الواسع بقصد تحضير وجبة سردية شهية، من دون أن يسهو عن المقادير المطلوبة أو لحظة النضج «فلا يخرج عمله نيئاً أو شائطاً». بين هاتين الضفتين، تتراكم التوابل والروائح والمكونات بمشيئة المعرفة والحدس والذائقة، فكثرة الدقيق تفسد العجين المطلوب للوجبة، مثلما الثرثرة تفسد النسيج الروائي وتحيله إلى حطام حكاية. لكن الفرق بين الطاهي والروائي، وفق ما يقول، أنّ الأول يحوّل الأرواح إلى أشباح، بينما الثاني يطيح الحكاية الأصلية موزّعاً روحه على أشباح شخصياته بأكبر قدر من التخفّي، كما يفعل نجيب محفوظ مثلاً. إذ تحتاج رواياته إلى تنقيب عميق للقبض على شخصيته الأصلية، على عكس الروائيين الذين كتبوا سيراً ومذكرات واعترافات صريحة ومكشوفة تسمح لطوبوغرافيي القراءة معرفة البذرة الشخصية لروح الروائي في أعماله المتخيّلة، على غرار ما فعله غابرييل غارسيا ماركيز، وخوسيه ساراماغو، ونيكوس كازنتزاكس، ودوستويفسكي، «بينما يبقى عموم قراء الرواية بعيدين عن دروس التشريح، يستمتعون بصحبة الأشباح في الروايات من دون أن يشغلوا أنفسهم بالبحث عن الحمض النووي للكاتب في كل منها!» يقول. باكتشاف النار، ارتحل الطعام من مرحلة النيء إلى المطبوخ، أو إلى صيّاد وطاهية. ذلك أن الطبخ في الأصل قيمة أنثوية قبل أن تقتحم الشاشة شخصية «الشيف» باستعراضاته البهلوانية، وهو ما يفعله بعض الروائيين أيضاً، بتخليهم عن الصبر والحيلة وعدم الخجل من الهشاشة: «لا تقف العلاقة بين الرواية والطبخ عند حدود الاستعارات والتشبيهات التي يمكن نقلها من أحد المجالين إلى الآخر. الروائيون الأوفياء لحواسهم ينتبهون إلى أهمية الطبخ داخل نصوصهم». وسوف تستغني شهرزاد عن مهنة الطهي بطبخ الحكاية طوال «ألف ليلة وليلة» بمقترح سردي متين يقودها إلى النجاة من موتٍ محقّق، وهو ما سيلهم الروائيين في بناء الشكل والعمارة الروائية وفرادة اللغة وبراعة الاستهلال بوصفهم طهاة حكي بالمكونات والوصفات والتوابل التي يحتاجها طهاة المطابخ. في «توابل الدهشة»، ستنتقل الروائح والنكهات من دكاكين العطّارين، ومذكّرات الرحّالة إلى حكايات شهرزاد، ثم إلى الفضاء الروائي «مشهدية دكان العطَّار متوفرة بكثرة في روايات نجيب محفوظ، لكنه كان يستخدم التوابل بحذر، بعكس غابرييل غارسيا ماركيز، ملك التوابل الذي كان يطبخ على الطريقة الهندية». ويستدرك «هو كاتب عظيم ما في ذلك شك، لكن عظمته قابلة للنقصان مع الزمن بسبب إفراطه في استخدام البهارات». من ضفةٍ أخرى، يرصد صاحب «كتاب الغواية» ظاهرة «الكيتش» في الطبخ كما في الرواية. ذلك المفهوم الذي بات موضة رائجة لتحقيق نجومية طاغية، عن طريق «طهي الولائم الكبرى، والتصعيد الخيالي للدسم: محشي ورق العنب في جوف خروف، عجل مشوي بكامله، أكبر سمكة في العالم، وأطول إصبع كفتة». سنقع على المفهوم نفسه في تلك الروايات الضخمة «المحشوة بألوان الاستعراض الخيالي والمعلوماتي لإشباع نهم تاريخي لدى قرائهم»، فالكيتش الروائي الذي يضرب حصاراً خانقاً حول الذوق، لا يعترف بالنغم الخفيض، ساعياً بنهم إلى تصدير الفخامة والأبطال الخارقين والأحداث الخطرة، لكن ما ينقص هؤلاء الطهاة الأدبيين «الروح؛ غياب اللهب الذي يُحرِّك الكاتب»، ويضيف: «ربما تخدع الدانتيلا الزائفة النظر، لكن خذلان الأصابع عند اللمس يدمِّر كل أثر للنظرة». تكمن أهمية اشتغالات عزت القمحاوي إذاً، في النظرة الأنثروبولوجية لمفردات الفضاء العام، وسوسيولوجيا الطهي، والشهوات الإيروتيكية، باستنفار ذائقة مضادة لما هو متروك جانباً وفحصه عن كثب بمبضع نقدي حاد وتقليبه في موقد النار حيناً، وموقد الحكاية طوراً، وهو في كتابه المنتظر «هزار ســفر» (الدار المصرية اللبنانية) يعمّق النظرة أكثر في نزهات نوعية بين روح المكتبة، وروائح المطبخ. هنا مقاطع من الكتاب:

تأنيث الروح
لكي نتحدث بجدية عن مصدر الإجادة في الكتابة، يجب أن نتحدث عن الشغف، الاستعداد، الجلد، الذكاء، الإنصات العميق للروح، خبرات القراءة، كل ذلك يربّي الحدس الجيد، وهذا الحدس هو مصباح ديوجين غير المرئي الذي يكشف تفرعات الطريق أمام الكاتب عندما يجلس ليكتب ويجعله يختار الأفضل. يهديه العناصر الأكثر ملاءمة للبناء في اللغة والشخصية والحدث، ويلهمه صنع التناغم بين كل هذا.


ربما تولد بداية الرواية من جملة، موقف، أمنية، تتحول إلى فكرة، وقد تكون تلك الفكرة في وهن شبكة عنكبوت في البداية، لكن الحدس يرشحها للكتابة، وتبقى روحاً هائمة إلى أن يساعدها الحدس مجدداً على تصوّر شكل الجسد الذي يجب أن تحلّ فيه.


ومن حسن الحظ أنّ مهارات الكتابة أو بدقة أكبر «مهارات التحرير» صارت علماً. يستطيع الهاوي أن يتعلّمه في ورشة كتابة، أو في واحدة من الجامعات التي أدخلت تعليم الكتابة الإبداعية في مناهجها، ويمكنه أن يكتب روايات جذَّابة تحقق مبيعات عالية، لكنه لن يكتب عملاً طويل العمر، ما لم يصل ولعه حدّ أن تكون القراءة والكتابة ـ معاً ـ وظيفة من وظائف جسمه الحيوية لا يمكنه العيش بدونها.
قد يتصور البعض أن الطبخ يمكن أن يستغني عن هذا الولع الخاص استناداً إلى المعرفة بالمقادير المجربة سابقاً. هذا كافٍ لطبَّاخ عادي، يمكن أن يكسب من صنعته جيداً، لكنه لن يكون متميزاً ويستحق لقب مبدع إلا بالشغف الكبير والإنصات العميق للروح والجرأة وحرية الخيال الذي يسلّحه بالحدس الجيد: أي العناصر يمكن أن ينسجم مع الآخر؟ ما الوقت الذي تحتاجه قطعة لحم من الفخذ أو الضلع؟ يجب أن يكون قادراً على تخمين عمر الذبيحة ومرعاها، عمر كل ثمرة والعوامل التي تدخلت فيها وشكلتها قبل أن تصل إلى يديه، وأن يكون لديه فوق هذه المعرفة تصور مبدأي للطعم والشكل النهائي.
يحتاج الكاتب ـ كما الطاهي ـ إلى الحدس كي يعرف بم يبدأ، وكيف ينظم الأحداث في خيط يقبل التصديق. أفعال شخصية نشأت منبوذة تختلف عن أفعال شخصية مدللة، من نشأ وحيداً غير من نشأ في عائلة كبيرة، ما الذي يمكن أن يجري بين شخصين متشابهي الجذور أو مختلفين.
الحدس هو مرشدنا إلى تناغم الشكل والمضمون. قبل الشروع في رواية أو طبخة يكون لدينا الحدس بالصورة النهائية للطبخة، ودائماً ما تتعرض الخطة للتعديل أثناء العمل، نضطر أحياناً إلى تغيير المقادير والطريقة، نضيف تابلاً غير معتاد أو نقلل من آخر، لذلك من النادر أن تخرج طبخة كما خططنا بالضبط، وهذا أفضل جداً.


المهم هو معرفة لحظة النضج في مطبخ الكاتب والطاهي. وهي لحظة رهيفة للغاية، قبلها نجد طعم النيء، وبعدها تبدأ الطبخة في التدهور. وعندما يخذلنا الحدس، يمنحنا الرغبة بالتعويض في عمل جديد.

حكمة الشكل
اختلاف البناء هو الذي يمنح كاتباً الآن وفي المستقبل حق الطموح لكتابة رواية جديدة بعد كل الروايات العظيمة في تاريخ هذا الفن، رغم أن عدد الموضوعات التي تعالجها الرواية محدود.
بعد دون كيخوتة، هناك صف طويل من روايات المعارك الخاسرة مثل: موبي ديك، العجوز والبحر، اللص والكلاب، والقائمة تطول. وبعد مدام بوفاري، آنَّا كارنينا، عشيق الليدي شاترلي، والوله التركي، ومئات الروايات الجيدة التي تعالج خيبات العشق. ما ينقذ الموضوع في كل مرة هو الشكل الجديد الذي يعيد إحياء المعنى، ويجعله جديداً.
لعبة الاحتمالات باستخدام عناصر البناء الخمسة يشبه على نحو ما النظام الحديث لترقيم السيارات. بعد أن تضخم عدد المركبات التي تتحرك في شوارع المدينة الواحدة، كان لا بد من التخلي عن الترقيم المتصاعد، والاستنجاد بحكمة الشكل التي تنتجها نظرية الاحتمالات من التركيب المتبادل ـ الذي يبدو عشوائياً تماماً. ثلاثة أرقام تقتسم لوحة السيارة مع ثلاثة حروف، فنحصل على ملايين من اللوحات المختلفة تشير كل منها إلى سيارة فريدة لها طراز وتاريخ ومالك محدد.


الأمر لا يختلف في الطبخ. لدينا من العناصر الأولية للطبخ عدد لا يتجاوز عدد الموضوعات التي تتناولها الرواية، لكننا نصنع من تلك العناصر المكررة أعداداً غير محدودة من الأطباق بفضل الشكل: طريقتنا في استخدام الزبد، الملح، البهارات، وطرق الإنضاج بالسلق في ماء مغلي، في بخار، بالشي على النار مباشرة، بالقلي في الزيت، بالتجفيف في الشمس.
ويمكن للطاهي الجيد أن يمد مائدة عامرة باستخدام سمكة واحدة أو قطعة لحم صغيرة مع الكثير من الخضراوات. «رأس العصفور» اسم لطيف لأحجام قطع اللحم التي تُمكِّن ربة بيت سورية من استخدام أوقية لحم في طبخة بامية لأسرة.
الاقتصاد في استخدام العناصر مطلب دائم في كل فن، مع ذلك يُستحب في بعض الأحيان وضع لمسات من الزينة قد تبدو غير ضرورية، لكنها تساهم في خلق الانسجام المنشود وتحقيق المتعة والإيهام بأن هذا العالم الخيالي يمكن أن يكون واقعاً: برعم نعناع فوق طبق طحينة، فراش من البقدونس تحت المشويات، رقيقة هلالية من الفاكهة معلقة على حافة كوب عصير. أشياء بلا وظيفة عملية، معظمنا لا يأكلها، لكنها تؤثر بجمالها في مضمون الطبق أو الكأس، وتعزز الثقة بأن ما نتناوله منتج طبيعي طازج.
من المنطقي والحال هكذا أن تقاس مهارة الروائي والطاهي من قدرتهما على التحكم في الشكل، وأن تُقيَّم الروايات ويُكتب لها الخلود انطلاقاً من الشكل الذي يحتضن حكمتها ويساهم في صنع تلك الحكمة، وكذلك تحصل المطاعم على رتبها وتستمر عامرة بالرواد انطلاقاً من حساسية الطاهي تجاه الشكل دون التضحية بجودة المكونات من دون شك.


حسنُ المَطالع
في جلسة صلح عرفية تابعتها صغيراً، أخذ أحد المتخاصمين يحكي وقائع الخلاف مع خصمه، وتشعبت منه الحكاية، حتى أصاب الحاضرين بالضجر؛ فهتف به أحد قضاة الجلسة بنفاد صبر: «فين الراس، امسك الراس»!
يمكن لصاحب الحق أن يخسر قضيته، لأنه لم يمسك برأس الحكاية. ينتمي تعبير «الإمساك بالرأس» إلى خبرة الفلاحين في توليد حيواناتهم. إذا ظهرت الرجلين الخلفيتين للوليد أولاً أو استعرض، فلا بد من دس اليد للوصول إلى الرأس وتعديل وضع الجنين، وإلا تعرضت الأم والوليد لخطر الموت.
الجملة الأولى هي رأس الرواية، وعندما يجدها القارئ يتوقع وليداً موفور الصحة؛ فعادة ما تكون هذه الجملة حاكمة للرواية كلها شكلاً وموضوعاً، تنبئ القارئ عن نوع الصحبة في الرحلة التي قرر أن يبدأها بمحض إرادته. والقارئ لا يحب الكاتب الذي يعاني، بل الذي يلعب، بالأحرى الذي يخفي تعبه، ويظهر أنه يلعب.


في الطبخ، نعرف من الطريقة التي يقف بها الطاهي في مطبخه ويرتب بها طاولته أي وعد ينتظرنا قبل أن يبدأ. وسواء كنا في بيت أو في مطعم، تحدد ابتسامة الطاهي أو الطاهية والحيوية التي يتحرك بها، طاقة الكرم والترحيب التي لديه. الآن، تتجه بعض المطاعم الفاخرة إلى استعراض ترحيبها وكرمها بفتح فضاء مطبخها على صالة الطعام ليتعايش رواد المطعم مع الطهاة، وتتأكد عيونهم من حيويتهم ومستوى ترحيبهم، ويتأكدوا من نظافة المكان الذي ستخرج منه أطباقهم، وتتفتح شهيتهم بالروائح المنعشة التي تصلهم قبل الوجبة. في الوقت نفسه، توسّع الاهتمام بالطبخ في الإعلام؛ فصارت لدينا برامج متعددة، بعضها باهظ الإنتاج، أقرب إلى الأفلام الروائية التي تقدم قصة أو رحلة يجري خلالها الطبخ، وقد صارت مقدمات الطبخة أهم من الطبخة ذاتها.
الروائي يكتب وحيداً، غير مرئي للقارئ، لذلك تقوم الجملة الأولى بمهمة تقديم وعد الصحبة الطيبة. رأس الحكاية في الرواية تشبه مقدمات الطبخ مثلما تشبه رأس الخلاف في جلسة صلح عرفية أو محكمة. تحدد الجملة الأولى درجة الإحماء المناسبة، والعناصر الأولى التي سنلقي بها في الإناء، وتظل طاقتها تسري داخل النص. ليس مطلوباً منها أن تُلخَّص الرواية أو تكشفها، بل أن تفتح الشهية لها. هي الهدية على طرف اللسان التي يهديها لنا حبيب من أول طرحة قلي أو شواء عندما نقترب منه، وهي الهدية الذكية من باعة الحلوى الشوام واليونانيين الذين يجيدون تقديم هدايا التذوق قبل البيع والشراء.


عن الاستباق والإرجاء
بعد أيام من بدء إقامتي في واحد من فنادق النجوم الخمس الباذخة، فقدت شهيتي تماماً. كل ما يخطر على البال من طعام موجود في البوفيه المفتوح في الوجبات الثلاث. وكان عليّ أن أقضي في ذلك المكان عدة أشهر؛ فلجأت إلى بناء سرديتي الخاصة في المطعم: أن أتعامل مع نوع واحد من المقبلات في كل وجبة وطبق واحد رئيسي، وأبادل بين الحلو والفاكهة والقهوة يوماً بعد يوم. لكن كان من المستحيل أن أتحرك مغمض العينين للوصول إلى الصنف الذي قررته؛ فكانت العين تأكل من الأصناف كلها في نظرة واحدة، ما أدى إلى إفشال الخطة والزهد في كل المعروض. وصرت أهرب من كل هذا، وأستقل تاكسي نحو عشرة كيلومترات لبناء سردية أخرى عناصرها الطريق والرواد المختلفون في مطعم شعبي، وطبق فول مع طبق من مخلل الزيتون الأخضر وآخر من شرائح البصل والفلفل الحار، ثم إطفاء كل ذلك بكوب شاي بالنعناع. ويكون عليَّ أن أتدبر حرقة المعدة بقية اليوم مغتبطاً بالشهية الطيبة التي تناولت بها هذا الأذى اللذيذ!

البوفيه المفتوح في الرواية يقتل الشهية، لهذا لا بد للكاتب من الصبر على ما يعرف، وألا يلقيه في وجه القارئ دفعة واحدة

البوفيه المفتوح في الرواية يقتل شهية القارئ، لهذا لا بد للكاتب من الصبر على ما يعرف، وألا يلقيه في وجه القارئ دفعة واحدة. بعض الروايات تدفع بشخصيات متعددة في الصفحة الأولى فتصيب القارئ بالتشوش، وبعضها يلقي بكل ملامح الشخصية دفعة واحدة، والبعض يستعجل الأحداث كأنه يتخلص من عبء، أو يستعجل في تقديم ملامح المكان بإسهاب لا يُبقي شيئًا لفضول القارئ، والبعض على العكس من ذلك، لا يقدِّم الكثير، لكنه لا يعد بتغيير قادم في الوقت ذاته. وعند ذلك سنقارن بين فوضى سردية البوفيه المفتوح وفقر سردية مطعم الفول!

سحر الكتش
الطبخ فن يخترق أجسادنا، لذلك يحتاج الطاهي إلى الكثير من النزاهة لكي يُقدم طبخة غير مؤذية، متوازنة، توقظ العلاقة الحسنة بين الإنسان والحياة من خلال مخاطبتها لحواسه الخمس. فوق كل هذا توقظ الطبخة الأكثر نزاهة الإحساس بالزمان والمكان من خلال الالتزام بالمكون المحلي في موسمه، حيث تكون أعلى درجات الفوح والطعم. ويبدو هذا الهدف الأخير عزيز المنال، بسبب نزوع المستهلكين أكثر فأكثر إلى الرفاهية، وتمسكهم بوجود كل المكونات طوال العام، وقد وفّرتها بيوت الزرع المغطاة وحركة تجارة الخضراوات بين بلاد ذات مناخات مختلفة.
الرواية بدورها تحتاج إلى النزاهة، لأنها فنّ يخترق أرواحنا ويعيد تشكيلها. وأول ما تحتاجه الرواية هو اللهب. يحتاج الكاتب ولو إلى لهب شمعة بداخله لكي يكتب رواية نزيهة توفر وجبة حقيقية تحمل ملامح الزمان والمكان دون الخضوع لمتطلبات النهم لدى كثرة من القراء تريد أن تلتهم دون أن تتذوق.


لسوء الحظ، فإن قلة من الطهاة والكُتَّاب بوسعهم الإفلات من ضغط الجماهيرية الواسعة، وترفض الاستسلام للموضة الرائجة التي ترضي جمهوراً كسولاً وتحقق النجومية والمال.
بنى الطبَّاخ التركي بوراك شهرته على شكل الولائم الكبرى والتصعيد الخيالي للدسم: محشي ورق العنب في جوف خروف، عجل مشوي بكامله، أكبر سمكة في العالم، وأطول إصبع كفتة. يستخدم أواني طبخ بالغة الضخامة، في اتكاء واضح على خيال مطاعم السلاطين وولائم ألف ليلة. التركي الشهير الآخر نصرت غوكشيه لم يتخل عن الضخامة، وأضاف ألعابه البهلوانية بالسكاكين عند تقطيع اللحم، لكنه صار معروفاً عبر العالم بـ «شيف الملح» مؤسساً شهرته على ثيمة صغيرة تخصه، هي رش حصى الملح على الطبق لحظة تقديمه على هيئة مطر من بين أصابع يده المرفوعة، يتساقط منحدراً على ذراعه، وربما تطاير رذاذه على الطاولة والزبون. هذه المزحة تلقى استهجان الممسوسين بالنظافة، وأصبحت محل انتقادات بوصفها سلوكاً غير صحي، لكن من يتقبلونها أكثر عدداً، وإلا ما صار ذلك الطاهي نجماً يرتاد مطعمه نجوم في كل مجال، لا يستطيعون الابتعاد عن حياة الاستعراض حتى في لحظات تناول الطعام، توضع أمام الواحد منهم فخذ عجل، لإشباع نهم تاريخي ربما، أو لاستعراض النعيم، ولنا أن نتصور شكل ما يتبقى على مائدة كتلك!
يقولون بصلة المحب خروف، ولكن بوران ونصرت لا يطبخان لحبيبة أو للأسرة أو لأصدقاء شخصيين، بل لجمهور يقيس سعادته بالكثرة والكم ويتوقع هذه الوفرة الاستعراضية، أو الوفرة العامية. لا بد لأي مطعم كتشي من الالتزام بشرط الوفرة العامية، مع إمكانية التساهل في نوعية المكونات طبقاً لشريحة المستهلكين التي يستهدفها. وكل تخفيض في النوعية يتم تعويضه عبر الإفراط في الارتكاز على أعمدة الغش الثلاثة: المالح والحار والدهني.


قلة من الطهاة والكُتَّاب بوسعهم الإفلات من ضغط الجماهيرية الواسعة، ورفض الاستسلام للموضة الرائجة

بين كُتَّاب الرواية نجوم عالميون يؤلفون الروايات الضخمة المحشوة بألوان الاستعراض الخيالي والمعلوماتي لإشباع نهم تاريخي لدى قرائهم. لا يعترف الكتش الروائي بالنغم الخفيض. تبدو الرواية على نغمة واحدة دون أي تقدير للحظات الضعف الواقعي. كل الأبطال خارقين، كل الأحداث مدهشة، كل الأماكن بالغة الفخامة أو بالغة الخطورة. يندر أن تجد بين شخصيات الرواية شخصية أو مكاناً أو حدثاً عادياً كما في الحياة. ويقبل ملايين القراء بشهية كبيرة على مثل تلك الروايات سميكة الكعب بغراباتها المتدافعة بلا رحمة، ويستقبلون رذاذ الملح على رؤوسهم بسعادة غامرة، سعداء بتقليب الصفحات بسرعة مدهشة؛ لأن المؤلف لم يُخف لهم شيئاً ليفكروا فيه ويتعبوا لاكتشافه بأنفسهم. نجوم الكتش الكبار مهرة، كل شيء يبدو رائعاً لا عيب فيه. البناء جيد لا تنقصه الفخامة، والكتابة عذبة. عندما يسأم القارئ الحسَّاس وصفات من هذا النوع، يبدأ باتهام نفسه: لعلني في مزاج سيء، لعلني أقرأ بانشغال، لكن يظل لديه حدسٌ بافتقاد شيء ما، وقد يحتاج إلى الكثير من الوقت لاكتشاف أن ما ينقص هو الروح؛ غياب اللهب الذي يُحرِّك الكاتب.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى